لمسة .. | أخبار اليوم

لمسة ..

| الأحد 13 مارس 2022

يا سيد .. يا سيد ..
صاح الرجل للملك العائد من ناحية جراسيين ..
يا سيد ..
واخترق صوته هدير الجموع ليصل إلى أذني الملك. فالملك يصله صوت المعذبين والفقراء ومن بهم السبل مقطعة دونما حاجة إلى خادم أو وزير أو ناقل .. الملك يسمع الصوت من خلال حضوره الدائم في البشرية .. الملك لا عرش له ولا قصر ولا حراس .. الملك عرشه الكلمة الحاضرة منذ الأزل، وكل القلوب قصور له، ورجوات المتضرعين حراس لمملكته .. والملك وزيره الحب، ورسوله الوجود، وخادمه لمسة ...

_ يا سيد ..

السيد لم يحتج إلى أكثر من هذا النداء ليلتفت، فإذا بالمنادي جاثم :
_ يا سيد، أنا يئيروس، أتوسل إليك أن تدخل بيتي، لي ابنة وحيدة وهي على مشارف الموت.
السيد بين الجموع المحتشدة أنهض الرجل وسار به، يتبعه موج الناس المتلاطم، الهادر إيمانا وفرجا ورجاء، فالسيد أينما تحرك ماج الناس من حوله يندفعون، يحفون به، يأخذون بعض لمسات من ثوبه وبعض من التفاتة دائمة نحوهم ..

الملك سفينة في بحر بشري متماوج لا يستكين، والجموع أمواج غارقة في لجة الخطيئة تتزاحم حول جوانبه تلمسا للنجاة . يئيروس بجانب الملك مبهورا، فالجمع يتبعه كما لو كان أكبر من ملك، كانت الناس تنادي مهللة.
كان يمشي والجميع يتدافعون ليلمسوه .
فجأة توقف الملك .. توقفت الجموع عن التدافع .. كانت لحظة صمت، وكانت همهمات وحيرة .. سأل الملك : " من لمسنى؟. علت الوجوه حيرة وارتباك، بدا السؤال غريبا، أخذ الجميع ينظر بعضهم إلى بعض شزرا والكل يرمي نظرة اتهام إلى الكل .
قال بطرس المندفع، المتحمس دوما لملاقاة كلمات الملك:
_ يا معلم .. الكل يتحلق حولك ويحف بك، وتسأل من لمسني؟!
نظر الملك إلى بطرس نظرة العاتب المحب وابتسامة تعلو شفتيه معناها " ألم تفهم بعد؟ " . تم قال وهو ينظر إلى الجمع الصامت المربك :
_ إنما قوة خرجت مني، قوة أخذها بحرارة من به حرارة وصوله إلي.
كان يئيروس واقفا وقد استولت عليه الدهشة، يحاول لملمة أفكاره لتفسير ما يجري .
انسلت امرأة من بين الجموع مهرولة، تقدمت من الملك وهي ترتجف، جثت عن قدميه، قالت له يقطع كلماتها البكاء :
_ يا سيدي .. يا سي دي .. أنا .. أنا التي لمستك، اسمعني يا سيدي، أنا امرأة أعاني نزفا منذ أكثر من إثني عشر عاما، وكنت ذات مال وفير، أنفقت كل مالي على الأطباء، ولم ينجح أي طبيب بوقف نزيفي، سمعت أن هناك رجلا اسمه يسوع يشفي المرضى ويجعل العميان يبصرون، والكسحاء يمشون، وسمعت أن يسوع يجول على المدن والقرى، ويقول كلاما يقع كالسحر على سامعيه، فإذا بالناس تتبعه. تصور يا سيدي إثنتا عشر عاما وأنا محرومة من دخول الهيكل بسبب النجاسة، إثنتا عشر عاما لم أجلس في حضور الله، قلت لعل في ما أسمع حقيقة، فلأنتظره، هم قالو أنه يشفي بالمجان . وأنا التي لم يعد لي ما أملك رحت أنتظر، سمعت أنك قادم ناحيتنا فجلست أنتظرك .. لو تعلم يا سيدي، وأنا في غمرة الإنتظار لا أدري كيف راح حزني يغادر نفسي شيئا فشيئا، بل وانتظاري تحول إلى فرح .. أنا أعرف أن الإنتظار يصحبه قلق وترقب، أما أن يتحول فرح؟! . رحت أترقب حضورك بفرح غامر، صرت أخاف أن يأتي الليل .. أن يغلبني النعاس فأنام وتأتي أنت أثناء نومي وتغادر .. يا سيدي كرهت النوم لأنه يوقفني عن انتظارك..
يا مليكي .. من البعيد رأيت غبارا يعلو وجموعا من الناس مبهمة معالم وجوهها مقبلة، كانت الجموع تقترب وكان خط من البياض يقف بنصاعته حائلا بين رجل وبين الغبار، والناس خلف الرجل في هرج ومرج، أخذت الجموع تقترب والوجوه تتوضح معالمها، والرجل أيضا .. وكنت أنت يا سيدي، وكانت الناس تتدافع من خلفك للإقتراب منك. أي نور بهي رأيت على وجهك، وأي انسياب للهفافة وراحة للقلب كان ينهمر من ردائك؟ .. يا سيد .. اخترقت الجموع ورحت أدفع جاهدة للوصول إليك، وهني منعني، بقيت أكابد فدفعني من كان أقوى مني إلى الخلف، وضاع صوتي الضعيف وسط صراخ الحشد .
توقفت المرأة لتمسح دموعها ثم تابعت وهي تشير إلى يئيروس الذي ما زال مسمرا من الدهشة :
_ ولكن يا سيدي حين أوقفك هذا السيد وجدتها فرصة لأن أقترب منك أكثر .. فاقتربت، لو تعلم كيف كنت أرى النور ينهمر من ظهر توبك، قلت بيني وبين نفسي" لأنتهزها فرصة. فبسبب ضعفي قد تدفعني الجموع بعيدة عنك مرة أخرى، لأفوز ولو بلمسة من ردائك" .. ما أن لمستك .. ما أن لمستك حتى أحسست بفيض من الجمال يغزو كياني، وبفيض من الصحة والقوة يجتاح جسمي، وللتو يا سيدي ..للتو اختلجت أحشائي، والساخن المائع توقف حالا .. أنا يا سيدي من لمستك .. أنا من لمستك.
السيد الملك أمسك يد المرأة، أنهضها وقال لها :

_ يا ابنتي إيمانك خلصك .. اذهبي بسلام

جهاد شاهين.

انضم الى قناة " AkhbarAlYawm " على يوتيوب الان، اضغط هنا


المزيد من الأخبار