قدر بـ "لا قضاء"... | أخبار اليوم

قدر بـ "لا قضاء"...

| الخميس 17 مارس 2022

لا متدرّجين... لا حسابات... لا موظفين ولا دعاوى؟

ريتا بولس شهوان- "نداء الوطن"


"الضرر" قدر المواطن حتى في السلك القضائي، وهو إن أراد أن يوفّر أتعاب المحامي، محاولاً تسجيل العقار بنفسه على شاكلة "يأخذ حقه بيديه"، فلن يجد الموظف المعني، بسبب الإضرابات المستمرة لموظفي الدولة. وإن وصل إليه دفع "بقشيشاً"، على قدر تنكة بنزين، ليسرّع له المعاملة. هذه القصة المتداولة بين المواطنين، إن دلّت على شيء، فهو أن القضاء مُكلِف على صاحب الحق، الذي إن اتّبع القانون يدفع ثمن "براءته" مالاً وانتظاراً.

ماذا عن المحامي العالق بين دعوى مؤجلة، ومواطن فقد قدرته الشرائية؟ المسألة أعمق حتى من لقمة عيش "مغمّسة" بالدم، بل هي قياس مسار عمل المحامي بورقة بيضاء وحبر مفقود وطابع يباع في السوق السوداء بالإدارات الرسمية. أحوال هذه المهنة المنسوجة بعوامل خارجية حوّلت المحامي إلى "ذليل" السلك تماماً كالقاضي الذي يتقاضى ما يوازي مئتي دولار راتباً شهرياً. هكذا يخضعان معاً لبيروقراطية الدولة، دون مذكرة إخضاع. هذا بالنسبة إلى محيط عمل المحامي خارج المكتب. أما في المكاتب، فقد دخل معظم المكاتب الكبرى في كسروان والمتن وجبيل، مرحلة ترشيد الإنفاق وتشحيل الموظفين كما سائر القطاعات. من هنا يميل معظم المحامين إلى عدم الاستعانة بمحامين متدرجين جدد، بسبب العجز عن تأمين نفقات عملهم وتغطية ولو جزء صغير من مصاريفهم الشخصية. وهذا ما يبرر تقلّص عدد مكاتب المحامين في نقابتهم بنسبة 20% فإما تدمج المكاتب أو يستحوذها مكتب أكبر منها.

يخبر مدير أحد أكبر مكاتب المتن وجبيل وكسروان، كميل فنيانوس المخضرم في المهنة، أنه على الرغم من هذه الظروف كلّها "لا يمكننا كمكتب كبير، أن نقفل، فنحن لنا اسمنا في السوق وموكّلونا من الشركات" فيروي بألم مصير المبتدئ في المهنة، التي أصبحت الخطوة الأولى فيها شبه مستحيلة، فحتى هو إن أراد أن يذهب إلى المالية يسبقه 200 شخص في الصف، والدوائر العقارية في جونية تفتح مرّة بالأسبوع أسوة بجبيل والمتن. لم تقف "نداء الوطن" عند هذا الحدّ، بل استصرحت أكثر من 50 محامياً لتجد أن هناك أسماء معروفة في المهنة، كالمرشّح السابق عن مقعد النقيب فادي بركات، قد قلّص عدد المحامين إلى 3، ليحدّد الدوام مقلّلاً بذلك فاتورة المولد حتى الساعة 2 من بعد الظهر.

سياسة التقشّف في المكاتب، المرتبطة بتقشّف الدولة، التي دفعت الإدارات كلّها المتأثرة بالسلك القضائي إلى الانتقال من إضراب إلى إضراب، خفّضت بنظر المحامي عبدو غصوب (متن) من قيمة الـ15 مليون ليرة التي يمكن أن يتقاضاها كبدل أتعاب، بحيث لم تعد تكفي بضعة أيام على سعر صرف الليرة اليوم.

الحلقة المفرغة التي يدور بها غصوب كما سائر زملائه، حلّها "بتشريج" المقتدرين من الزبائن بالدولار أو القبول بالتقسيط متحوّلاً بذلك إلى مصدر دخل، متخلياً عن الشيكات التي لم يعد معترفاً بها. يسيّر أموره بمبالغ ترسل إليه كبدل أتعاب لاستشاراته عن بعد إلى خارج لبنان، والتي تذهب أيضاً كثمن برامج لتحديث معلوماته ليواكب تطوّر المهنة.

هذا التطوّر المفقود في سجلّات المحاكم وإدارات الدولة دفع المحامي شربل حكيم (كسروان) إلى الاتكال على مدّ شبكة علاقات مع موظفي هذه الإدارات، لينسّق دوام زيارة الإدارة مع دوامهم بهدف توفير البنزين، الذي إن صرف هباء، يضاف على فاتورة الزبون.

الانفتاح على الأسواق الخارجية ليس الحلّ الوحيد المعتمد بين المحامين، بل أيضاً هناك فرص عمل جديدة ظهرت مع وجود ثغرات في النظام المصرفي لزيادة المدخول، إذ على حدّ توصيف ماريو (جبيل) نوعية الدعاوى تغيّرت مع الأزمة الاقتصادية والجديد بها هي تلك التي تحصل مع المقترض من المصرف، الذي يصرّ على تسديد الدين كاملاً على سعر الصرف الرسمي السابق، كما هناك دعاوى بسبب الودائع.

تضيء المحامية مايا جعارة (متن) على أن "التسلسل المعقّد والمبالغة في التواقيع في إدارات الدولة اللبنانية عزّزا الفساد الإداري وهذا يعيق معه بشكل كبير عمل المحامي ويؤخّر إنجاز المعاملات ما يضطر البعض بغية إنجاز المعاملة إلى اللجوء إلى الأقنية غير المعتادة وغير الفضلى لذلك". يدور روني عبد الكريم (كسروان) بين الإدارات منقّباً عن الموظفين المخنوقين بسبب فشل إدارة الدولة، الذي يدفع الزبون فاتورته، ويبدأ بالمباشِر الذي يبلّغ، والذي كان يرضى سابقاً بـ15 ألف ليرة، أما اليوم فلا يقبل بأقل من تنكة بنزين.

يشعر ريشارد شمعون (متن) بإرهاق لأن الإدارات الحكومية كوزارة المالية، السجل العقاري، أمانة سجل التجار ترتّب على المحامي أعباء خصوصاً مع تكليف معقب معاملات يتقاضى راتبه، والإدارة مقفلة. وينسحب الأمر على محكمة المتن على حدّ توصيفه بسبب عدم استقرار في حضور القضاة و/أو المساعدين القضائيين، الأمر الذي ينتج عنه إما عدم انعقاد الجلسات أو انعقادها بصورة شكلية بمعنى أنه يتمّ تأجيلها إدارياً بحيث يكون علينا في الحالتين إعادة إبلاغ الفرقاء. وهذا الأمر هو الجحيم بحدّ ذاته إجرائياً ومالياً على حدّ تعبيره، ناهيك عن أن التأجيل يطيل أمد المحاكمة وبالتالي يؤخّر صاحب الحق عن الوصول إلى حقه.

تنقلب الأدوار ليصبح المحامي ملاحقاً عبر مراجعات الموكّل المتكرّرة، وتذمّره، إلى درجة أن التذمر قد يصيب المحامي- أحياناً- في مصداقيته، بحيث يظن الموكل أن المحامي ربما يهمل قضيته أو متواطئ مع الخصم؛ ومن ناحية ثانية إن التأجيل يضاعف الجهود والمراجعات التي على المحامي أن يبذلها، الأمر الذي يتمثل في اضطراره إلى تكثيف المراجعات والملاحقات والاهتمام بالتبليغات، وهذا من شأنه أن يبدّد أتعابه المتفق عليها مع موكله، خاصة في الدعاوى العالقة منذ ما قبل الأزمة حيث تكون اتفاقيات الأتعاب منظمة على سعر صرف الدولار الأميركي على معدل الـ١٥٠٠ ليرة، الأمر الذي يضع المحامي أمام استحالة مالية ومادية وفي حيرة مقلقة واقعياً: هل يواصل المدافعة والمرافعة؟ طارحاً سؤالاً جديداً، هل يقبل قضايا جديدة؟ خصوصاً أنه وفق توصيفه لم يؤسّس منذ سنتين ونصف أي شركة جديدة.

مهنة المحاماة لا تتأثر فقط بالأزمة الإقتصاديّة بل بالفساد البنيوي المستشري في مرافق الدولة، والتدخل السياسي وعدم استقلالية عمل السلطة القضائية ومشكلة التعيينات القضائية والتشكيلات التي لم تتمّ حتى الآن على حدّ تذكير المحامي زياد افرام (جبيل). يعاني هذا المحامي النشيط من توقف المصارف عن الدفع والإيداع وفتح الحسابات المصرفية الجديدة باعتبارها أثرت سلباً على إمكانية تأسيس الشركات التجاريّة وعدم التمكن من فتح الحسابات وايداع الرساميل والحصص والإكتتاب بالأسهم.

أمام هذا الواقع ما زال اختصاص المحاماة من أكثر الاختصاصات رواجاً، حتى مع تخلّي المكاتب عن احتمال استقبال متدرّجين، لذا سألت "نداء الوطن" عميد كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية كميل حبيب عن هذا الواقع الذي حمله إلى نقيب المحامين ناضر كسبار الذي أكّد أن مكاتب المحامين ستبقى مفتوحة مع تشديد حبيب على أن هذا المتدرج لا يشكل عبئاً. مردداً أن العمل القضائي مصاب بترهل في لبنان – الذي يعيش في اللادولة - فلا القضايا تبتّ بسرعة مطلوبة ولا يوجد حد أدنى من شروط العمل، ما ينعكس على وضع الطلاب الذين لا يستطيعون أن يتولوا الوظائف كما كان يحصل في وقت سابق على حدّ شرحه عندما كان المتخرج من كلية الحقوق يطمح أن يكون قاضياً، أو أن يذهب الى مجلس الخدمة المدنية، أو السلك الدبلوماسي، أو كتاب العدل وفي هذه الأوضاع وعدم إمكانية التوظيف يفكر الطالب بالخروج من لبنان متحولاً إلى مستشار قضائي في دولة عربية. مع ذلك حاول حبيب أن يخلق مشاريع مشتركة مع الاتحاد الأوروبي عبر إقامة عيادات قانونية في طرابلس ونقلها إلى زحلة وإنشاء دبلوم لحقوق الإنسان. هذا ولاحظ مصدر أكاديمي رفيع المستوى أن الأزمة الحالية انعكست على اختصاصات الطلاب في الحقوق في مرحلة الماستر ٢ حيث تتجه الغالبية إلى القانون الخاص واختيار رسائل التخرج في القانون المصرفي، التحكيم، الشركات، وقانون المعلوماتية فيتمّ الابتعاد عن المواضيع التقليدية. أمام درب الجلجلة القانونية، هل يلجأ المواطن إلى يديه ليأخذ حقه، بدل القضاء؟

انضم الى قناة " AkhbarAlYawm " على يوتيوب الان، اضغط هنا


المزيد من الأخبار