أعداد المهاجرين تزداد والقطاعات المهنية تفقد كوادرها | أخبار اليوم

أعداد المهاجرين تزداد والقطاعات المهنية تفقد كوادرها

| الثلاثاء 08 نوفمبر 2022

"تعجبون من سفرنا... بقاؤنا هو العجب"!


 "النهار"- سلوى بعلبكي

تتيح لنا مهنة المتاعب التواصل يومياً مع مسؤولي الشركات والمؤسسات العاملة في لبنان، مستشاري الإعلام والتسويق. معظم من نتواصل معهم من الأجيال الشابة، أو دون الخمسين، متعلمون، مثقفون، يتقنون لغات عدّة، مشحونون بالطموح والإقبال على الابتكار والإبداع، ممسكون بذكاء واحتراف بملفاتهم، جدّيون جداً متى اقتضت المسؤولية ذلك.

بعد انهيار الاقتصاد، ومعه الأمل ببناء دولة تليق بالإنسان والحياة الكريمة، بدا كأني فقدت غالبية هؤلاء، وبات سؤالي البديهي في بداية كل اتصال أجريه مع أحدهم لزوم العمل "ألا تزال في لبنان؟". طرح السؤال بهذا الشكل، كان هروباً من صدمة تكرّرت، أو تفادياً لتكرار تلقي إجابة ممزوجة بالمرارة "للأسف فليت"..، فيما كان لافتاً ردّ أحدهم على سؤالي ببيت شعر تصرّف بمبناه الأصلي لضرورات الإجابة على عجبي لسفره: "تعجبين من سفري، بقائي هو العجب".

من بقي من الشباب هنا، بقي إما لعجز عن تأمين فيزا، أو هو قيد السفر. الجميع وضبوا حقائبهم وقلوبهم، ويمّموا وجوههم شطر أي بلاد تحتضن طموحاتهم، وتعتني بإبداعاتهم وذكائهم. شرق، غرب، دول خليج، أقصى الأرض أو أدناها، لا همّ. الملاذ الآمن، الاستقرار المالي والوظيفي، الضمان الصحّي والتربوي، الاطمئنان على جنى أعمارهم، ومستقبل عائلاتهم، هو ملاذهم ومبتغاهم، و"الوطن بينطر، بس أعمارنا وأعمار ولادنا ما بتنطر".

صحيح أن سمة الهجرة والسفر ملازمة للبنانيين، لكن هجرة اليوم مختلفة. تفريغ كوادر بالجملة، أطباء، مهندسون، محامون، حملة شهادات عليا، مبدعون، أساتذة جامعات، وصولاً الى فنانين ومثقفين، وصناع حضارة، وضّبوا أحلامهم وارتحلوا الى أرض فرص أخرى. بيد أن أسوأ ما في هذه الهجرات أن عائلات بكاملها تُقتلع من جذورها وتُرمى في بقاع الأرض، وبعضها يبيع ملكياته وينهي أي روابط مع البلد. فما عاد أحد يريد أن يمنح أكباده فرصة إضاعة الوقت، وجنى العمر، في بلد أذله مرات عدة، وسرقه مسؤولوه.

يخسر اقتصاد لبنان، وتربح اقتصادات دول أخرى، يربح الغرب والشرق طاقات علمية وفكرية، لو وجد من يحتضن قدراتها وإقدامها، مستثمراً بحيويتها وتطلعها لبناء مستقبل يعد بالكثير من التقدم والازدهار والنموّ، لو وجد للأسف دولة تعي أن الاستثمار بالشباب هو أكثر الاستثمارات ربحاً واستدامة، لكان لبنان اليوم بالرغم من تعقيدات وضعه الجيوسياسي، وطناً يعبق بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ويضج بحيوية ودينامية أجياله الشابة التي فقدت مرغمة الثقة والأمل بوطن طالما حملوه حلماً وحبّاً، فحملوا أحلامهم وارتحلوا.

الهجرة بالأرقام... والقطاعات؟
كتب رئيس "الدولية للمعلومات" جواد عدرا على حسابه عبر "تويتر" أن عدد الذين غادروا لبنان من عام 1992 إلى عام 2018 نحو 600 ألف مواطن ومواطنة. وقد نصل، بعد احتساب الأعداد من 2019 إلى نهاية 2022، إلى نحو 875 ألفاً. أما عدد المهاجرين‏ والمغادرين منذ بداية عام 2022 حتى منتصف شهر تشرين الأول فبلغ 42.200 مقارنة بـ65،172 خلال الفترة عينها من العام الماضي. هذا يعني أن نحو 107.372 مواطنة ومواطناً غادروا لبنان في أقل من عامين، وقد يصل أو يتجاوز عددهم 130 ألفاً حتى كانون الأول 2022. وختم تغريدته بالقول "إن الحكومات المتعاقبة لم تعمل، أو لم تتمكن من الحد من الهجرة، بل لعلها شجّعتها عملياً بسياساتها المتبعة".

ولكن هذه الارقام غير مستغربة في ظل انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع الأسعار، وتالياً ارتفاع كلفة المعيشة، وذلك استناداً الى الدراسة التي أجرتها "الدولية للمعلومات" حول الكلفة الأدنى لمعيشة أسرة لبنانية مؤلفة من 4 أفراد مع الأخذ في الاعتبار الفروقات بين السكن في القرية أو المدينة، وبين التملك والاستئجار. وخلصت إلى أن كلفة المعيشة تراوح بين 20 و26 مليون ليرة شهرياً بالحد الأدنى، وبمتوسط 23 مليون ليرة شهرياً.

الى ذلك، أظهر تقرير للبنك الدولي عام 2020 أن لبنان احتل المرتبة الـ113 بين 144 دولة نسبة الى ظاهرة هجرة الأدمغة، وأن 53% من المهاجرين أطباء ومهندسون وأصحاب مهارات، و44% هم من الجامعيين.

وإن كانت أعداد الاطباء الذين هاجروا أصبحت معروفة، إذ قدّرها نقيب الأطباء البروفسور يوسف بخاش في حديث سابق لـ"النهار" بين 3000 الى 3500 طبيب هاجروا منذ تشرين 2019، تغيب الارقام الرسمية للمهندسين الذي قرروا مغادرة لبنان للعمل في الخارج. فمصادر نقابة المهندسين تقول إن عدداً كبيراً من المهندسين يتوق لمغادرة لبنان، أما من سمحت له الفرصة بالمغادرة فلا يبلّغ النقابة، أو يطلب تغيير بيانه المهني، لأسباب تتعلق بالرسوم التي سيدفعها والتي تختلف قيمتها عن الرسوم التي يدفعها المهندس داخل لبنان. ولكن أرقام نقابة المهندسين التي صدرت في عام 2021 تشير إلى أن متوسط عدد المهندسين الذين يودّون الحصول على إفادات تخوّلهم العمل في الخارج ارتفع ليراوح ما بين خمسة وستة مهندسين يومياً.

هجرة القطاع العام أيضاً!
لا تقتصر الهجرة على موظفي القطاع الخاص والقطاعات المهنية، بل تشمل أيضاً القطاع العام والإدارات الرسمية، إذ تتحدث المعلومات عن19 ألف وظيفة شاغرة في القطاع العام من أصل 27 ألف وظيفة، وهو أمر ليس مستغرباً في ظل رواتب باتت تساوي ما نسبته 4.5% من قيمتها قبل عام 2019. وتؤكد أرقام مجلس الخدمة المدنية أن نحو 1100 موظف تركوا الخدمة في القطاع العام خلال العامين الماضيين فقط، عدا عن الموظفين الذين تركوا وظائفهم من دون الإبلاغ رسمياً أو عبر طلب "إجازة من دون راتب"، وأعداد هؤلاء لا يمكن تحديدها لعدم إرسال إداراتهم معلومات كهذه إلى مجلس الخدمة، وتالياً يمكن أن يكون العدد أكثر بكثير من الرقم الرسمي.

أثر الهجرة على الاقتصاد المحلي؟
تاريخياً يطمح اللبناني إلى المغامرة والسفر خارجاً بحثاً عن فرص حياتية أفضل وطمعاً في تكوين ثروة مالية يتمتع من خلالها بنمط من حياة الرفاهية والكماليات. ولكن الموجة الثالثة من الهجرة حالياً تكتسب بعداً خطيراً على أهم مكوّن من مكونات الثروة الوطنية وهو رأس المال البشري. فخطورة الهجرة اليوم وفق ما يقول مدير مركز إشراق للدراسات الدكتور أيمن عمر هي "هروب وهجرة الانتماء والولاء لمكان ليس بدولة ولا وطن، وهي ليست هجرة بحث عن فرص وبدائل، وبذلك تداعياتها السلبية تكون أكبر بكثير من منافعها. صحيح أن المغتربين اللبنانيين حتى خلال الحرب الأهلية كانوا من أهم مصادر الدخل لأهاليهم وأقاربهم، وتجلّى ذلك بوضوح من خلال الأزمة الحالية وما لعبته تحويلات المهاجرين في توفير جزء من مقوّمات الصمود وتلبية الحد الأدنى من متطلبات المعيشة. ولكن الهجرة اليوم تسهم بتفريغ البلد من أبنائه من مختلف الفئات والأعمار، فهي لم تعد هجرة عمالة وأدمغة بل هجرة عائلات بأكملها".


وإن كانت الهجرة ستسهم بخفض معدّلات البطالة، فإن عمر يؤكد أن هذا الانخفاض "ليس بسبب زيادة الاستثمارات وتوفر فرص عمل، بل بسبب انخفاض القوى العاملة والناشطة اقتصادياً، ما يعني فقدان الاقتصاد لميزته التنافسية". ووفق ما يقول فإن "الهجرة تسهم بمزيد من التدفقات الخارجية من الدولار وازدياد عرض الدولار وزيادة احتياطي مصرف لبنان من الدولارات ولكن على أن تتم عبر الجهاز المصرفي الذي يحتاج إلى إعادة ترميم الثقة. هذه الدولارات ستسجّل في ميزان المدفوعات ولكن في جهة الاستيراد أي في الجانب السلبي لا الإيجابي. صحيح أن هذه الدولارات ستحصّن الأسر، و"لكنها دولارات استهلاكية وتأتي من خارج الدورة الاقتصادية وناتجها المحلي أي دولارات وهمية ليست متولدة من الفعاليات الاقتصادية المحلية. وهي ليس دولارات استثمارية على شكل مشاريع واستثمارات لأن الثقة انعدمت في النظام السياسي ونموذجه الاقتصادي الميت".

ويرى أن "التحويلات من الخارج ستزيد أكثر وأكثر من التبعية للخارج، ليبقى اقتصادنا رهينة الصراعات السياسية، وسيكون هذا الدولار هو أداة الصراع والخنق الاقتصادي".

والاهم برأي عمر أن "الهجرة ستسهم في سطوع نجم العديد من المبدعين في المجالات كافة وحصولهم على أوسمة وتقدير ومراكز ووظائف في أهم الشركات والمنظمات العالمية، ولكن يعني هذا أننا فقدنا كل مقومات التطور والتقدم وخصوصاً في أهم قطاعين من القطاعات الاقتصادية وهما الصحة والتعليم إذ يجري تفريغهما من كوادرهما البشرية، وسننزلق دون شك إلى مراتب متدنّية في تصنيفات مؤشرات التنمية البشرية والتنمية المستدامة".

معظم الشعب يجنح نحو الهجرة ليس لأنه "مش عاجبو" الوضع الاقتصادي والاجتماعي فحسب "بل لأنه كفر بطواغيت الطبقة الحاكمة الفاسدة وأصنامها وأزلامها، وفقد الأمل في كل شي في بلده، لذلك يبحث عن الامل خارجاً ولو كان ذلك عبر قوارب الموت"، يختم عمر.

انضم الى قناة " AkhbarAlYawm " على يوتيوب الان، اضغط هنا


المزيد من الأخبار