من هو الفاسد والمُرتكِب والسارق في البلد؟
أنطون الفتى - وكالة "أخبار اليوم"
بمعزل عن النّوايا الحقيقية، وعن تعدُّد المصالح والأهداف السياسية التي تقف خلف من يعرضون بعض الأرقام، أو الوقائع، أو المعلومات... حول سرقات، أو فساد، أو أموال منهوبة، أو أخرى محوَّلَة الى الخارج... وبغضّ النّظر عن استثمار كل الأحزاب والتيارات السياسية في لبنان، بهذا النّوع من الملفات، لتحشيد قواعدها الشعبيّة "المغشوشة" (باختيار ذاتي)، واللاهثة خلف الزعماء...، (بمعزل عن كل هذا) فإن أبرز ما يلفت الانتباه في هذا الإطار، هو كميّة الدّعاوى القضائية المُتبادَلَة بين المتَّهَمين والمتّهِمين، في كل مرّة يتمّ فيها الإعلان عن أي معلومة في هذا الإطار.
غمسوا أيديهم
والعَجَب في ذلك، ينطلق من واقع أساسي، وهو أن كل الأطراف السياسية في لبنان مُتَّفِقَة على وجود فساد في البلد، وعلى تحديده بالعقود الثلاثة الأخيرة، وذلك رغم معرفة الجميع بأنه سابق لتلك المدّة الزمنيّة بكثير.
ولكن إذا كانوا كلّهم يعترفون بفساد حقبة التسعينيات، وما بعدها، فإن ذلك يشكّل "قاعدة انطلاق" مهمّة لكلّ السياسيّين اللبنانيين، للتلاقي على أن هناك فساداً كثيراً في البلد، وعلى وجوب محاكمته، ومحاسبة كل من غمس يده فيه. هذا طبعاً، بالتوازي مع إدراك الجميع، أن "غامسي" أيديهم بالسرقات، والفساد، وبجرائم العقود الأخيرة، الأخلاقيّة والضميريّة، هم معظم من حكم لبنان خلال كل تلك الفترة، حتى لا نقول كلّهم، وكلّ فئة منهم على قدر استطاعتها، وبحسب الإمكانات التي كانت مُتاحة لها لممارسة الفساد.
عفّة وتعفُّف
ولكن العجب، كلّ العجب، هو من كمّ الدّعاوى القضائية التي تُفتَح، والتي يُعلَن عنها، ومن بيانات العفّة والتعفّف والشرف، وممارسة الاستشهاد المُتفاني لصالح الوطن، والشعب، والتاريخ، والجغرافيا... وصولاً الى نبش القبور، والعودة الى القرون الماضية، واستعراض إنجازات العائلة، والطائفة، وربما "دجاجات بيت الجبل"... في كلّ مرّة نستمع فيها الى التداوُل بإسم أحدهم، أو إحداهنّ، في ملفات الفساد، والسرقات، وتحقيق الأرباح الطائلة، في عزّ أزمة اقتصادية ومالية تقضي على من تبقّى من ضعفاء البلد.
أبرياء؟
وهنا نقول، إذا كان الجميع أبرياء، فمن يكون الفاسد، والمُرتكِب، والسارق في لبنان، في تلك الحالة؟
وإذا كانت اتّهامات من تبقّى من فريق "14 آذار" (مثلاً) لمن تبقّى من فريق "8 آذار" (مثلاً) بالفساد (والعكس صحيح أيضاً)، باطلة، وسياسية لا أساس لها من الصحة، ومُعبِّرَة عن "اغتيال سياسي" لا أكثر، فمن يكون الفاسد، والسارق، وذاك الذي يتوجّب عليه إعادة بعض أمواله ربما الى البلد، لأن بعضاً منها على الأقلّ (حتى لا نقول نسبة أكبر) مسروقة من الدولة، أي من حقوق الشّعب؟
من؟
يذكّرنا دفاع البعض عن نفسه بالقضاء، وعبر البيانات، والمكاتب الإعلامية... بطلاب المدارس، وأهاليهم.
فقد درجت العادة في بلادنا، وعند سؤال أي لبناني أو لبنانية عن أولادهم، أن نسمع التالي، وهو "يقبرني" أو "تقبرني"، "الأُوَل بِصَفُّون". وهذا الجواب قد نسمعه من أهالي الطلاب كافّة، في صفّ كامل. وهو ما يطرح السؤال التالي: من يكون الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثّامن في الصفّ...، طالما أن كلّ الطلاب يحتلّون المرتبة الأولى؟ ومن يكون الأخير، طالما أن المرتبة الأولى هي دائماً من نصيب الجميع (بحسب مشيئة أهلهم)؟ ومن هو المسؤول عن تسخيف الحياة، عبر حَصْرها بالمرتبة الأولى دائماً؟
"حَسْكة"
الأمر نفسه يمكن إسقاطه بعض الشيء، وبشبه معيّن، على ملفات الفساد، والسرقات، والشّبهات المالية في لبنان.
فإذا كانت كل الأحزاب، والتيارات، والشخصيات، والعائلات، و"البيوتات"... السياسية، ومنظوماتها، ومنظومات منظوماتها في الميادين كافّة، "نظيفة"، ولا غبار عليها، ومُستحقَّة أن تتّهم غيرها، فمن يكون الفاسد في البلد؟
ومن هو ذاك الذي "شَفَطَ" مليارات "باريس 1"، و2، و3، وترك لبنان "حَسْكة" تلطمها الأمواج، الى درجة أن لا مجال لدخول مساعدة إنسانية واحدة إليه، رغم حاجة أفقر الفئات فيه لها؟
طيور
ومن هو ذاك الذي أفرغ البلد من الأموال، وأضاع تَعَب الناس، وتسبّب بإنشاء السوق السوداء، ووضع الشعب اللبناني تحت نيرها، بدءاً من خريف عام 2019؟
إذا كُنتُم كلّكم أبرياء من الفساد، ومن أي تهمة، اكشفوا لنا على الأقلّ، من هو المسؤول عن هذا النّوع الشديد من الفقر، الذي نراه في بلادنا؟
نريد أن نعرف الجواب، ومهما كان، بما أنّكم كلّكم أبرياء. ونحن مستعدّون لتقبُّل الحقيقة، حتى ولو كانت أن الطيور المُهاجِرَة، التي تمرّ بلبنان في الفصول الانتقالية، حملت مليارات البلد معها على مدى سنوات، ونقلتها الى مكان آخر. فلا عليكم، سنتقبّل أي جواب، ولكن المهمّ هو أن نحصل عليه.