بو عاصي: بين الحريّة والحربة نقطة إرتكاز | أخبار اليوم

بو عاصي: بين الحريّة والحربة نقطة إرتكاز

| السبت 27 أبريل 2024

 بو عاصي: بين الحريّة والحربة نقطة إرتكاز
ليست القوانين من تحمي الحريّة انما هي التي تُلهِمُ القوانين وتعطيها الروح 


تحت عنوان "بين الحريّة والحربة نقطة إرتكاز" كتب النائب بيار بو عاصي في "النهار"، الاتي:

تكاد تكون الحريّة اقوى المفاهيم التي شغلت الانسان والانسانية عبر التاريخ. تخطّت الحريّة الحياة أهمية لتضحي القيمة الكبرى التي لا معنى للحياة من دونها. لم ولن يتوقف الجدال حول فرضيّات كمثل "الحريّة تُنتج الحياة الجديرة بهذا الاسم" أو "تقديس الحياة هو مصدر كل حريّة". من المستبعد أن نصل يوماً الى اجابة قاطعة تحسم هذا السجال لأنّه بالاساس لا يحمل في طياته صيغة السؤال بل دعوة الى الاختيار. إنه استعراض لاحتمالات، لا خطأ ولا صواب فيها وإنما خيار يتخذه الفرد وتكرّسه الجماعة إحتراماً او انصياعاً له. الحريّة في جوهرها متشعبة، متحرّكة ومتعدّدة الابعاد، لذا من المستحيل تفسيرها سلباً أو ايجاباً في شكل قاطع.

في ميثولوجيا اهل الكتب، المعروفين خطأً بأهل الكتاب، يحكي سفر التكوين عن حريّة الانسان شبه المطلقة في جنة عدن. "شبه المطلقة"، لأن كل ما في جنّة الفردوس معدّ لسعادة آدم وحواء إلا أكلَ ثمرة شجرة التمييز ما بين الخير والشرّ. لم يُعاقَب آدم وحواء لخرقهما تعاليم خالِقهما بل لانهما خرقا نهيَه مصمِّمَين على معرفة الخير من الشرّ. قد يكون في طيات هذه الخطوة الملعونة عبر الاجيال ركيزة من ركائز مفهوم الحرّية الحيوي لدى الإنسان. أراد الإنسان الحريّة حتى ولو كان ثمنها استجرار الغضب الالهي. فالحريّة تحمل منذ البدء في طياتها تحدّي التحرّر. كيف للانسان ان يكون فعلاً حرّاً من دون ادراك الشر فيحاربه ومن دون معرفة الخير ليلتزم به ويدافع عنه… إختار الانسان هذا المسلك ووضع التحرّر في أولى أولوياته حتى ولو كلفه الموت وخسارة الجنّة.

ولكن، ماذا لو كان فَهمُنا أسطورة آدم وحواء ومغازيها مغلوطاً منذ البدء؟
هل عاقب الله آدم وحوّاء لأنهما لم يلتزما بنَهيه، أم انه أهداهما الارض ليستملكاها وذريّتهما مكافأة لهما على الجرأة في الإصرار على تمييز الخير من الشر؟

بحسب اللغة اللاتينية كلمة تضحية "sacrifice" تنبع من كلمتي « Sacrum. Facere» وتعني القيام بعمل مقدّس. هل في اصرار آدم وحوّاء على تمييز الخير من الشرّ تجديفٌ ام تضحية مقدّسة من قبلهما سعياً الى الحريّة؟ ما قيمة هذه الحريّة؟ وكيف يمكن وزنها وبأي ميزان؟
لم ولن توجد ابداً وِحدة موحَّدة لقياس الحريّة لأن وحدات القياس على تنوعها تحمل في طياتها محدودية ما تقوم بوزنه، فيما الحريّة هي القيمة الأسمى، ميزانها الكمال في ذاتها وأفقها لامتناه. الحريّة كالهواء، تُقاس بميزان غيابها لا بميزان وجودها. نعتاد الهواء فنغفل وجوده ونختنق ان هو انقطع وهذا يصح في قياس هواء الحرية.

تحتقر الحريّة المقاربات الممجوجة المعلبة التي تتناول جوهرها فتصرّ على غناها وتنتفض ان حاول أحد إفراغها من قيمتها وجوهرها وقدسيّتها.

حذارِ الأدبيّات المسطّحة الجاهلة، المجهِّلة، العقيمة. "حريّتك تنتهي عند حدود حريّة الغير". "الحرية أغلى من الحياة وانتصارها انتصار للحياة على الموت". "الحريّة مساحة خيارات الفرد وسلوكياته ضمن إطار القوانين التي ارتضتها الجماعة لنفسها". "الحريّة المسؤولة"… كل هذه التعريفات جميلة، تزخرف الإشكاليات الجوهريّة لكنها لا تعني شيئاً البتّة. قُتل او "استشهد" الملايين عبر التاريخ للوصول إلى الحريّة الفردية والجماعية معتقدين خطأً بأن الديمقراطية هي السبيل الحصري لذلك. حكمُ الشعب من الشعب وللشعب. ماذا حصل بعدها؟ تقريباً لا شيء. غالباً لا شيء على الإطلاق. ها هي مجتمعات تدير ظهرها للحريّة التي ناضلت للحصول عليها فتستقيل من الحياة العامّة غير آبهة بتضحيات الذين افنوا حياتهم كي تكون لهم الحريّة.
هل ذهبت تضحيات الملايين الذين ماتوا في سبيل الحرية سدى؟ في الغالب نعم، مع تفادي التعميم الاعمى. كثيرة هي الشعوب التي اعتقدت أن نظام حكم كالديموقراطية والحوكمة الرشيدة ودولة القانون هو الضمانة الحصريّة وحينما تصل الجماعة اليها تكون قد أدّت قسطها للعلى فتتربّع خمولة غير مبالية فوق ما اعتبرته مخطئة انه عرش الحريّة الخالدة. ألم يتأرجح الإغريق والرومان بين الأنظمة الإمبراطورية والديكتاتورية والجمهورية ذهاباً وإياباً؟ بالطبع بلى وليس هذا سوى مثل ضمن امثلةٍ كثيرة على انهيار الديمقراطيات والحريّات على حين غفلة.

وُلد يوليوس قيصر في رحاب الجمهوريّة في روما ليجعل منها ديكتاتوريّة فتمّ قتله عام ٤٤ قبل المسيح مخافة ان تتحوّل روما من جمهوريّة إلى امبراطوريّة. نشبت على اثر ذلك حربٌ اهليّة. انتحر بروتوس وكاسيوس قاتلا القيصر قبل القبض عليهما. تمّت مبايعة أوغسطس قيصر امبراطوراً على روما التي لم ترَ الديمقراطية منذ ذلك الحين وحتى انهيارها. ماذا اذاً عن مفهوم الالتزام الفردي والجماعي؟ هل الالتزام انعزال على هامش الحريّة؟ ماذا يبقى من الالتزام ان كنا أحراراً؟ ماذا يبقى من الحريّة ان قيدناها بقيود الالتزام؟ أسئلة مبررة تشرع الأبواب أمام فهم التناقضات الملازمة لأعقد المفاهيم. الحريّة هي حريّة الالتزام طوعاً بها ما يحوِّلها من حريّة نظرية مطلق الى حريّة واقعيّة قادرة على الانتاج وإعادة إنجاب ذاتها، فنتقمصها وتتقمصنا.

Quieta non movere
عبارةٌ لاتينيّة ذات بعد سياسي تعني "لا تعبث بالإستقرار".
بحسب سيغموند فرويد، سيّما في كتابه الطوطم والحرام
‏« Totem et Tabou »
لا تستطيع جماعة ايجاد قيمها المشتركة وبالتالي تحقيق الاستقرار عبرها من دون تعريف الطوطم والحرام.

ينطبق هذا الأمر على الجماعات البدائية كما على المجتمعات ما بعد الصناعيّة الحديثة: لا مجتمعَ انسانياً من خارج هوامش الطوطم والحرام. في كتابه اللفياثان، يتناول الفيلسوف السياسي توماس هوبز وبإسهاب العلاقة الجدليّة بين الفرد والجماعة. بحسب هوبز يتطلّع الفرد تلقائيّاً إلى الحريّة المطلقة والتحرّر من قيد الجماعة لكنه وفي مسيرته نحو حريّته المطلقة يصطدم بفرد آخر، بأفراد، بجماعات، ترنو إلى نفس الاهدف. أوّل الحواجز هو انتماء الفرد إلى الجماعة كإطار جامع وحيويّ ضامن لوجوده واستمراره. الإنسان في جوهره وتعريفه كائن اجتماعي، فكيف له العيش بحريّة فرديّة منعزلة مطلقة. أمّا الحاجز المرتفع الاخر فهو سعي باقي أفراد الجماعة كل على حدة أو جماعيّاً إلى الحريّة المطلقة ذاتها. ها هو باب جهنّم مفتوح على حلبة الحياة والموت في "حرب الكل ضد الكل".

ما الذي ينقذ الفرد والجماعة من تداعيات التمزّق ضمن البيئة الواحدة سعياً الى الحريّة؟ هل الحريّة مصدر حياة وارتقاء ام هي مصدر صراع وتمزق وموت؟

ها هم هوبز وَلوك وروسّو وفولتير وكل من عُرفوا بفلاسفة التنوّر في أوروبا في القرن الثامن عشر، يقدّمون الحلّ تحت عنوان "العقد الاجتماعي" الذي يتخلّى بنتيجته كل فرد، طوعاً، عن جزءٍ من حريته تعزيزا لاستقرار الجماعة التي يعود لها بعدئذٍ حصريّة ادارة جوانب عدة من الحياة العامة وعلى رأسها السياسات العليا كما الامن والعدالة وضمان حريّة الفرد. لكنّ هذا المفهوم، هذه المعادلة، تبقى ذات ديناميكية متحركة ويجب اعادة النظر فيها دوريّاً لتقييم صلاحية عناصرها، المنشود منها والمحقق والمستجد. في مسار التأقلم والتطوّر يكون المجتمع الحيّ متحرّكاً بحسب متطلبات المرحلة. ما من مفهوم جامد متحجر قادر أن يكون نقطة ارتكاز اساسية او وحيدة في عالم متبدل.

ما بين الحريّة والحَربة نقطة ارتكاز

لُغوياً، ما بين الحريّة والحربة نقطة. فما السبيل كي تكون بينهما نقطة ارتكاز؟
لطالما إدّعت الحربة كاذبةً انها تحمل في نصلِها الحريّة للشعوب. لا تحمل حراب الغزاة المشحوذة سوى الدمار والذلّ والموت مهما لبست لبوس الحريّة والخلاص. لم ولن تكون الحراب يوماً أداةً لنشر الحريّة ولكنّها تلعب دورها في ارتقاء مفهوم الحريّات حينما تكون الحربة أداةً في يد الحريّة فتحميها وتدافع عنها. الحريّة في يد الحربة عبوديّة والحربة في يد الحريّة خلاص. تهوى الحريّة تدجين الحربة وغالباً ما يحصل عكس ذلك فيستمرّ الصراع.
ما من قيمة للحريّة إن لم تحمل في طياتها احترام الآخر في معتقده وثقافته وخياراته.

الحريّة والتحرر

لا ينحصر مفهوم الحريّة في ارادة مواجهة تهديد خارجي او نزعة داخلية للقمع، بل إنها تحمل في جوهرها ارادة تحرر الذات من الموروثات المغلوطة المكبِّلة ومساحة الخضوع للمحرّمات الجماعيّة من دون فهم او تقييم. ما من مفهوم لصيق بالحريّة مثل الشجاعة لأنّ الحرية تؤخذ ولا تُعطى ويكمن سرّ استمرارها في ارادة تطويرها والدفاع عنها جماعة وأفراداً مهما ارتفع الثمن. انه صراع يوميّ حيويّ وله الاولويّة على كل ما عداه. ان سلّمت حريّتك بفعل جبن او تواطؤ او بحثاً عن مكاسب، مهما كانت التبريرات، تكون قد سلّمت كل شيء. يقول الأديب والفيلسوف جان جاك روسو: من يسلبك حريّتك قد خطا الخطوة الاولى ليسلبك كل شيء، حتى حياتك. وفي اللغة العربيّة نقول "حَرَبَه حَرَباً" أي سَلبَه جميعَ ما يملك. لا حريّة من دون شجاعة ولا شجاعة من دون إرادة. لُغوياً، يقال عن الذهب انه حرٌّ حين يكون خالصاً لا شائبة فيه. تتخطّى الحريّة القوانين والدساتير لأنّها قيمة مطلقة طبيعيّة في حدّ ذاتها. تحيا الحريّة وتنمو في مساحة تشكل صدى لسكوت الأنظمة والقوانين الآمرة بالمعروف منها كما الناهية عن المنكر… ليست القوانين من تحمي الحريّة انما الحريّة هي التي تُلهِمُ القوانين وتعطيها الروح والجوهر والقيمة.

تكون سبيكة الحريّة نقيّة نفيسة أو لا تكون.

انضم الى قناة " AkhbarAlYawm " على يوتيوب الان، اضغط هنا


المزيد من الأخبار