لقد حان الوقت ونضج الوجع كثيرا
منال شعيا - "النهار"
17 تشرين الأول 2019: تاريخ أدخل لبنان في حقبة جديدة. هي ثورة، انتفاضة، حراك، او هي هبّة شعبية. كلها تعابير تصلح لمفهوم واحد: "الشعب انتفض".
وليست قيادة هذا الشعب وثورته بالامر السهل. وليس غياب القيادة عن هذا الحراك هو بمثابة جلد له او انتقاد.
اكثر من مجموعة ثائرة تفنّد لـ"النهار" صعوبات قيادة الثورة، او بالأحرى مسار ولادة جبهات تنسيق.
هي "صعوبة طبيعية" يعترف العميد الركن المتقاعد جورج نادر بها. هو الاتي من "حراك العسكريين" يقول لـ"النهار": "الناس هي التي عملت الثورة وكانت هي نفسها ترفض أي قيادة لهذا التحرك. ربما اليوم، اختلف الموضوع. عادة، من الصعب توحيد حزب واختيار قيادة له، فكيف بالحري بثورة واسعة".
لم تأت ثورة 17 تشرين من عبث. ولم تتجسد كحراك شعبي منظم، بل كانت انتفاضات عفوية على امتداد ساحات الوطن ومناطقه: جبلا، جنوبا، وشمالا.
يقول المحامي واصف الحركة، وهو الذي يتحرّك على اكثر من صعيد داخل الثورة، وهو الذي ينشط فعليا ضمن ما يعرف بـ"المرصد الشعبي لمكافحة الفساد": "لا نريد ان نفكر بصورة نمطية من فوق الى تحت، أي ان تكون للثورة قيادة وما شابه، على قياس أحزاب السلطة. في الأساس ان القيادات الحقيقية لها ظروفها العادية ضمن مجتمع عادي وانظومة ديموقراطية تكون تتمتع بتراث ديموقراطي طويل وبديناميكية مجتمعية تفرز هذه القيادات. نحن في لبنان، اختبرنا ثورة شعبية منذ ما يقارب العام ولم تأت ضمن اطار تنظيم معين. من هنا، نحتاج الى وقت كي تظهر الناس التي يمكن ان تملك مواصفات قيادة هذه الثورة، واعتقد ان الساحات بدأت تفرز من هي هذه الناس. الأهم، ان تتمتع بالصدقية، بالوضوح في الرؤية، بالشفافية، وربما الان بدأنا نتلّمس من هي هذه القيادات".
ثالث محاولة
هذه الصعوبة ليست بنهائية. على عكس ما يتصوّر البعض، اذ خلال اقل من عام، كانت هناك محاولات ثلاث من اجل قيام نوع من تنسيق مشترك او شبه قيادة موحدة لمجموعات الثورة، عبر محطات ثلاث.
المحطة الأولى كانت مع تكليف الرئيس حسان دياب في بداية كانون الثاني 2020. المحطة الثانية أتت بعيد انفجار 4 آب، والثالثة تبلورت في الشهرين الأخيرين.
يكشف مارك ضو من مجموعة "تقدّم" ان "محاولات كثيرة جرت من اجل جمع شمل الثورة من اليمين الى اليسار، بهدف الانتقال من التنسيق الميداني الى الطرح السياسي".
وهنا صلب الموضوع: الطرح السياسي، هذا العنوان الذي لا يمكن الا ان يحمل اختلافات.
وعلى مراحل تخطت "مجموعات الثورة"، وفق العميد نادر، الكثير من العقبات، وهي توصلت الى حد ادنى من "جهاز تنظيم يعمل على إعادة احياء ذكرى الثورة وتنظيم سلسلة تحركات قريبة".
عمليا، هذا التنوع كان يتجلّى عند كل محاولة لجمع القيادات، وكانت كل محاولة تحوي نقاشات عميقة. يخبرنا ضو: " كنا نسأل انفسنا: نحن ماذا نريد؟ أي موقف لنا من اتفاق الطائف؟ أي انتقال دستوري نريده؟ أي اسس للدولة المدنية؟ وصولا طبعا الى الوضع الاقتصادي ودور الدولة او القطاع الخاص او الشراكة بين الاثنين. ثم ماذا عن صندوق النقد الدولي وسلاح حزب الله وحق المقاومة ومعضلة مزارع شبعا، هل نريد الترسيم ام التحرير. وماذا عن التعامل مع النظام السوري والقوى الخارجية مثل ايران وأميركا: كلها عناوين جوهرية لا يمكن التغاضي عنها في أي طرح سياسي، فكيف بثورة؟".
ولكن، في الأساس، هل ثورة 17 تشرين الأول تحتاج فعلا الى قيادة؟
هذا هو السؤال المحوري. يطرحه وديع الأسمر من "طلعت ريحتكم". يقول: "في كل ثورات العالم، عندما تنجح ثورة تصل مجموعة معيّنة الى الخط الأخير. هذه الثورة هي من الناس، والناس لم تفرض بعد قيادة مشتركة، وهذا الامر يحتاج الى مزيد من الوقت".
تباعد وسلاح
امام هذه الصورة. ثمة نقاط اختلاف كثيرة بين أطياف الثورة. تعترف نعمت بدر الدين من " وطن علماني يجمعنا" (وعي) ان " نقاط اختلاف عدة تجعل من الثورة الا يكون "الكل واحد".
من هذه العناصر: تقول: " سلاح حزب الله يقسّم المجتمع اللبناني ككل فكيف بالثورة. موضوع المصارف مفصلي ايضا. البعض غير متفق على مقاربة هذه المسألة او محاسبة الحاكم رياض سلامة، حتى انه لا يتكلم عن المصارف ويريد ان يفصل الجسم السياسي عن قطاع المصارف، فيما نحنا نراه مافيا واحدة وجسما واحدا".
ويلاقيها نادر بالقول: "مجموعتان تختلفان حول مقاربة سلاح حزب الله. الأولى ترى السلاح إرهابيا، والثانية تراه مقدسا. اما القراءة الموضوعية تجعلنا نقول ان كل الأمور قابلة للنقاش، عبر التوصل الى المعادلة الاتية: نحن مع الدولة القوية التي تحتكر قوى السلاح وقرار الحرب والسلام من ضمن مؤسساتها الدستورية، وفي الوقت نفسه نحن لسنا مع إسرائيل ولا مع اميركا في توجيه أي ضربة ضد حزب الله. هكذا، نخلق نقطة تقارب واعتقد اننا قطعنا شوطا في هذا المجال".
يخبر ضو ان "النقاشات الجدية والأوراق السياسية فرزت المجموعات تلقائيا، لاسيما بعد انفجار المرفأ المشؤوم واستقالة 8 نواب. كان لا بد من تحديد رؤية للوطن، وتحديد آلية استحواذ السلطة: هل هي عبر انتخابات مبكرة ام في تشكيل حكومة أولا".
اذاّ، عمليا وبعد كل هذا المخاض. يمكن رسم الصورة الاتية: كل هذا المسار أدى الى تحديد لونين للثورة، وتحت كل لون تندرج مجموعات.
ثمة لون ينظر الى كل الانظومة على انها مافيا ينبغي تغييرها، وله أيضا افكاره في المجال الاقتصادي والمالي، ويضم مجموعات وأحزاب مثل "الخط الأحمر" "تقدّم"، "عامية 17 تشرين"، وغيرها، إضافة الى النواب المستقيلين.
ولون آخر يحيّد "حزب الله"، وله بالطبع رؤيته الى التصحيح النقدي والاقتصادي، ويضم النائب شامل روكز، النائب أسامة سعد، "مواطنون ومواطنات في دولة" والشيوعيين وغيرها من المجموعات.
انفرزت المجموعات ضمن هذين اللونين، وما بينهما لون ثالث لم يحسم خياره بعد، مثل "بيروت مدينتي"، تحالف وطني"، فيما تصر الكتلة الوطنية على التوحيد وقيام قيادة موحدة بين الكل. ففي اكثر من مرحلة، التقى حزب الكتلة الوطنية مع مجموعات ثائرة مثل "مواطنون ومواطنات" ومع غيرها، وبقي هدفها التوحيد.
هذا الفرز حال دون تشكيل قيادة مشتركة موحدة، انما هو "ليس بالامر السيء"، بل انه "دليل نضوج في العمل الثوري – السياسي"، وفق اكثر من مجموعة، "كي يترك للأرض ان تفرز نفسها تلقائيا، مع هامش واسع للتنسيق بين الألوان الثلاثة. او لربما هي عناوين الثورة الكثيرة التي توحي ان المشهد فيه تباينات، ربما لكثرة الوجع والهموم عند اللبناني".
"عجينة مشتركة"
في الأساس، الثورة أتت من وجع، حين انصهرت الساحات والشوارع تحت مظلة العلم اللبناني. تكسرّت القيود والاصطفافات العمودية والافقية. ليس الاختلاف او التباعد هو سمة هذه الثورة، بل كانت أيضا ثمة نقاط تلاقي بارزة. من ابرز نقاط التلاقي هي المواجهة. يقول الحركة: "العنوان هو مواجهة السلطة واسقاط النظام لتحقيق العدالة الاجتماعية والوصول الى الدولة المدنية العادلة".
"نريد بلدا بلا فساد": هي المعادلة المشتركة برأي الأسمر: "بلد مع إدارة نظيفة ومستقلة واحترام تداول السلطات والحريات".
ثم يكفي ان تشاهد ساحات صور والنبطية وطرابلس منصهرة مع ساحات بيروت وجل الديب وكسروان، فهذا الامر وحده يشكل ابرز تلاق.
تعلق بدر الدين: "هي ثورة وعي وستستمر. كسرت المحرّمات وطالبت باستقلالية القضاء، والدولة المدنية، ورفع السرية المصرفية، ومعرفة مصير المفقودين، وتشكيل حكومة من خارج الطبقة السياسية تكون انقاذية مع صلاحيات اشتراعية، ورفض رفع الدعم عن السلع والأدوية. وهناك لقاءات كثيرة من اجل العمل على حملات وقضايا مشتركة كثيرة تجمعنا، قد تكون ابعد من قيادة واحدة. الثورة ليست برقم او بعدد، وانما بنهج مستمر. وقريبا، في 25 الشهر الحالي سيعقد "المؤتمر الوطني للانقاذ" في ضبيه، تحت عنوان "ثوار من كل لبنان"، لمناقشة قضايا سياسية – وطنية، نقدية – مالية، وتصورّ للتحركات المقبلة. وهذا التلاقي امر مهم جدا".
هذا النهج تحقق جزء منه. يقول ضو "استطعنا الوصول الى مجموعات منصهرة لها برنامجها، او بالأحرى هي جبهات. ومن المؤكد ان يؤدي المسار الى خلق معارضة سياسية ضمن كل جبهة، مع رؤية وبرنامج واضحين وهيئة متابعة. المجموعات تصل بدورها الى تكوين أحزاب او جبهات لتشكلّ في النهاية قوى ضاغطة بديلة تبدأ التغيير، وهذا ما يمكن ان يتجلى بانتخابات طالبية كما جرى أخيرا، او بانتخابات نقابية واستحقاقات أخرى".
باختصار، "الثورة فيها ألم". يقول الحركة، ومسارها سيكون فيه ألم واختبارات ايضا، عليها ان تنصهر بطريقة صلبة وعفوية لتمثل طموح الناس لا ان تمثلّ على الناس وتركب الموجة". ربما نحن لسنا على عتبة الذكرى الأولى للثورة، بل نحن في محطة انطلاق لاسقاط هذه المنظومة ومؤامرة الفساد... لقد حان الوقت ونضج الوجع كثيرا...