المتقاعدون في لبنان: ذلّ السؤال وخذلان الدولة
معاشات المتقاعدين لا تكفي لتأمين معيشتهم
بلقيس عبد الرضا - المدن
"اضطررت إلى بيع منزلي في القرية، حتى أتمكن من تسديد أقساط الجامعات لأبنائي، بعدما فقد معاش التقاعد قيمته"، هكذا وصف عبد الله غريب، وهو موظف حكومي متقاعد، وضعه المعيشي.
يتقاضى غريب ما يقارب 350 دولاراً، وهو مبلغ يقارب ضعفي الحد الأدنى للأجور حالياً لكنه لا يكفي حتى لشراء الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب، في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، بحسب ما يؤكده.
حال غريب ليست وحيدة، بل تشمل شريحة المتقاعدين بأكملها، إذ لا تغطي مداخيلهم التقاعدية لقمة عيشهم، رغم عمل معظمهم بين 15 و20 عاماً في مؤسسات الدولة، ما يضطر الكثيرين منهم إلى بيع ممتلكاتهم أو العمل بمهن بسيطة تراعي ظروفهم الصحية، كالجلوس في محال تجارية، أو العمل كسائقين عموميين.
أرقام ضخمة
لا يوجد أرقام واضحة حول أعداد المتقاعدين، وبحسب أرقام الدولية للمعلومات يصل عدد موظفي القطاع العام دون الجيش وقوى الأمن إلى 110000 موظف، أما عدد المتقاعدين سنويا فيصل إلى حدود 12000 موظف.
وبحسب البيانات المتداولة، تسدد الحكومة اللبنانية 300 ألف راتب موزعة ما بين موظفي القطاع العام والعسكريين والمتقاعدين، بمجموع يبلغ نحو 150 مليون دولار شهرياً، فيما يطالب العمال والمتقاعدين برفع قيمة الرواتب إلى الضعفين، خاصة وأن القيمة الفعلية لمعاشات المتقاعدين انخفضت عشرات الأضعاف عما كانت عليه قبل العام 2019، بعدما كان متوسط راتب المتقاعد يبلغ ما لا يقل عن 700 دولار.
انهيار قيمة العملة وتدني مستوى الرواتب، دفع بالكثير من المتقاعدين إلى رفع الصوت عالياً، من خلال سلسلة من الاحتجاجات والمظاهرات، وفي مقدمتها تظاهرات العسكريين، الذين يطالبون بعودة تدريجية لقيمة الرواتب كما كانت قبل العام 2019.
وبحسب قوانين العمل الدولية، يجب أن يحصل المتقاعد على راتب يساعده في تدبير شؤونه اليومية، والحصول على الرعاية الصحية والطبابة بشكل مجاني. فيما الصورة بدت ضبابية إلى حد كبير بالنسبة إلى عائلة المتقاعد أيوب درويش، الذي لا يكفي راتبه، لشراء الأدوية، إذ يحتاج لنحو 200 دولار شهرياً لإنفاقها على الأدوية، ويضطر إلى انتظار راتب مخصّص من أبنائه حتى يتمكن من تأمين معيشته.
عمل درويش لأكثر من 25 عاماً في أحد الأجهزة الأمنية وكان من المفترض أن يصل راتبه التقاعدي إلى نحو 1500 دولار تقريباً شهرياً، وهو مبلغ كاف لتأمين نفقاته وزوجته، لكن الأزمة الاقتصادية واستمرار رفض الحكومات بحسب تعبيره العمل على تغيير الإجراءات الخاصة بالرواتب، جعله يشعر وكأن خدمته السابقة لم يكن لها أي تقدير يذكر.
التضخم والأسعار
وعلى الرغم من أن البنك الدولي توقع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 4.7 في المئة في العام 2025، وأن يصل متوسط التضخم السنوي إلى 15.2 في المئة، إلا أن هذه الأرقام، لا تنفي أن مستويات التضخم الحقيقية في لبنان خلال الفترة الماضية كان لها تأثير سلبي على قيمة الرواتب، خصوصاً خلال السنوات الأولى للأزمة الاقتصادية، والتي بلغت أكثر 123 في المئة عام 2024، و189 في المئة عام 2023.
تنعكس آليات ارتفاع التضخم في لبنان على القدرة الشرائية للمتقاعدين. وتشكو مريم ساعاتي من ارتفاع أسعار السلع الأساسية. إذ تقول لـ"المدن": لايمكن للعائلة شراء الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب بمبلغ 200 دولار فقط وهو المبلغ الذي أتقاضاه شهرياً بعد تقاعدي من الخدمة لأكثر من 20 عاماً". لم تكن تعيش ساعاتي في ضائقة مالية قبل العام 2019، وكان راتبها يكفي لتأمين مستوى جيد من العيش في لبنان، فيما اليوم لا يكفي المبلغ بحسب تعبيرها للعيش أكثر من أسبوعين فقط. تقتصد ساعاتي في وجبات الطعام، ولم تعد تتسوق احتياجاتها من المحال التجارية التي اعتادت عليها، بل تنتظر العروض لشراء الأساسيات.
الإنفاق بالدولار والراتب بالليرة
ولم يخف أحد العسكريين الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، تدهور الأوضاع التي يعيشها عدد كبير من العسكريين المتقاعدين، الذين لا يجدون حتى ثمن أبسط الأشياء، على الرغم من التضحيات التي قدمها العاملون في السلك العسكري خلال سنوات خدمتهم.
ويقول: تغيرت قيمة الرواتب بشكل كبير، ولا يوجد أي بوادر لتحسين ظروف حياة الكثير من العسكريين، الذين لا يملكون أي مهنة لتأمين معيشتهم، بعدما قضوا في الخدمة أكثر من 15 عاماً".
أكثر من 60 إلى 70 في المئة من المتقاعدين لا يملكون أي مهنة تساعدهم على توفير معيشتهم، خاصة العاملين في الإدارات العامة، أو العاملين في مؤسسات الجيش والقوى الأمنية، ويضطر يعضهم إلى العمل كسائق لتأمين مستلزمات العيش بحسب ما أكده أحد العسكريين المتقاعدين لـ"المدن".
يضيف "اختلف وضع المتقاعدين بشكل جذري، بعدما كان العسكري يتقاضى ما بين 800 و1600 دولار بحسب المؤهل الخاص به، انخفضت قيمة الراتب إلى أقل من 300 دولار". ويشير إلى أن الرواتب لم تؤثر على العسكريين وحسب، بل أيضاً على الإداريين والعاملين المدنيين في السلك العسكري، حتى أن الضباط، انخفضت قيمة رواتبهم من 4000 دولار إلى 600 دولار شهرياً، وهو رقم لا يكفي لتسديد ثمن إيجار شقة في العاصمة بيروت أو ضواحيها.
ضغوط عديدة
بحسب الأرقام النظرية، تحتاج أسرة صغيرة في لبنان إلى ما لا يقل عن 500 دولار لتأمين الاحتياجات الأساسية، من دون احتساب إيجار المسكن، الذي ارتفع بشكل كبير بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، لكن الواقع على الأرض يشير إلى حاجة الأسرة لضعفي الرقم وربما أكثر لتأمين معيشة لائقة. علماً أن هذا المبلغ لا يتقاضاه سوى المتقاعدين من الفئة الأولى في الدولة، فيما شريحة كبيرة من المتقاعدين لا يستطيعون تأمين نصف المبلغ ولا تتجاوز معاشاتهم 250 دولاراً شهرياً.