ماذا بعد زوال الخطر الوجودي؟

ماذا بعد زوال الخطر الوجودي؟

image

ماذا بعد زوال الخطر الوجودي؟
استضعاف الدولة كان من الباب الإقليمي الذي وجد دائماً بيئة محلية حاضنة له

شارل جبور - "نداء الوطن"

يمكن القول، وبارتياح شديد، إن الخطر الوجودي المزدوج على الجماعات والدولة زال من الوجود، وهذا الخطر دام 60 عاماً، وتنقّل من خطر فلسطيني بين عامي 1965 و 1982، إلى خطر بعثي - أسدي من العام 1982 حتى العام 2005، وصولاً إلى الخطر الإيراني من العام 2005 حتى العام 2025.
والارتباط بين الدولة والجماعات هو من طبيعة عضوية، فإذا الدولة بخير الجماعات بخير، والقلق الوجودي لدى الجماعات بدأ مع انهيار الدولة، وبالتالي، يكفي أن تستعيد الدولة دورها السيادي لتتبدّد هواجس الطوائف الوجودية تلقائياً، وقد سلكت الدولة فعلاً طريق اللاعودة إلى زمن استضعافها وتحويل أرضها إلى بؤرة للمشاريع الإقليمية.

واستضعاف الدولة كان من الباب الإقليمي الذي وجد دائماً بيئة محلية حاضنة له، ولكن بعد انتفاء آخر مشروع إقليمي مزعزع لاستقرار لبنان والمنطقة، لم يعد بقدرة أي بيئة لبنانية أن تصادر دور الدولة، خصوصاً أن الحدود التي شكلت المعبر للتآمر على البلد، ضبطت بشكل محكم من الجهتين الإسرائيلية والسورية، وعادت الدولة الطرف الأقوى بإرادة دولية ولبنانية، وبالتوازي مع الوضع الداخلي، هناك إرادة دولية وإقليمية ردعية لأي مشروع تخريبي، وسعي حقيقي لترسيخ الاستقرار في الشرق الأوسط.

ولا شك أن ما تحقّق، هو حلم كل مواطن لبناني بدولة واستقرار وازدهار، وهذا الحلم كان بعيد المنال لولا حربا «الطوفان» و «الإسناد»، ولكنه تحوّل إلى حقيقة، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يفترض الاكتفاء بما تحقّق مع زوال الخطر الوجودي وانطلاق قطار الدولة، أم الدفع باتجاه تغييرات بنيوية في النظام السياسي؟

لا يجب الاكتفاء بما تحقّق، ولا فتح النقاش بتعديل الدستور، إنما المطلوب وضع الجهود كلّها من أجل تحصين دور الدولة سيادياً وإصلاحياً. صحيح أن قطار الدولة انطلق، لكنه لم يصل بعد إلى المحطة النهائية، ومن الخطأ حرف الأنظار عن الهدف المركزي المتمثِّل بالدولة، لأنه من دون دولة لا قيمة لأي نظام سياسي، فلا الجمهورية الأولى صمدت أمام الرياح الإقليمية، ولا الجمهورية الثانية انطلقت، وهذا لا يعني أن عقارب الساعة يمكن أن تعود إلى الوراء، لأن لبنان والمنطقة تبدّلا، والممانعة انتهت، إنما المقصود عدم حرق المراحل، خصوصاً أن الشعب اللبناني لم يختبر منذ نصف قرن أقله وجود دولة، ولا يفترض القفز من المرحلة الاحتلالية إلى المرحلة التطويرية قبل العبور في المرحلة الانتقالية التي وظيفتها الأساسية تثبيت ركائز الدولة.

ورغم أن الممانعة بفروعها المختلفة كانت نجحت في الانقلاب على المراحل الانتقالية التي عرفها لبنان إن مع انتخاب الرئيس بشير الجميل، أو مع انتخاب الرئيس رينيه معوض، أو مع انتفاضة الاستقلال، إلّا أن الأمور، هذه المرة، تختلف جذرياً، لأن المشاريع الممانعة انتهت من جذورها، وظروف المنطقة ولبنان تبدلّت، وهذا ما يدفع لإعطاء المرحلة الانتقالية وقتها لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية:

الهدف الأول، احتكار الدولة وحدها السلاح، وإحكام قبضتها على الحدود، وتعزيز دورها العسكري والأمني، وضرب كل من تسوِّل له نفسه استضعافها والاعتداء على اللبنانيين، أي أن تستردّ حضورها وهيبتها، وهذا المسار لن تكتمل فصوله قبل نهاية العام الحالي.
الهدف الثاني، استكمال عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة التي نخرها الفساد والتوظيفات الزبائنية والسياسية، ووضع المعايير الإصلاحية والضوابط المالية بعد أن تحوّل لبنان إلى مصنع لتبييض الأموال والتجارة الممنوعة والكبتاغون، حيث لم تكتف الممانعة بتحويل لبنان إلى منصة لاستهداف دول المنطقة عسكرياً وأمنياً، إنما حوّلته أيضاً إلى منصة لتمويل محورها بتجارة الممنوعات مستفيدة من وضع يدها على النظام المصرفي اللبناني.

الهدف الثالث، اختبار عمل الرئاسات والمؤسسات بعد أن أصبحت للمرة الأولى مستقلة بعيداً من وضع اليد الأسدية والخامنئية، وأهمية هذه المرحلة الاختبارية أنها قادرة على تبيان الثغرات الفعلية التي تستدعي التعديل من أجل حسن سير عمل الدولة، وتجنباً لأي تعطيل تحت أي عنوان، والنموذج الذي قدّمته الحكومة الجديدة في هذه الفترة القصيرة مع الرئيسين جوزاف عون ونواف سلام يعتبر أمثولة، خصوصاً في حال استكملت الحكومة عملها بالاتجاه نفسه، فلا تعطيل ولا تأجيل للاستحقاقات ولا اعتكاف ولا تعطيل لجلسات الحكومة، وأي خلاف يعالج بالتصويت على غرار ما حصل مع حاكم مصرف لبنان، ومن دون أن يترك التعيين أي انعكاسات سلبية على ممارسة الدولة دورها.
فالمطلوب إذاً، عدم حرق المراحل تجنباً لمحاولات إبطاء انتظام أمور الدولة سيادياً ومالياً، ويجب ألا تعلو أي أولوية على أولوية لتحقيق هذا الانتظام الذي من دونه يستحيل تطوير النظام، والذي يجب تطويره على دفعات بعيداً من الصدمات.
فكل الكلام على الفدرالية مثلاً، كان مهماً لكسر شيطنة هذا الطرح، لكن الفدرالية نفسها، تشترط وجود دولة مركزية قوية، الأمر الذي لم يكن قائماً في ظل حزب يسيطر على السياسات الدفاعية والخارجية والمالية للبلد، وهي القاعدة الثلاثية للفدرالية، ومع استعادة الدولة هذه السياسات أصبح التطوير ممكناً.
إن مفتاح أي تطوير وجود دولة قوية، وتعزيز دور هذه الدولة يستدعي إدخال الجانب اللامركزي فيها على دفعات انطلاقاً من حاجة الناس أولاً وأخيراً، وهناك حاجة ماسة مثلاً لمطار ثانٍ وثالث، وهناك حاجة ماسة لإنماء مناطقي متوازن من غير الممكن تأمينه مركزياً، وهناك حاجة لتعزيز صلاحيات مجالس الأقضية بعد تشكيلها على قاعدة «أهل مكة أدرى بشعابها»، وهناك حاجة لإزالة كل المعوقات التي أظهرتها الممارسة وتؤدي إلى عرقلة عمل الدولة، وهناك بعض النصوص الملتبسة التي بحاجة إلى توضيح.

إن المرحلة الانتقالية التي دخلها لبنان، هي مرحلة تحصينية لمشروع الدولة الذي كان مغيّباً منذ نصف قرن، وفي سياق التحصين من الضروري الدفع باتجاه التطوير لتجسيد دولة تحتكر وحدها السلاح، وتعكس التمثيل الفعلي للجماعات، وتحقِّق الإنماء عن طريق أوسع لامركزية ممكنة.