الراي - نَجَحَ العهدُ الجديدُ في لبنان في استحقاقٍ أراده «رسالة إلى الداخل والخارج»، عبر إنجاز الانتخابات البلدية والاختيارية في جولاتها الأربع والتي كانت محطّتها الأخيرة والأكثر تحدّياً في الجنوب، الذي خرج إلى صناديق الاقتراع على وهج صناديق الرصاص، مع دعوة نحو نصف مليون ناخب للإدلاء بأصواتهم لاختيار المَجالس في 272 بلدة على وقع الخشية من أصوات صواريخ إسرائيل التي كانت انهمرت وعلى نحو لافت قبل أقلّ من 48 ساعة على نحو 15 هدفاً من خلف ظهر اتفاقٍ وقف الأعمال العدائية (27 نوفمبر).
ومع انقشاع غبار المعارك البلدية ولا سيما التي دارت بـ «محركاتٍ سياسيةٍ»، كما هو الحال في مدينتيْ جزين وصيدا، يَنصرف لبنان إلى جدولِ أعماله المُلِحّ، والذي يتقّدمه الإصلاحُ بشقّيْه المالي - الاقتصادي، والأمني - السياديّ وسط «فرصةٍ لن تتكرّر» لإثباتِ صدقيّته تجاه المجتمعيْن العربي والدولي، خصوصاً لجهة حصْر السلاح بيد الدولة وبسْط سلطتها على كامل أراضيها كأقصر الطرق للمساعدة على إنهاض لبنان ومعاودة إعمار ما دمّرتْه الحرب الأخيرة.
وبدا لبنان، الذي بذل مساعي حثيثة، ولا سيما مع الولايات المتحدة، لإمرار يوم الانتخابات في الجنوب بسلامٍ عبر انتزاع ضماناتٍ بعدم «تدخل» إسرائيل وتعكيرها صفو الاستحقاق البلدي، أمام اختراقٍ موعودٍ في الملف الأكثر حساسية والمرتبط بحصْر السلاح بيد الدولة بعدما حدّد منتصف يونيو موعداً لبدء سحب السلاح الفلسطيني من المخيمات انطلاقاً من بيروت، وهو ما تَقَرَّرَ خلال زيارةِ الرئيس الفلسطيني محمود عباس للبنان قبل أيامٍ ومشاركة رئيس الحكومة نواف سلام في اجتماعٍ للجنة الحوار اللبنانية - الفلسطينية التي كُلّفت بِبَرْمَجَةِ تسليم سلاح المخيّمات إلى الدولة اللبنانية.
... زحفاً نحو الجنوب
ومنذ ليل الجمعة - السبت، بدت واضحة رغبة الجنوبيين بالمشاركة في الاستحقاق البلدي، فالاوتوستراد الساحلي شهد زحمة سير كبيرة واكتظت مداخل مدينة صيدا منذ صباح أمس، بالسيارات المتجهة الى الجنوب في مشهدٍ أزاح عن الأذهان مشهداً مماثلاً إنما في اتجاهٍ مُعاكِس في ذاك اليوم المشؤوم الذي اضطُر فيه مئات آلاف الجنوبيين الى مغادرة أرضهم (23 سبتمبر) عند بدء الاجتياح الجوي الاسرائيلي في إطار «حرب لبنان الثالثة».
ورغم أن انتخاباتِ الجنوب، سواء في «الزحفِ» الشعبي إليها تحت «مراقبة» المسيَّرات الاسرائيلية أو في نتائجها داخل البيئة الحاضنة للثنائي الشيعي «حزب الله» وحركة «أمل»، أريد منها أن تشكّل رسالةً للخارج ولا سيما واشنطن وتل أبيب حيال تماسُك هذه البيئة واستمرار التفافها حول الحزب رغم كل الجراح التي أثخنتْه خلال الحرب، فإن هذا الزحف لم يُترجم بشكل كبير في صناديق الاقتراع حيث بقيت النِسب أقلّ مما كانت عليه في انتخابات العام 2016.
وبرّرت عوامل عدة مشهدية الاندفاعة نحو قرى الجنوب والنبطية، وأبرزُها أن البلدات التي تشهد معارك انتخابية استنفرت أبناءها ولا سيما التي اشتدّت فيها المنافسة السياسية والحزبية، مثل جزين وصيدا وقرى كفررمان وعيتيت وغيرها، أو القرى التي جَرَتْ فيها معاركُ اختيارية، حيث عَمَدَ المرشّحون الى استقدام الناخبين من بيروت والضواحي والمناطق البعيدة ليَضْمَنوا مشاركتَهم في الانتخابات.
لكن العاملَ الذي شكل قوةً كابحة لنسبة الاقتراع التي ناهزت 30 في المئة قبل 3 ساعاتٍ من قَفْلِ صناديق الاقتراع كان فوز نحو 40 في المئة من بلديات الجنوب والنبطية، وغالبيّتها الساحقة محسوبة على الثنائي الشيعي، بالتزكية أي 109 بلديات من أصل نحو 272.
«معركة العلمين»
وكسرتْ حلقة الإقبالِ غير المرتفع «عروسُ الشلال» جزين، المدينة المشهورة بصناعة السكاكين والتي خيضت فيها معركة كأنها بـ «السلاح الأبيض» بين لائحتين، واحدة مدعومة بشكل رئيسي من «التيار الوطني الحر» والنائب السابق إبراهيم عازار والثنائي الشيعي، والثانية من حزبي «القوات اللبنانية» والكتائب اللبنانية.
وكادت منازلة جزين أن تكتسب عنوان «معركة العلمين»، بعدما اعتبر رئيس التيار جبران باسيل، الذي حضر الى المدينة عصراً، أن «جزين اليوم عم تستعيد ألوانها والليلة منشكّ العلم على أسوارها»، لتردّ نائبة «القوات» عن قضاء جزين غادة أيوب «مرفوض أن يضع حزب الله عبر التيّار الحر يده على أراضينا في جزين» متوجّهة إلى باسيل «لاقي شي قرنة شِكّ فيها العلم».
بوابة الجنوب
كما استقطبت صيدا، عاصمة الجنوب وبوابته، الأنظار وسجّلت نسبة إقبال من الأعلى في الجنوب، بعدما شهدت معركة بين 4 لوائح رئيسية، واحدة مدعومة من النائب اسامة سعد، وثانية من النائب عبدالرحمن البزري، وثالثة من الجماعة الإسلامية، أما الرابعة فبدا أنها حظيت من «خلف الستارة» بدعم من مؤيدي تيار «المستقبل» الذي أطلّ من خلف العازل الانتخابي عبر النائبة السابقة بهية الحريري التي «ربطت» بعد اقتراعها موعداً مع الانتخابات النيابية في مايو 2026 حيث أعلنت رداً على سؤال حول إذا كان «المستقبل» سيشارك في هذا الاستحقاق، هو الذي انكفأ عن العمل السياسي منذ يناير 2022 ان الرئيس سعد الحريري قال «راجعين وهذا ليس سراً».
ولم يَكُنْ مُمْكِناً في سياق عوامل «التحفيز» إغفالُ التطمينات الرسمية حيال أمن العملية الانتخابية كما الضمانات التي نَجَحَ لبنان في الحصول عليها لجهة عدم تخريب اسرائيل جولة الجنوب وتالياً «وسْم» الاستحقاق الانتخابي برمّته بشائبةٍ، هو الذي ينتظره الخارج باعتباره أحد مؤشرات تعافي لبنان بدءاً من مؤسساته ومجالسه المحلية.
«الضمانات موجودة»
وأعْلى درجاتِ الطَمْأنة جاءتْ من أعلى الهَرَمِ الدستوري، رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون الذي أعلن بعد الإدلاء بصوته للمرة الأولى منذ 40 عاماً في مسقطه في بلدة العيشية الجنوبية رداً على سؤال عن وجود ضمانات بعدم حصول اعتداءات إسرائيلية «ان الضمانات موجودة»، داعياً الناخبين للتصويت بكثافة، ومشيراً الى «أن الرسالة هي أن الجنوب هو من لبنان وقلب لبنان».
وأضاف «اعتدت على حماية الانتخابات طوال 40 عاماً (طوال خدمته العسكرية قبل قيادته الجيش) واليوم أدلي بصوتي للمرة الأولى في الاستحقاق الانتخابي».
واكتسب حضورُ رئيس الجمهورية في الجنوب، حيث زار قبل العيشية سرايا صيدا وسرايا النبطية، أهمية خاصة ايضاً نظراً الى انه تزامن مع الذكرى 25 لتحرير الجنوب التي تصادف اليوم، والتصميم على اجراء الانتخابات البلدية والاختيارية على الأراضي الجنوبية رغم كل الاعتداءات والتحديات التي يشهدها هذا الجزء من الاراضي اللبنانية.
ووجّه عون من الجنوب رسائل عدة، أهمها «ان إرادة الحياة اقوى من الموت وان إرادة البناء اقوى من الهدم»، وان «اليوم ليس فقط عيد التحرير بل عيد الديمقراطية والخيار الصحيح».
وفي مقابل هذه الصورة المشجعة، برز مشهد أكثر قتامة، فالبلدات الحدودية المهدّمة والتي لم يعُد فيها موقع واحد قابل لأن يكون مركز اقتراع، اختارت لها وزارة الداخلية مراكز اقتراع في مدن أخرى، خصوصاً في صور والنبطية، فيما لم يُخْفِ مواطنون يعيشون خارج بلداتهم الجنوبية صدمتهم بعد العودة إليها من البوابة الانتخابية حيث قال أحدهم ويُدعى إدغار (وهو من بلدة القوزح) إن ما رآه من دمار في طريقه الى بلدته وفي القرى المجاورة قد هاله وأوجد فيه نوعاً من الإصرار على الاتصال بكل مَن يعرفهم من أبناء القرى للإسراع في العودة إليها والاطلاع على أحوالها.
الصدمة نفسها عاشها مراسلو محطات التلفزيون الذين رافقوا قرى الحافة الأمامية ومن ثم بلدات قضاء مرجعيون أثناء الحرب الأخيرة وعاشوا مع أهلها معاناتهم وكانوا شهوداً على ما آلت إليه أحوال هذه القرى من دمار وتهجير وما شهدته من خسائر بشرية. وهم عادوا إليها أمس ليشاهدوا بأم العين إعادة شريان الحياة إليها، وسريان الدم من جديد في عروقها من خلال عودة أهاليها إليها وإن لساعات.