شيخ العقل: لمواجهة محاولات تشويه الثوابت الوجودية للدروز

شيخ العقل: لمواجهة محاولات تشويه الثوابت الوجودية للدروز

image

دعا شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى إلى "مواجهة محاولات تشويه الهوية التاريخية، بالتأكيد على الثوابت الوجودية للمسلمين الموحدين الدروز، عقائدياً واجتماعياً ووطنياً، مهما تبدّلت الأحوال وانتصرت المخطّطات"، ورأى ان "لا مظلَّة تقي مسيرةَ الدولة والعهودِ المتعاقبة والعهد الميمون الجديد إلاّ مظلّة الشراكة الروحية الوطنية التي نادينا بها وسنستمرّ ننادي، تأكيداً منّا بأن لبنانَ قويٌّ ومُصانٌ بتضامن قواه الوطنية وعائلاته الروحية، وتلك الشراكة هي أقوى وأمضى سلاحٍ، وهو ما يجبُ على الشعبِ التمسَّكُ به، لا بسواه".

كلامه جاء خلال رعايته مصالحة عائليّة في بلدة رويسة البلوط (قضاء بعبدا) بدعوة من عائلتي زيدان وخداج وعموم مشايخ وأهالي البلدة، لعقد راية الصلح وإنهاء ذيول الحادثة الأليمة التي حصلت بين ابناء المرحومين فوزي خداج وانيس زيدان منذ نحو 19 عاماً.

شارك في اللقاء جمع كبير من المشايخ والمدعوين واهالي البلدة من جميع عائلاتها، يتقدمهم الشيخ أبو فايز أمين مكارم، والنائب هادي أبو الحسن على رأس وفد من الحزب التقدمي الاشتراكي ممثلاً الوزير السابق وليد جنبلاط ورئيس اللقاء الديمقراطي النائب تيمور جنبلاط، مدير الداخلية في الحزب الديمقراطي اللبناني لواء جابر على رأس وفد مثل رئيس الحزب الأمير طلال ارسلان، ووفد من الحزب السوري القومي الاجتماعي برئاسة فخر أبو فخر وممثل منفذية المتن يحيى زيدان. وحضر المشايخ: أبو حسن عادل النمر وأبو نعيم محمد حلاوي والقاضي الشيخ سعيد مكارم ومستشار شيخ العقل الشيخ عماد فرج ورئيس لجنة التواصل والعلاقات في المجلس المذهبي الشيخ فادي العطار وأعضاء من المجلس المشايخ نضال سري الدين وشاهين هاني القنطار وسلمان المغربي وعضو الهيئة الاستشارية الدينية الشيخ وجيه ابو مغلبيه، والشيخان نسيب ماضي وكمال فرج ورئيس بلدية العبادية الشيخ نزار ابو جابر ورؤساء بلديات ومخاتير وفاعليات من قرى منطقة المتن.

 

شيخ العقل

افتُتح اللقاء باستقبال آل زيدان والعائلات آل خداج واقاربهم وبمصافحة ودية بين ابناء العائلتين، ثم بدأ اللقاء بالنشيد الوطني اللبناني، فكلمة الشيخ رفعت عفيف زيدان معرّفاً، فالكاتب العدل وديع ابو نصار، والشاعر عادل خداج، وختاماً كانت الكلمة لصاحب الرعاية سماحة شيخ العقل، قائلا: "نلتقي وإيَّاكم اليومَ في رويسة البلوط، على نيّة المصالحة وطي صفحة الألم والخلاف، لنُعيدَ إلى نفوسِنا الراحةَ والأمان، ولنمسحَ من عيوننا دمعةَ الأحزان، مترفّعين عنِ طلب الأذى لأيٍّ منّا، راجين عفوَ الله الذي لا يُرجى سواه. نلتقي اليومَ معاً في رحاب قريةٍ متنيةٍ من أجمل قرى الجبل، تختالُ كجاراتها بصنوبراتها وبما فيها كذلك من السنديان "وشجر البلُّوط"، ليكون الاسمُ على المسمَّى. نلتقي بين أهلٍ وعائلاتٍ هم بالحقيقة عائلةٌ واحدة في بلدةٍ تَختزن في تاريخها أجملَ حكايا الودِّ والنخوة والمروءة، بلدةٍ لم تُوسم مرَّةً بالخلاف والضغينة إلَّا لتُوسَمَ مرَّاتٍ ومرَّات، بالحكمة والمحبة والرحمة، ولتُعرفَ برجالها العقلاء وأبطالها الأشاوس، وقد كانوا وما زالوا يسطعون في سماء الجبل والوطن والعالم نجوماً مضيئةً بالمعرفة والأصالة، وهمماً عالية وقلوباً نقيَّة. هكذا هي حقيقةُ رويسة البلوط، وهذا هو تراثُها وحاضرُها ومستقبلُها، وها نحن نلتقي معاً برعاية الله، فنطوي الصفحةَ الرمادية التي لا تعبِّرُ عن حقيقتها، ونفتحُ الصفحةَ البيضاءَ النقيّة ليَكتُبَ عليها أهالي رويسة البلُّوط عباراتِ الودِّ والتسامح والمغفرة، وأدعيةَ الحمد والشكر والإيمان، وقصائدَ الجَمع والتلاقي، وثوابتَ التوحيد والوطنية".

أضاف: "نلتقي معاً، مشيخة العقل ومشايخ المتن وفاعلياته السياسية والاجتماعية، حاملين معنا التحيّة والمسؤولية من كلِّ من فوّضنا بعقد راية المصالحة، من الزعيم الوطني وليد بك جنبلاط إلى الأمير طلال أرسلان وسماحة الشيخ نصر الدين الغريب والمشايخ الأجلّاء، وكلِّ من واكب مسيرةَ المصالحة من قديمٍ ومن جديد، وكلِّ من حضر إلى جانبنا اليومَ، من الحزب التقدمي الاشتراكي إلى الحزب القومي والحزب الديمقراطي، إلى كلِّ فردٍ من هذه البلدة والجوار مهما كان انتماؤه السياسي، إلَّا أننا واثقون أن ما يجمعُنا هو أبعدُ من خطٍّ سياسيٍّ وأعمقٌ من انتماءٍ عائلي، إنّما هو الهوية الروحية التوحيدية، والهوية الاجتماعيةُ المعروفية، والهوية الوطنيةُ والقومية، والهويةُ الإنسانية الواحدة. نلتقي وإياكم في مطلع سنة هجرية جديدة لنطلبَ الصَّفحَ منه تعالى عمَّا حصل في ديارنا منذ تسعة عشر عاماً في لحظة انفعالٍ وغضبٍ وتخلٍّ، ولنعقدَ رايةَ المصالحةِ البيضاءَ دلالةً على زوال الحقد وعلى انتصار المحبة بين أبناء العائلة الواحدة، ولنحيّيَ الأحبّاءَ أبناءَ المرحومَين أنيس زيدان وفوزي خداج وأقربائهم على موقفِ القَبول والوعي والتجاوب، فنضمِّدُ معهم الجراحَ بالرضا والإيمان، ونكظِمُ وإيَّاهم الغيظَ، ونَعفُو بعضُنا عن بعض، ونُحسنُ إلى من أحسن وإلى من أساء، واللهُ يُحبُّ المحسنين، "وَالَّذينَ صَبَرُوا ابتِغاءَ وَجهِ رَبِّهِم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقوا مِمّا رَزَقناهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدرَءونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولـئِكَ لَهُم عُقبَى الدّارِ".

وتابع: "حضرة المشايخ والأخوة الأفاضل، لم تكنْ هذه المصالحةُ لتحصلَ لولا عنايةُ الله سبحانه وتعالى وبركةُ مشايخنا الأطهار ودعاؤُهم، ولولا الشعورُ بالمسؤولية من قبل الجميع، والتصميمُ على الانتقال من ضَفّة الضغائن العقيمة الضيِّقة، إلى ضفَّة المحبةِ الغنيّة الرحيبة، فنزرع فيها بذارِ الإلفة والمودّة لتنموَ غرسةُ الأخوَّة كما ينمو الإيمانُ في القلوب والأرواح، ولتشمخَ شجرةُ المحبة في رويسة البلوط أعلى من شموخ صنوبراتِها الباسقات، فتُثمرَ اجتماعاً لشبابها لا مثيل له، كما تُثمرُ الحروفُ المجموعةُ المتجانسةُ كلماتٍ طيِّبةً وعباراتٍ مفيدةً وكتباً تُغذّي النفوسَ والعقول. وجميعُنا يعلمُ أن هذه المصالحة لم تكن كذلك لتكتملَ لولا مساعدةُ الأقربين، كباراً وشباباً، ولولا تعالي الجميع عن المطالب المعرقلة، ولولا حثُّ القيادة السياسية ودعمُها، ولولا توجيهٌ حازمٌ وحاسمٌ ويدٌ أبويّةٌ سخيَّةٌ لوليد جنبلاط كعادتِه في موقع الزعامة والإنسانية، ولولا استعدادٌ صادقٌ كذلك من أصحاب الجود والغيرة للمساهمة في احتواء تداعيات ما حصل، ولكلّ مَن مدّ يدِ العون إلى من أثّرت عليهم الحادثةُ فضاقت بهم سُبُلُ العيش واحتاجوا إلى تأمين المسكن اللائق، ممَّا يعزِّزُ قناعتَنا وثقتَنا بأننا في مواجهة الأقدار وتحدياتِ الحياة جماعةٌ لا يمكن أن تحيا إلّا بصدق اللسان وحفظ الإخوان، ولا ترتدي إلّا عباءة الأصالة التوحيدية، ولا تنطقُ إلا بكلمة الحقِّ والكرامة. ألا بارك اللهُ ببني معروف، أهلِ الفضل والعقل والمعروف".

وقال: "يمرُّ الإنسانُ بظروفٍ صعبة، لأنّ الحياةَ غيرُ مستقرَّة، ومسؤولياتِها متشعِّبةٌ وضاغطة، والصراعَ قائمٌ في داخل كلِّ واحدٍ منّا، وقائمٌ بيننا وبين مَن نعيشُ معهم، حتى في الأسرةِ الواحدة، وهناك خوفٌ كامنٌ من المجهول يترافقُ غالباً معَ ضغطٍ نفسي وتوتُّرٍ عصبي. قلتُ ذلك في مصالحة كفرسلوان منذ سنةٍ ونيّف، وفي المصالحة بين أهلنا في عرمون وفي عيتات، وفي أكثرَ من مناسبةٍ مماثلة، بأنَّ علينا مواجهةَ الأمورِ بعقلانيةٍ وإيمانٍ وعدم السماح للنزق والغضب وسوءِ الظَّنِّ والانفعال أن يضعَنا في مهبِّ الريح وينتقلَ بنا من خطأٍ إلى خطيئة ومن سيِّءٍ إلى أسوأ، وإن كانت تلك هي طِباعُ البشر منذ القِدَم، فقابيلُ قتل أخاه هابيل "فأصبح من النادمين"، وإخوةُ يوسُفَ الصدّيقِ (ع) رمَوه في البئر ليتخلّصوا منه، ثمّ عادوا يطلبون الغفران قائلين: "يا أبانا استغفر لنا ذنوبَنا إنَّا كنّا خاطئين"، فالأجدرُ بنا ألَّا نُخطئَ أولاً، وأن نتروَّى في مواجهة الأمور، وأن نستغفرَ ثانياً ونطلبَ العفو إذا كان الخطأُ قد حصل، فالاستغفارُ من شِيَم الكبار، والعفوُ عند المقدرة من شيمِ الكرام ومن شيم الأنبياء والرسل (ع)، فها هو نبيُّ الله يوسفُ يعفو عن إخوته الذين حاولوا قتله وفرّقوا بينه وبين أبيه، فعفا عنهم عندما وصلوا إلى مصرَ وكان قادراً على الانتقام منهم. لكنّه سامحهم وترك أمرَهم لله، فهو العَفوُّ الغفور، "ومَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ".

أضاف: "إنّنا اليومَ في مدرسة العفو والاستغفار عن كلِّ ما حصل، ورويسة البلُّوط تعفو وتسامحُ، وتُعلنُ أنّها جانبٌ أصيلٌ من طبق النُّحاس المعروفيِّ المُقدّس الذي إذا ما علا صوتُه في المتنِ سُمِعَ في الجانب الآخر من البلاد، وها هي تَصدحُ اليومَ عالياً بصوت الشرفِ والعنفوان، صوتِ الخيرِ والإيمان، صوتِ المحبةِ وحفظ الإخوان... صوتِ التسامحِ والغفران، فيُسمَعُ الصوتُ في كلِّ مكان. رويسة البلوط العائلةُ الواحدة والقلبُ الواحدُ، في رحابِها العامرة نلتقي فنرتقي، على نيَّة رأب الصَّدعِ وجمع الشمل، وعلى بركةِ الله وصوتِ دعاءِ الأجاويد وعلى صدى همّةِ الغيارى ووقعِ كلمات الرضا والتسليم والقَبول، نرفعُ الرايةَ البيضاءَ إلى جانب العمائم البيضاء وجباهِ الخيرِ الشريفة، ونُطلقُ قَسَمَ المصالحةِ من أفواه الطيِّبينَ المُتسامحين ومن أفئدة الأهلِ المتحابِّينَ من آل زيدان ومن آل خداج وجميع أبناءِ عائلات البلدةِ الكريمة مجتمعين، ليباركَه أبناءُ المتن الميامين وأهلُ الخيرِ والمعروفِ والدين".

واستطرد: "حضرة المشايخ والأخوة الكرام في رويسة البلوط، ثقوا بأنَّ ما قمتم به اليوم يُثلجُ قلوبَ الموحِّدين، وسيكونُ موضعَ تقديرِ قادة الجبل ومشايخِ البلاد، وموضِعَ اعتزازِ مجتمع الموحدين الدروز وجميع المتنيين واللبنانيين، بل سيكونُ بمثابة كتابٍ تتعلَّمُ فيه الأجيال، ويتغذّى من دروسِه الرجال، ويقتدي بنهجِه الأبطال، وقد كنّا على يقين بأن أيّةَ مصالحة في قرانا تفتح الطريق أمام مصالحاتٍ أوسعَ وأشمل، ‏وهذا ما نتمنّاه، وما نأمل أن يسمعُه ويعرفُ به أهلنا في كلّ بلدة وعائلة، فيسارعوا إلى التشبُّه والامتثال والعفوِ وطلبِ المغفرة، لقوله تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".

إخواني، يا أبناء التوحيد والجبل الكرام، يكفينا ما مرّت به البلاد من محن وحروبٍ ومصائب وانهيارات مالية كادت تُطيح بآمال اللبنانيين وتهدمُ آخر ما تبقّى من بناء الدولة، حيثُ لم يعدْ يُفيدُنا إلا التماسكُ ووحدة الكلمة والعملُ معاً لرأب الصدّع أينما وُجد، ولمواجهةِ محاولات تشويه الهوية التاريخية بالتأكيد على الثوابت الوجودية للمسلمين الموحدين الدروز، عقائدياً واجتماعياً ووطنياً، مهما تبدّلت الأحوال وانتصرت المخطّطات، لكن "ما من شيءٍ يدوم إلّا الذاكرة الوطنية"، كما قال بالأمس وليد بك، وإلا الهوية والثوابت التي حافظنا عليها منذ مئات السنين بالرغم من تغيُّر الأمم ومداولة الدول. ميزتُنا في لبنان أننا مرنون وقادرون على التكيُّف مع الواقع ومنفتحون على العالم وعلى المستقبل، وراسخون في انتمائنا القومي وفي التمسك بعمقنا العربي، ومعتزُّون بميزة التنوُّع والعيش الواحد، ومدركون أن لا مظلَّة تقي مسيرةَ الدولة والعهودِ المتعاقبة والعهدِ الميمونِ الجديد إلاّ مظلّة الشراكة الروحية الوطنية التي نادينا بها وسنستمرّ ننادي، تأكيداً منّا بأن لبنانَ قويٌّ ومُصانٌ بتضامن قواه الوطنية وعائلاته الروحية، وتلك الشراكة هي أقوى وأمضى سلاحٍ، وهو ما يجبُ على الشعبِ التمسَّكُ به، لا بسواه".

وختم: "شكراً لكم جميعاً، شكراً لمشايخ رويسة البلوط ووجوهها الخيِّرة، شكراً لأعضاء اللّجنة المواكبة من العائلتين، ولجميع من زارنا من المسؤولين والأهالي للمتابعة والتشاور، شكراً للأحبّاء آل زيدان وآل خداج الذين وقَّعوا بالأمس على ورقة الاتّفاق، والتي سنحفظها في ملفاتنا وقلوبنا، ولتكُن الأفكارُ من هذه اللحظةِ صافيةً نقيَّة، والقلوبُ نابضةً بالأريحية، والأيدي متصافحةً ومتشابكةً وقويّة، والألسنُ ناطقةً بالحقِّ تقولُ سويّا: إنَّا عَقدنا على التوحيدِ رايتَنا​​وصحوةُ العقلِ فاقت نبرةَ الغضبِ

كفٌّ تُصافحُ، بل قلبٌ يُصارحُ، بل​​فكرٌ يُصالحُ، بل فَيــضٌ من الأدبِ

ليكُنْ هذا هو قسَمُنا الدائم، ونحن نسجِّلُ في سجلِّنا الذهبيِّ يومَ 28 حزيران 2025 تاريخاً مجيداً يُضافَ إلى تواريخ المتن المشرِّفة، حامدينَ الله تعالى في كلِّ بَدءٍ وخِتام. آجركُم الله، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه".