سلام: لبنان على مفترق طرق.. واخترنا ألّا نرواغ!
توسيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص
زار رئيس مجلس الوزراء الدكتور نواف سلام المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والتقى رؤساء ونقباء الهيئات الاقتصادية والمهن الحرة، الاتحاد العمالي العام، أعضاء المجلس وممثلي المجتمع المدني المنظَّم.
وألقى كلمة قال فيها: "بداية، أود أن أتقدّم منكم بجزيل الشكر على دعوتكم الكريمة، وعلى هذه الفرصة الهامة لزيارة هذا الصرح الوطني الذي يتميّز بتفويضه الفريد وتركيبته التشاركية الواسعة.
وكان لي شرف أن أكون عضوًا في أول مجلس، وأن أَخدم في هيئته التنفيذية".
أضاف:"يُشكّل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مساحة حيوية للحوار الوطني، ويؤدّي دورًا استشاريًا محوريًا في نقل نبض المجتمع وتغذية السياسات العامة بآراء الفئات الممثَّلة فيه. ويتميّز المجلس بتركيبة تمثيلية واسعة تضمّ هيئات ونقابات وجمعيات من مختلف القطاعات، من التعليم والصناعة، إلى الصحة والتجارة والسياحة، وصولًا إلى القطاع المصرفي وسوق العمل الأوسع. وهذه الميزة تكتسب أهمية خاصة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان، حيث الحاجة ماسّة إلى توافق اجتماعي واسع حول أولويات التعافي والإصلاح. إن تشكيل المجلس كان لعقود منذ خمسينيات القرن الماضي مطلبًا إصلاحيًا بامتياز، وهو اليوم يشكّل شريكًا مجتمعيًا أساسيًا في هذه اللحظة المفصلية من مسار الدولة. من هذا المنطلق، أغتنم وجودي بينكم اليوم لأعرض أمامكم رؤية حكومتنا، وما تحقق حتى الآن، وما تبقى أمامنا من استحقاقات ومصاعب كثيرة علينا التصدي لها في أقل من عام. كما أتطلّع إلى النقاش الذي سيتبع، وأترقّب باهتمام ما ستشاركوني به من رؤى ومقترحات. انتم خير من يعلم مرّ لبنان خلال السنوات الخمس الماضية بأزمة غير مسبوقة طالت مختلف جوانب الحياة. فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها، انهار القطاع المصرفي، شهدنا تضخمًا غير مسبوق وتدهورًا في الخدمات الأساسية، وارتفعت نسبة الفقر إلى 33%، فيما انكمش الاقتصاد بنحو 40% مقارنة بعام 2019. وزادت الكارثة بانفجار مرفأ بيروت عام 2020، وما تلاه من دمار بشري ومادي، ثم جاءت الحرب الأخيرة التي أوقعت آلاف الضحايا وأضرارًا تفوق 14 مليار دولار. أنتم تعرفون هذا الواقع جيدًا، ولن أطيل فيه، لكن ما أود تأكيده أن هذه الأزمات المتراكمة لم تترك مجالًا للمواربة. الإنقاذ لا يكون إلا عبر إصلاح فعلي يؤسس لدولة حديثة، تستعيد ثقة المواطنين، وتحظى بثقة العالم".
تابع:" أولًا: الاستقرار الأمني والسياسي: اسمحوا لي أن أكون في منتهى الوضوح: لا يمكن تحقيق الاستقرار في لبنان طالما استمرّت الانتهاكات الإسرائيلية، وبقي الاحتلال قائمًا لأجزاء من أرضنا، وأسرانا في سجون العدو. من هذا المنطلق، نكثّف الضغوط السياسية والدبلوماسية لتنفيذ القرار 1701، ونوفّر كل ما يلزم لضمان العودة الكريمة لأهلنا، وإعادة إعمار ما دمّره العدوان. في موازاة ذلك، تواصل الدولة، انسجامًا مع اتفاق الطائف وبيان حكومتنا الوزاري جهودها لبسط سلطتها الكاملة على جميع أراضيها بقواها الذاتية، بهدف حصر السلاح في يدها وحدها. وقد عزّزنا السيطرة على مطار رفيق الحريري الدولي والطريق المؤدي إليه عبر إجراءات إدارية وأمنية صارمة للحد من التهريب وتعزيز السلامة العامة، كما أطلقنا تعاونًا مباشرًا مع الجانب السوري لضبط الحدود، ومكافحة التهريب، وتأمين العودة الآمنة والكريمة للنازحين".
أضاف: "أما على المستوى الإقليمي، فقد اتّخذنا قرارًا واضحًا بإعادة وصل لبنان بعمقه العربي، لاستعادة موقعه الطبيعي كشريك فاعل في مسارات التنمية، وتنشيط التجارة البينية، وجذب الاستثمار. ولهذا الهدف، قام فخامة رئيس الجمهورية بزيارات خارجية، فيما شاركتُ بدوري في القمة العربية في بغداد، وزرت المملكة العربية السعودية، والإمارات، وسوريا. لم تكن هذه المحطات مجرّد زيارات بروتوكولية، بل خطوات عملية لإعادة تفعيل علاقات لبنان مع محيطه العربي، والانخراط مجددًا في ديناميكيات التعاون الإقليمي. المنطقة تمرّ في تحوّل تاريخي، ولبنان لا يمكن أن يبقى على الهامش. لا نهوض خارج عمقه العربي، ولا مستقبل دون شراكة قائمة على الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة".
وقال:"ثانيًا: الإصلاح المالي والاقتصادي: يشكّل هذا الإصلاح ركنًا أساسيًا في مسار التعافي الوطني. فلا خدمات عامة مستدامة، ولا فرص استثمار حقيقية، ولا إمكانية للنهوض، من دون استقرار مالي واقتصادي. رؤيتنا لا تقوم على إنكار الواقع أو الوعود الوهمية، بل على معالجة جذرية لأخطاء الماضي، وبناء نظام مالي ومصرفي حديث وفعّال وعادل. في هذا السياق، أقرينا قانون رفع السرية المصرفية كخطوة تأسيسية نحو الشفافية والمساءلة واستعادة الثقة. فالسرية لم تعد ميزة، بل أصبحت عبئًا على النظام المالي. كما أقرّ مجلس الوزراء مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، تمهيدًا لإقرار نظام مصرفي سليم، قادر على تمويل الاقتصاد وخدمة المودعين. وهو يشكّل الإطار القانوني الحديث لإدارة الأزمات المصرفية، وفق أفضل المعايير الدولية، بعد أن افتقر لبنان لآلية واضحة للتعامل مع تعثّر المصارف لعقود. ونحن نعمل على استكمال قانون الفجوة المالية، لأنّه يشكّل الأساس القانوني لتوزيع الخسائر بطريقة عادلة، ويحدّد الآليات الكفيلة باستعادة الودائع وفق أولويات واضحة. كما نسعى إلى الحفاظ على أصول الدولة وتعزيز قدرتها على تأمين خدمات أفضل، وقد حان الوقت لاستثمار هذه الأصول بطرق شفافة ورشيدة تُعيد الإيرادات إلى الخزينة العامة.
هنا اسمحوا لي أن أُشَدِّد، لا يمكن للاقتصاد أن ينتعش من دون إعادة تفعيل الدور الائتماني للمصارف. فالقطاع المصرفي ليس مجرّد وسيط مالي، بل محرّك أساسي للنمو، والاستثمار، وتحريك العجلة الإنتاجية. المطلوب اليوم هو قطاع سليم، يعود إلى تمويل الاقتصاد الحقيقي، لا سيما القطاعات الإنتاجية والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. فبدون تدفّق جديد للائتمان، تبقى الدورة الاقتصادية مشلولة، والاستثمار مجمّد، والقطاعات عاجزة عن النهوض من الركود. أما على صعيد التعاون الدولي، فتتقدّم مفاوضاتنا مع صندوق النقد الدولي بمسؤولية وواقعية. الصندوق ليس عدوًا ولا منقذًا، بل أداة نستخدمها لتحقيق الاستقرار المالي ومواكبة الإصلاحات الهيكلية. وهدفنا توقيع اتفاق خلال ولاية هذه الحكومة. ندرك أن النمو الاقتصادي المستدام لن يتحقّق من دون تحفيز القطاعات الإنتاجية الأساسية، كالصناعة والزراعة والخدمات والاقتصاد الرقمي. من هنا تشمل أولوياتنا المباشرة: توسيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، خصوصًا في مشاريع البنية التحتية؛ وتخصيص دعم مباشر للقطاعات الأكثر تضررًا. كما نعدّ لمؤتمر استثماري في الخريف، لإعادة فتح لبنان أمام الاستثمارات المنتجة، إلى جانب تحديث القوانين الناظمة للأعمال، وتحفيز التصدير. وقد أطلقنا أيضًا خطة سياحية متكاملة، لتشجيع عودة المغتربين، واستقبال السياح العرب إلى وطنهم الثاني، لبنان. ونؤمن أن النمو لا يكتمل من دون توزيع عادل للفرص بين كل المناطق. من هنا كانت زياراتنا الميدانية إلى الجنوب والبقاع والشمال، لتحديد الحاجات الإنمائية، ومن أبرز المشاريع التي نتابعها: مشروع مطار رينيه معوض في القليعات، حيث أُنجز المخطط التوجيهي، ونباشر إعداد دراسة الجدوى تمهيدًا لإطلاقه، نظرًا لأثره التنموي الكبير، لا سيما في منطقة الشمال. نحن اليوم حرصاء على الاستماع إلى ملاحظاتكم بشأن هذه الرؤية، وقياس مدى توافقها مع أولوياتكم، لأن نجاح أي خطة اقتصادية مرهون بشراكة حقيقية مع القوى الحيّة التي تمثّلونها".
أضاف:"ثالثًا: الحوكمة واستعادة مؤسسات الدولة: إنّ إصلاح المؤسسات العامة ليس مجرّد بند إداري، بل ركيزة أساسية للنهوض الوطني. ونحن اليوم نعمل على بلورة رؤية واضحة لتحديث الإدارة العامة تدريجيًا، من خلال تعيينات مبنية على الكفاءة، وتفعيل الهيئات الرقابية المستقلة، واعتماد التحوّل الرقمي كمسار إلزامي لتحقيق الحوكمة الرشيدة. كما نُعدّ لإطلاق مسار إصلاحي يعيد الاعتبار لمعايير الجدارة بدلًا من منطق المحاصصة، ويؤسّس لإدارة عامة محترفة، فعّالة، ومحصّنة من التدخلات السياسية. هذا التوجّه ليس ترفًا، بل شرطٌ لأي تعافٍ مستدام، ولإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. إعادة بناء الدولة لا تبدأ من رأس الهرم، بل من ترسيخ مبادئ الشرعية والمساءلة في مؤسساتها. ومن هذا المنطلق، بدأنا بتكريس احترام الاستحقاقات الدستورية من خلال إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية بعد تسع سنوات من التعطيل، ونحن نستعد اليوم لتنظيم الانتخابات النيابية، تأكيدًا لالتزامنا الديموقراطية كمدخل للاستقرار. ولأن لا إصلاح من دون إدارة كفوءة، اعتمدت الحكومة آلية جديدة للتوظيف في القطاع العام، ترتكز على الشفافية، والجدارة، والتنافسية، بهدف كسر منطق المحسوبيات، ووقف النزيف البشري من الإدارات، وتحسين جودة الخدمات العامة. وقد تمّ بموجب هذه الآلية تعيين رئيس وأعضاء مجلس الإنماء والإعمار، ونعمل على استكمال تعيين الهيئات الناظمة للكهرباء والاتصالات والطيران المدني، بعد سنوات من الجمود والتأجيل".
وقال:"في موازاة ذلك، وضعنا استقلالية القضاء في صلب أولوياتنا، فأقرّ مجلس الوزراء مشروع قانون استقلال القضاء، وهي خطوة مفصلية تهدف إلى تحصين العدالة من التدخلات، وإعادة بناء ثقة الناس بالقضاء.
أما على مستوى الإدارة الرشيدة للموارد العامة، فقد عملنا على استرداد مراسيم الأملاك البحرية الممنوحة بشكل مخالف للقانون، وأوقفنا تمديد تراخيص الكسارات العشوائية، حمايةً للمال العام والمصلحة البيئية والوطنية. ونواكب هذه الإصلاحات بمسار موازٍ لتحديث البنية التحتية. وعلى المستوى الثقافي، نؤمن أن استعادة هوية الدولة تمرّ أيضًا عبر إحياء ذاكرتها. لذلك، نعمل على تحويل مكتبة بيروت العامة إلى مركز ثقافي، وأعدنا افتتاح مدينة كميل شمعون الرياضية بعد سنوات من الإهمال، لأن الرياضة والثقافة جزء لا يتجزأ من الحياة العامة. كل تلك الإجراءات ليست متفرقة أو رمزية، بل تندرج ضمن مشروع متكامل لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتكريس حكم القانون، واستعادة الثقة المفقودة بين المواطن والإدارة. فبدون مؤسسات فاعلة وشفافة، لا يمكن الحديث عن إنقاذ حقيقي أو مستقبل مستقر".
تابع:"رابعًا إعادة الإعمار: إن
إعادة الإعمار ليست مسألة هندسية أو مالية فحسب، بل هي أيضًا عملية سياسية واقتصادية واجتماعية تهدف إلى تثبيت الناس في أرضهم، واستعادة ما دمّرته الحرب من ثقة، وبُنى، وكرامة.
لقد تعهّدنا بإعادة بناء ما دمّره العدوان الأخير، ونعمل على إطلاق جهود الإعمار ضمن أطر شفافة ومسارات خاضعة للمساءلة والمحاسبة. وفي هذا الإطار، أمّنا حتى الآن قرضًا بقيمة 250 مليون دولار من البنك الدولي لتمويل مرحلة إعادة الإعمار الفوري، بانتظار إقراره في مجلس النواب. كما نعمل بالشراكة مع وكالات الأمم المتحدة على تنفيذ مشاريع تفوق قيمتها 350 مليون دولار في الجنوب، تغطي قطاعات التعليم، والصحة، والمأوى، والأمن الغذائي، ضمن خطة دعم تمتد لأربع سنوات. ونؤمن أن مشروع إعادة الإعمار لا يكتمل من دون دعم أشقائنا العرب. من هنا، نتطلّع إلى مساهمة فاعلة تُعيد بناء ما تدمّر، وتُعزّز قدرة لبنان على النهوض.
كما نعمل بالتوازي على التحضير لمؤتمر دولي لإعادة الإعمار، من المتوقع عقده خلال الأشهر المقبلة، ليكون محطة جامعة لتكثيف الدعم وتنسيق الجهود تحت قيادة الدولة اللبنانية ووفق أولويات واضحة".
وقال: "ما طرحته اليوم ليس مجرّد عرض حكومي، بل دعوة مفتوحة إلى شراكة وطنية مسؤولة، تُدرك حجم التحديات وتتمسّك بفرصة الإنقاذ. نجاح هذا المسار لا يمكن أن يتحقّق بجهد الحكومة وحدها، بل يتطلّب تعاونًا جماعيًا بين مختلف الأطراف، وفي طليعتها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ومكوّناته الفاعلة. فأنتم تمثّلون شرائح واسعة من المجتمع، ومنصّتكم هذه يجب أن تبقى حيّة، نقدية، اقتراحية، وشريكة في القرار.
نتطلّع إلى تفعيل دور هذا المجلس أكثر من أي وقت مضى، ليكون حلقة وصل حقيقية بين الدولة والمجتمع، وجسرًا للحوار البنّاء، ومصدرًا لتغذية السياسات العامة من قلب الواقع".
ختم:"نحن لا ندّعي أنّ الطريق سهل، ولا نزعم أن التحديات أصبحت خلفنا. لكننا، منذ اليوم الأول، اخترنا ألا نهادن، وألا نراوغ. اخترنا أن نواجه، وأن نبدأ، مهما كان المسار صعبًا. وأتطلّع شخصيًا إلى الاستماع إلى مداخلاتكم، واقتراحاتكم، وتقييمكم. فكل ما نقوم به اليوم لا يكتمل من دون مشاركتكم، ولا يصحّ من دون مساءلتكم. دعونا نُعيد للبنانيين ثقتهم بدولتهم. دعونا نُعيد الاعتبار لمعنى الدولة".
ثم تحدث عربيد، وقال: "أكثر من عشرين عاما مروا على حضوركم الأول في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
أعوام راكمتم فيها خبرات ثمينة في مسيرةٍ طويلة من العمل والنجاح، من لبنان إلى العالم، ومن العالم لأجل لبنان.
دولة الرئيس، أنتم تعرفون هذه المؤسسة جيدا.
لكننا اليوم في أيام غير الأيام، وفي مؤسسة غير تلك التي شهدتم انطلاقتها الأولى.
لقد نضجت هذه المؤسسة، واكتسبت شخصيتها الخاصة الفريدة، واتخذت لنفسها هوية خلاقة ومطلوبة ضمن مؤسسات الخدمة العامة في لبنان.
وقيمة هذا النضج لا تكمن في كونه تغييرا لأهداف الانطلاقة، بل في كونه تطويرا دائما ويوميا للوسائل والأدوات وتوسيعا للرؤى والاتجاهات".
أضاف :"ونحن إذ ننطلق اليوم إلى غد آخر، مختلف ومليء بالأمل والحذر في آن واحد، نقدم هذا الدور الجديد المتبلور للمجلس، ليكون في خدمة الزخم المولود من إرادتكم وإرادة فخامة الرئيس واللبنانيين بالبحث عن الدور والمكانة والذات في عالم يعلو فيه ضجيج الطموحات الفردية والجمعية، وتتوحش فيه الوسائل، وتئن فيه الأرواح المتطلعة إلى عدالة مفقودة في كل مكان.
ولذلك، فإننا نرى في التعاون مع دولتكم، طريقا واعيا نطمح فيه إلى مؤسسة مفيدة وفاعلة وعصرية، تكون مساحة تشاركية فريدة بين مزاج الناس وتطلعاتهم، وبين دولتهم.
يمثل المجلس اليوم صلة الوصل المجسدة والممأسسة، واستطلاع الرأيِ الدائم والمستمر، وأداة القياس لحقيقة المناخ العام، ومختبر نقاش الخيارات قبل انتخابِ القرارات، ثم تلمس أثر السياسات استباقيا، من قبل أصحاب الاختصاص والمصلحة والمعرفة.
وهو مكسب إضافي للدولة، لكنه اليوم بحاجة إلى الاحتضان والرعاية، وإلى تعزيزه بجهازٍ إداري في الحد الأدنى من العديد والموارد، لمواكبة الرغبة الصادقة بالخدمة العامة التي يصر الأعضاء المتطوعون على تأكيدها".
وتابع :" دولة الرئيس، في هذه المساحة، سوف تجد دائما الكفاءات والخبرات المفيدة والمتحفزة عند التفكير في حلول للمشكلات المضنية. وسيكون المجلس كتلة طاقة دافعة للجهد الوطنيِ المخلص، وهو اليوم يحاول أن يعمل بالقدرات المتاوفرة. لكن دوره الأمثل في إنضاج آراء مصاغة بعناية التوافق القطاعي والوطني والمنزهة عن التنازع السياسي، يتطلب التجديد، ليتناسب مع التطورات الجارية في لبنان وخارجه.
إن الاتحادات والهيئات والنقابات والمواطنين وأصحاب الفكر والكفاءة، يكثفون طاقاتهم في أوراق مختصرة، رشيقة لكن مشبعة، من الوصفات المفيدة والرصينة، التي تبتعد من فتنة المطولات اللغوية، وتقترب من واقعية النصحِ المباشر والمفيد لصناع القرار، لتوسيع خياراتهم وتسهيل مهماتهم".
أضاف :"إن رسم السياسات العامة الرشيدة يستوجب مقاربة العمل المؤسساتي من منظار الشمول والتخصص، والتمثيل الصحيح للقطاعات. لذلك نتطلع إلى صدور مرسوم الهيئات الأكثر تمثيلا، الذي يمكن أن يرشق عمل المجلس، ومخرجاته.
ومن المهمات التي تبرز اليوم، تلك القضايا الجوهرية التي تحتاج إلى الحلولِ الفاعلة في سياق إعادة تنشيط الاقتصاد الوطني وتصحيح وضعية قطاعاته وناسه.
وهكذا، فإن قضية ودائع اللبنانيين تتجاوز البعد المتعلق بالعدالة والحق المكفولِ لكل مواطن بماله وتعبه، لتكون أساسا ضروريا في استعادة الثقة بالدولة ومؤسساتِها وسياساتها. إن قضية الودائع هي في الأصل موضوع أخلاقي، ثم إنها ترتبط بصورة وثيقة بحلول متوازنة لأزمة القطاع المصرفي، والعلاقة بين القطاع والسياسات المالية والنقدية للدولة.
والنظر من هذه الزاوية، يوفر علينا الجدل المستمر منذ سنوات حول المسؤوليات والخسائر. نحن الآن نبحث في مستقبل لبنان، الذي لا يمكن أن يكون يقينيا من دون اطمئنان الناس إلى ضمانة الدولة لحقوقهم وثقتهم بها، وهو مستقبل نؤكد بواقعية أنه يمكن أن يكون مربحا للجميع، إذا أحسنا صنيعا".
واستطرد عربيد : "إن أولويتنا كمجلس تتمحور دائما حول القضايا الاجتماعية كهدف أكبر للسياسات الاقتصادية، إذ لا "اجتماعي" من دون "اقتصادي"، ولا "اقتصادي" من دون "سياسي".
ومكافحة الفقر واحدة من أهم القضايا التي نقاربها من باب الحلول المستدامة، وليس من باب العطاءات الدائمة التي تعيق المجتمع والاقتصاد والدولة معا. فالطريقة الأكثر استدامة لمكافحة الفقر هي الاستثمار طويل الأمد بالتعليم النوعي الأكاديمي والمهني، الذي يمكن المواطنين، في المدى المنظور، من الإمساك بمصيرهم، والترقي في سلم الحياة.
ثم إن المواطن النشط يتطلع إلى أجر مناسب لجهده وحقه في الحياة الكريمة المؤمنة بسياسات عامة رشيدة وكفوءة، وهذا ما يؤكد محورية إعادة الاعتبارِ للأجور، وتصحيح واقع الضمان وسياسات الحماية الاجتماعية وتوفير الحق بالتعليم النوعي المتناسب مع الاتجاه العالمي للتعليم الحديث، وتزايد المنافسة في سوق العمل، وضرورة إنتاج الكفاءات الوطنية، التي لايزال العالم ينتظرها في كل حقل وميدان، والتي لطالما أنقذتنا في الأيام الصعبة.
وقد كانت لكم تجربة مشرقة في المؤسسات الدولية التي وجدت في كفاءتكم إضافة نوعية، وجوابا على حاجة ضرورية.
وبهذا الفهم، ننظر إلى تطوير الاقتصاد الوطني وتحديثه، ليكون منتجا للإبداع ومحورا لخلق الفرادة الاستثنائية التي ميزت اللبنانيين، وهذا يصلنا بموضوعين أساسيين:
الاستثمار بسرعة وقوة في قطاع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي اللبناني، الذي يمتلك الطاقات البشرية النادرة، ولا تنقصه سوى البنى التحتية ومواكبة ورعاية السياسات العامة بأبعادها المختلفة تشريعيا وتنفيذيا".
وتابع :" وتثمين القيمة التي يحملها لبنان بكل مضامينه، وهنا يأتي مشروع "براندينغ ليبانون"، أي وضع استراتيجية وطنية لبناء، تطوير وحماية العلامة الفارقة لبنان، والذي نشكر دولتكم على تكليفنا تنسيقه مع الجهات المعنية في الدولة والمجتمع. إننا نتطلع من خلال ذلك إلى لبنان الجاذب. المستدعي للفرص والاستثمارات والكفاءات، لا للصراعات.
من هذا المنطلق، منطلق الطاقات الوطنية الوفيرة، نؤكد أن التعاون مع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، مهم جدا للبنان. هو اتجاه مطلوب، لكنه ليس الاتجاه الوحيد. إن الجهد الأكثر استدامة يجب أن يكون مستندا إلى القدرات الوطنية الذاتية، التي تستفيد من التعاون مع العالم، لتعزز فرصها وتستفيد من طاقاتها الوطنية".
وأردف عربيد :"ومرة جديدة، نحن نؤمن بأن الإصلاح في لبنان ليس مهمة نبيلة لسياسييه فحسب، بل هو حاجة ملحة مصيرية من أجل الحاضر والمستقبل الذي ينتظرنا، في منطقة أرهقتها الصراعات، لكنها مليئة بالفرص وبالإرادات الخيرة من الأشقاء العرب الذين يتطلعون إلى نهوض لبنان ومستعدون، مرة أخرى، لمساعدته على الوقوف والتوهج، وهم الذين رافقوا فترات صعوده وأسسوا لها منذ اتفاق الطائف، وما تلاه من محطات.
لكن لبنان اليوم بحاجة إلى محرك وقوة دافعة للأحداث الإيجابية وللنمو. ولا بد لهذه القوة من أن تكون واعية وجاهزة وعادلة قبل كل شيء.
إن العدالة هي الرئة المغذية للسياسات الصحيحة، ومن دونها تتراكب المشكلات، وتعم الفوضى، ويغيب التناغم في ما بينها.
إن ملامح الظلم تدمر مخرجات هذه السياسات في منحدرات عدم الإنصاف والتمييز التي تتخذ في لبنان بسرعة أوجها طائفية وحزبية ومناطقية".
وختم عربيد : دولة الرئيس، نشكر لكم هذه الزيارة التي تشكل محطة استثنائية في مجلسنا، تمدنا بالدفع والتحفيز، وتعبر عن الثقة بالمؤسسات الوطنية وبقدراتها، التي نلتزم دائما بأن تكون ورقة رابحة في خطتكم للنهوض بلبنان، وتحويله من حقل ألغام ورماية إلى حقل إنتاج وحماية وفرح وحياة".