الوجه الحضاري في لبنان يصطدم بجدار العنصريّة... لا قانون عقوبات في المنظومة التشريعيّة
القضاء على هذا الانحراف الأخلاقي يحتاج الى وعي جماعي يعترف بالتنوّع كقوة
ربى أبو فاضل - الديار
لطالما عرف لبنان على أنه "سويسرا الشرق"، بلد التنوع والانفتاح والتعددية الثقافية والدينية، وموطن الحريات والإبداع والفن والتعليم الراقي. فاللبناني وكما هو معروف، إنسان متحضر، متعلم، يتقن لغات متعددة، ومحب للغرب والثقافات المختلفة، غير أن هذا الوجه الحضاري يتهاوى حين نصطدم بواقع العنصرية المتجذرة في تفاصيل الحياة اليومية. فعلى الرغم من التقدّم الحضاري والتقني، تبقى العنصرية من أكثر الظواهر الاجتماعية تفشيا وانتشارا، ليس في لبنان فحسب، بل في مختلف أنحاء العالم، عنصرية لا تستثني أحدا، وتقف عائقا أمام تحقيق العدالة والمساواة بين البشر.
يعرف التمييز العنصري في القانون الدولي، بأنه "أي تمييز أو استبعاد أو تقييد أو تفضيل قائم على أساس العِرق أو اللون أو النسب، أو الأصل القومي أو الإثني، يكون من شأنه إبطال أو تقويض الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، أو التمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة."
لا يولد الإنسان عنصريًا، بل يتعلم التمييز عبر تراكمات نفسية واجتماعية وثقافية، تغذيها التربية والبيئة المحيطة، فواحدة من أبرز أسباب التمييز تكمن في الجهل والخوف من الآخر، حيث يؤدي غياب المعرفة بالاختلافات الثقافية أو العرقية إلى خلق صور نمطية، تبرر الكراهية والرفض. كما تسهم التنشئة الاجتماعية في ترسيخ هذه الممارسات، إذ يكبر بعض الأفراد في بيئات تكرس دونية الآخر المختلف. إلى جانب ذلك، يلجأ البعض إلى التمييز كوسيلة لاثبات تفوقهم أو الدفاع عن هوية جماعية يشعرون أنها مهددة، خاصة في المجتمعات المتعددة والمنقسمة. ولا يمكن إغفال البعد الاقتصادي، إذ تتفاقم مشاعر الكراهية والعنصرية في فترات الأزمات، حين ينظر إلى الفئات المهمشة كتهديد للموارد وفرص العمل.
وفي هذا السياق، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا بمقطع فيديو للمواطنة لمى الأمين وهي ممثلة ومخرجة لبنانية، تتحدث فيه عن حادثة عنصرية تعرضت لها في مطار رفيق الحريري الدولي، حيث وجه إليها أحد عناصر الأمن العام اللبناني إهانة مباشرة، وذكرت أن هذه الحادثة ليست الأولى " سواء من بعض المواطنين أو عناصر الأمن في المطار"، وطالبت باعتذار رسمي وبقانون يحمي من العنصرية والتمييز، عبر نداء علني لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون،الذي بدوره وعد باتخاذ إجراءات لمنع تكرار الموقف الذي تعرضت له.
من جهتها، أعلنت المديرية العامة للأمن العام أنها تحقّقت من صحة الحادثة وتفاصيلها، مؤكدة اتخاذ التدابير المسلكية المناسبة حيال العنصر المخالف.
للعمل من أجل التخلّص من هذه الآفة
الاختصاصية الاجتماعية في قسم مناهضة الاتّجار بالبشر في منظمة "كفى" غنى العنداري، أكدت لـ "الديار" أن " العنصرية هي التمييز على أساس العرق او اللون او الجنسية، والتعرض للتمييز يؤدي إلى الشعور بالاهانة، و تؤثر في صورة الإنسان تجاه نفسه"، مشيرة الى انه "من الضروري العمل على المستوى الاجتماعي لتغيير العقلية السائدة والممارسات العنصرية في المجتمع اللبناني، من خلال التوعية والعمل الجدي للتخلص من هذه الآفة في مجتمعنا".
اضافت " نحن في منظمة كفى نتعامل مع نساء تتعرض للتمييز العنصري، وخصوصا العاملات المهاجرات من دول آخرى، ونعمل من خلال الحملات الإعلامية على تغيير أفكار مغلوطة تجاه هؤلاء النساء"، واكدت اننا "نسعى لحمايتهن عبر تغيير قانون العمل المجحف بحقهن، لتتم معاملتهن كغيرهم من العاملين في البلاد. ويعد نظام الكفالة مثالا صارخا للتمييز، فعندما نقول إن اصحاب العمل لديهم سلطة على العاملين لديهم، فهو نوع من أنواع التمييز العنصري وعلى الدولة تغييره".
اشارة الى ان نظام الكفالة هو الإطار غير الرسمي الذي ينظم علاقة العاملات المنزليات المهاجرات بكفلائهن في لبنان، ويمنح أصحاب العمل سلطات واسعة على العاملات بموجب هذا النظام، لا تستطيع العاملة تغيير كفيلها أو مغادرة مكان العمل أو إنهاء عقدها من طرف واحد، إلا بموافقته الخطية.
وقد وصفت منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" و "مناهضة العبودية الدولية" نظام الكفالة، بأنه أحد الأسباب الجذرية لهشاشة أوضاع العمالة المهاجرة في لبنان، كونه ينقل مسؤولية الرقابة من الدولة إلى الأفراد، ويخلّ بموازين القوى، كما وصفته منظمة العفو الدولية بـ "شكل مقنع من العبودية الحديثة"، داعيةً إلى إلغائه فورا، وتبني تشريعات تحمي حقوق العمال المهاجرين وتكافح التمييز العنصري ضدهم.
غياب الردع القانوني
وتعيد حادثة لمى الامين تسليط الضوء على مشكلة أعمق، تتجاوز الممارسات الفردية إلى بنية مؤسساتية تعاني من غياب الردع القانوني، حيث أكد مصدر قانوني أنه "رغم توقيع لبنان على الاتفاقيات الدولية المناهضة للتمييز العنصري، وأبرزها الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (1965)، إلا أنه يفتقر إلى قانون وطني شامل يجرّم العنصرية بشكل واضح وصريح. فالمنظومة التشريعية اللبنانية لا تحتوي على قانون عقوبات محدد، يعاقب على التصريحات أو الأفعال العنصرية، ما يترك الباب مفتوحا أمام الإفلات من العقاب".
واشار المصدر الى انه "في بعض الحالات، يمكن اللجوء إلى مواد عامة في قانون العقوبات اللبناني (مثل القدح والذم والتحقير)، لكن هذه المواد لا تكفي، إذ إنها لا تغطي كل أشكال التمييز، ولا تعالج التمييز البنيوي أو المؤسسي، ولا تضمن الحماية الكافية للضحايا"، مضيفاً "ما لم يقنن التمييز العنصري بوضوح ويجرم في القوانين اللبنانية، فستبقى الانتهاكات مغطاة بثغرات قانونية، ويصعب محاسبة المرتكبين."
واكد المصدر ان "العنصرية ليست مجرد انحراف أخلاقي، بل تهديد مباشر لقيم الإنسانية والعدالة والسلام. القضاء عليها لا يتم فقط بسن القوانين، بل يحتاج إلى تغيير في العقليات، ووعي جماعي يعترف بالتنوع كقوة، لا كحجة للتفرقة في عالم تتسارع فيه العولمة، فمستقبل المجتمعات يتوقف على مدى قدرتها على احتضان الاختلاف لا نبذه".
يُحتفل باليوم الدولي للقضاء على التمييز العنصري سنويا، في اليوم الذي أطلقت فيه الشرطة في شاربفيل بجنوب أفريقيا النار وقتلت 69 شخصا، كانوا مشاركين في مظاهرة سلمية ضد "قوانين المرور" المفروضة من قبل نظام الفصل العنصري في عام 1960. وفي عام 1979، اعتمدت الجمعية العامة برنامج الأنشطة التي يتعين الاضطلاع بها خلال النصف الثاني من عقد العمل لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري. وفي تلك المناسبة، قررت الجمعية العامة أن أسبوع التضامن مع الشعوب التي تكافح ضد العنصرية والتمييز العنصري، يبدأ في 21 آذار، ويحتفل به سنويا في جميع الدول. ومنذ ذلك الحين تم تفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا٫ وإلغاء القوانين والممارسات العنصرية في العديد من البلدان".
لخطة وطنية شاملة متعددة الأبعاد
حادثة لمى الأمين ليست معزولة، بل هي مرآة لواقع مقلق يتطلب مواجهة حقيقية مع العنصرية المتغلغلة في المؤسسات والسلوكيات العامة. ولبنان بما يملكه من تراث ثقافي غني وتنوع سكاني كبير، مؤهل لأن يكون نموذجا حيا للعدالة الاجتماعية والعيش المشترك، لكن ذلك يتطلب شجاعة سياسية لتشخيص العنصرية كمشكلة وطنية، لا كمجرد حوادث فردية، وإرادة تشريعية لإقرار قانون يكافح التمييز بكافة أشكاله، ويضع الأسس القانونية لتربية جيل جديد أكثر احتراما للكرامة الإنسانية. فإصدار بيانات الإدانة والقيام بإجراءات تأديبية ظرفية ليس كافيا، فلا بد من خطة وطنية شاملة متعددة الأبعاد، تنطلق من التوعية وتصل إلى التشريع، مرورا بالمؤسسات التربوية والإعلامية. ولعل الاعتراف بالمشكلة هو أول خطوة نحو معالجتها، فالمجتمعات التي تواجه أمراضها بصدق، هي وحدها القادرة على التعافي والنهوض.
شرعة حقوق الإنسان
تجدر الإشارة، إلى أن لبنان وافق على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري التي أقرّتها لجنة القضاء على التمييز العنصري في الأمم المتحدة. كما أنّه ساهم في صوغ شرعة حقوق الإنسان، واعتمدته الجمعية العامة في باريس في 10 كانون الأول 1948 بموجب القرار 217 ألف، بوصفه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه جميع الشعوب والأمم. ولعلّ أبرز النقاط التي تناولتها شرعة حقوق لإنسان حول التمييز، جاءت في المواد الست الأولى منها، وهي:
- المادة 1: يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء.
- المادة 2: لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي السياسي وغير السياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلا أو موضوعا تحت الوصاية أو غير متمتِع بالحكم الذاتي، أم خاضعا لأيِّ قيد آخر على سيادته.
- المادة 3: لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه.
- المادة 4: لا يجوز استرقاقُ أحد أو استعبادُه، ويُحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما.
- المادة 5: لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة.
- المادة 6: لكلِّ إنسان في كلِّ مكان، الحقُّ بأن يُعترَف له بالشخصية القانونية.