القضاء ميزان العدالة والدولة

القضاء ميزان العدالة والدولة

image

عون يرفع الغطاء السياسي عن المحسوبيات ويعلن ساعة الإصلاح القضائي

داود رمال - "أخبار- اليوم"

في لحظة سياسية دقيقة تعصف بها الأزمات الاقتصادية والانقسامات المؤسساتية وتحديات الأمن والعدالة، حمل رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون رسالة بالغة الدلالة خلال زيارته المفاجئة إلى وزارة العدل وقصر العدل في بيروت. لم تكن هذه الزيارة بروتوكولية ولا عابرة، بل جاءت لتؤسس لموقف رئاسي صارم وحاسم في لحظة تحتاج فيها الدولة إلى استعادة بعض من هيبتها، وإلى تفعيل السلطة القضائية بوصفها الحصن الأخير لعدالة اللبنانيين وصمّام أمان لمستقبل البلاد.

ما قاله الرئيس عون لم يكن مجرد خطاب تعبوي، بل هو إعلان نية لإخراج القضاء من محنته الطويلة، التي تنازعتها الضغوط السياسية، وتواطؤ بعض أهل السلطة، والشلل الذي أصاب الجسم القضائي منذ أعوام. لقد خاطب القضاة مباشرة وبنبرة صارمة، طالباً منهم أن يكونوا عادلين، وأن يحكموا بالحق لا بالميل، مستندين إلى القوانين المرعية الإجراء لا إلى التوجيهات السياسية أو الاعتبارات الطائفية. وهذا وحده كافٍ لأن يعتبر بداية تحوّل في نظرة الرئاسة الأولى إلى دور القضاء، بعد سنوات كان فيها القضاء ميدانا للمحاصصات والتوازنات السياسية.

الرئيس عون لم يكتف بالرمزية، بل دخل في عمق المعضلة القضائية. في لقائه مع وزير العدل القاضي عادل نصار، ومن ثم رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، والمدعي العام التمييزي القاضي جمال الحجار، ورئيس التفتيش القضائي القاضي أيمن عويدات، والمدعية العامة المالية القاضية دورا الخازن، عبّر عن دعمه الكامل للقضاة إذا ما التزموا العدل وتحرّروا من الضغوط، قائلاً بوضوح: "كونوا عادلين فلا تبرّئوا مجرماً ولا تجرموا بريئاً". هنا يتجلّى موقف سياسي ـ أخلاقي ينحاز إلى دولة القانون لا إلى الدولة العميقة، وينحاز إلى مصلحة الوطن لا إلى مصلحة زعمائه.

الرسالة الأكثر حسماً جاءت حين أكّد عون أن "قطار الإصلاح انطلق ولا رجوع عن مكافحة الفساد". هذه العبارة، رغم أنها قد تبدو مألوفة في الخطاب السياسي اللبناني، إلا أنها تحمل وزنا مختلفا حين تُقال من رئيس الجمهورية إلى قضاةٍ كانوا حتى الأمس القريب عاجزين عن تحريك الملفات الكبرى أو الخوض في قضايا الفساد من دون تغطية سياسية. الرسالة هنا ليست فقط تحفيزية بل هي رفع الغطاء السياسي عن المحسوبيات، وتكريس مبدأ أن لا أحد فوق القانون، خصوصاً حين أكد على ضرورة إنجاز التحقيقات في الجرائم الكبرى، وعلى رأسها انفجار مرفأ بيروت، الذي لا يزال جرحا مفتوحا في وجدان اللبنانيين والعالم.

وقد لامس عون في حديثه مع المدعي العام التمييزي جوهر أزمة القضاء، حين أشار إلى أن الإصلاحات مهما كانت ضرورية، تبقى عديمة الجدوى ما لم يواكبها قضاء قوي وعادل ومستقيم. وهو بذلك يربط مصير الدولة بمصير القضاء، ويعيد الاعتبار لسلطة فقدت ثقة المواطنين بسبب التلكؤ، التدخلات، والتأجيل المستمر في إصدار الأحكام، لاسيما في ملفات الفساد والإرهاب والتهريب والاعتداء على المال العام.

ولعلّ أخطر ما أضاء عليه الرئيس عون في خلال هذه الجولة هو تعرّض الجسم القضائي لحملات تشويه وضغوط منظمة من قبل جهات تخشى عودة القضاء إلى العمل بفاعلية. لقد فضح من يهاجم القضاء عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ووصفهم بأنهم "منزعجون لأنهم يخافون على مصالحهم". بهذا الكلام، يكون الرئيس قد وضع إصبعه على الجرح، وحدد العدو الحقيقي للقضاء: لوبيات الفساد التي لا تريد قضاءً فاعلاً، بل قضاءً خاضعاً.

في لقائه مع القاضية دورا الخازن، شدد عون على وحدة الجسم القضائي، وعلى ضرورة العمل بتناغم وتنسيق بين مختلف الأجهزة القضائية، بعيداً عن المحاصصة أو الاعتبارات الطائفية، لأن "الفساد لا طائفة له ولا مذهب ولا دين". وهنا يتجاوز عون وظيفة رئيس الدولة إلى دور الحَكَم الذي يريد أن يعيد ترتيب البيت الداخلي للدولة من خلال تحصين القضاء كمدخل لكل إصلاح.

الرئيس عون بدا حاسماً في رفضه أن تُفَوّت هذه الفرصة الإصلاحية، داعيا القضاة إلى حماية عملهم من الترغيب والترهيب، مؤكداً أن "القوانين وجدت للتطبيق، ولكن لا قيمة لها من دون ضمير حي وأخلاق في التنفيذ". هذه العبارة الأخيرة تختصر فلسفة العدالة التي يريدها رئيس الجمهورية، حيث لا يكفي وجود النصوص إذا لم تقترن بإرادة قضائية حازمة ومستقلة.

الزيارة بمجملها تحمل أبعادا دستورية وسياسية وإصلاحية عميقة. فهي تشي بتحوّل في تعاطي رئيس الجمهورية مع القضاء، من سلطة تحتاج التوازنات إلى سلطة تحتاج التحرر. وهي أيضا تعيد وضع القضاء في صدارة المؤسسات القادرة على استعادة الثقة بالدولة، متى ما توفرت الإرادة الصلبة والنزاهة والكفاءة. وفي لحظة انعدام الثقة بين المواطن والدولة، لا بد من أن يأتي التصحيح من داخل المؤسسات، وأولها القضاء، حيث تتلاقى هيبة الدولة مع حقوق الناس.

إنها لحظة مفصلية، وقد تكون بداية الطريق الطويل نحو دولة القانون لا دولة التسويات، ودولة المؤسسات لا دولة المزارع، بشرط أن تواكب هذه الزيارة خطوات عملية لا تتوقف عند الخطابات، بل تترجم في التشكيلات القضائية، في المحاكمات، وفي المحاسبة بلا استثناءات. وحدها العدالة تعيد للدولة روحها، ولبيروت هيبتها، وللبنانيين الأمل.