لبنان ليس كياناً مرحليّاً يتبع "أُمّة" يحكمها الولي الفقيه نيابةً عن صاحب الزمان
"النهار"- فادي تويني
في العام 1998 صدر عن "دار النهار للنّشر" كتاب بعنوان "دولة حزب الله: لبنان مجتمعاً إسلاميّاً" لأستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية والكاتب السياسي في جريدة "الحياة"، المعروف بجرأته، وضّاح شرارة. فلم يكن مألوفاً في ذلك الوقت الكلام على "حزب الله"، أو أن يتحدّث "حزب الله" عن نفسه، خارج العناوين المؤيّدة لمقاومة إسرائيل التي كان شطر من جنوب لبنان ما زال تحت احتلالها. فما بالك، إذا،ً بكتاب نقديّ يقوّم التحوّلات التي طرأت على مجتمع جبل عامل (جنوب لبنان) في العقود التي سبقت الحرب الأهلية، وخلالها، وما نجم عنها من هجرة، طوعية أو قسريّة، إلى ضواحي بيروت، لا سيما الأحياء الجنوبية منها، التي بدورها عرفت تحوّلاً تدريجيّاً، ثُمّ متسارعاً مع نموّ الحزب وإمساكه الشامل بها.
وما كان هذا التحوّل ليحصل في البيئة الشيعية اللبنانية بالشكل الذي حصل فيه لولا تفكّك في بنية لبنان السياسية، كما الأمنية، على خلفية تفشي السلاح الفلسطيني فيه ودخول الجيش السوري الأراضي اللبنانية عام 1976 بحجة لجم هذا السلاح (بعد مدّه وتشجيعه). ثم ما لبثت أن تلت دخول الجيش السوري صدمتان، لا تقل الواحدة عن الأخرى خطراً على الكيان اللبناني. فالصدمة الأولى كانت الثورة الإيرانية سنة 1979 وإرساءها نظاماً دينياً ذا طموحات إقليمية. وأما الصدمة الثانية، اتي تضافرت مع الأولى، فكانت اجتياح إسرائيل لبنان سنة 1982 واحتلالها شطراً من جنوبه دام حتى العام 2000. فما كانت إيران لتجد أرضاً خصبة لطموحاتها بين شيعة لبنان، على تنوّعهم الثقافي وعلمانية غالبيتهم، لولا احتلال إسرائيليّ متمادٍ، ولولا رعاية العرّاب السوري. فالحُكم السوري توسّل "المقاومة الإسلامية"، بعد ترويضها، كما المنظمات الفلسطينية المسلّحة من قبلُ، لمناورة إسرائيل بالوكالة، على نفقة جنوب لبنان، دون المسّ بالأمن السوري الداخلي.
وتباعاً، فلا اتفاق الطائف في العام 1989 ألغى التنظيم الإيراني المسلّح، مثلما فعل مع باقي الميليشيات في لبنان، معلّلاً بالاحتلال الإسرائيلي، ولا انسحاب إسرائيل من الجنوب في العام 2000 كان كافياً ليسلّم الحزب سلاحه وينتقل إلى العمل السياسي الصرف. ذلك أن مقتضيات الحكم السوري منعت ذلك، بعد فشل حافظ الأسد وأيهود باراك، في العام نفسه، في التوصل إلى اتفاقية سلام بين سوريا وإسرائيل، لاختلافهما على بضعة أمتار سياديّة حول بحيرة طبريا. فما كانت لمهمة الحزب المسلّحة أن تنتهي مع انخراطه ضمن النسيج السياسي اللبناني حسبما تقتضيه المصلحة اللبنانية، بل كان لمهمته أن تُرسم، فوق رأس اللبنانيين وعلى حسابهم، وفق ما تمليه سياسات سوريا وإيران. وعليه، وعلى الرغم من تضحيات لبنانيّة جسيمة، وبدلاً من أن يتلبنَن معها الحزب، ظلّ على خطّه، خادماً لسيّدين (سوري وإيراني)، مثل "أرلوكان"، شخصية "الكوميديا ديلّارتيه" الشهيرة، على حدّ وصف وضاح شرارة له.
فلو اعتبرنا، افتراضياً، أن السوريّين والإسرائيليّين توصّلوا في العام 2000 إلى تسوية، فهل كان لـ "حزب الله" من خيار حينئذٍ سوى تسليم سلاحه، بموجب اتفاقية التسوية المفترضة، شأنه شأن جميع الأحزاب اللبنانية؟ أو هل كان للبنان أن يواجه معضلة مزارع شبعا التي لم تعترف الحكومة السورية يوماً بالسيادة اللبنانية عليها؟ وبالعودة إلى كتاب شرارة، فتشخيصه "دولة حزب الله" كشف النقاب عن وجوه الحزب قبل أن تسقط عنها الأقنعة، تباعاً، أمام غالبية اللبنانيين. فصدمة اغتيال رفيق الحريري سنة 2005 وما تكشّف في أعقابها عن شبكة الاغتيال بقيادة مصطفى بدرالدين، تحت إمرة نسيبه والقائد العسكري للحزب، عماد مغنية، أيقظت اللبنانيين على واقع خطير تغافلوه على نفقتهم. إليكم، إذاً، بتنظيم مسلّح على الأراضي اللبنانية، تحتضنه بيئة لبنانية، عن قناعة أو مكرهةً، يقوم بعملية اغتيال، بحجم اغتيال الحريري، بقرار لم يُتخّذ بالضرورة في ضاحية بيروت بل، على الأغلب، في ضاحية دمشق بكفرسوسة حيث كان يقيم مغنية (وحيث اغتاله الموساد سنة 2008)، وحيث كان يجتمع بانتظام إلى قائد "فيلق القدس" اللواء قاسم سليماني، وإلى العميد محمد سليمان، المستشار الأمني الخاص للرئيس السوري الذي سبق له أن هدّد الحريري بتكسير لبنان على رأسه (ورأس وليد جنبلاط).
إذاً جنوح "حزب الله" نحو كيان سياسي وعسكري ذي قدرة متمادية غير قابلة للرّدع من جانب السلطات اللبنانية، أعطاه وزناً داخلياً راجحاً، أخذ يتعاظم بعد خروج القوات السورية من لبنان سنة 2005، إلى أن طغى على قرارات الداخل مع وصول ميشال عون إلى بعبدا. غير أنّ نقطة الذروة لم يبلغها الحزب إلا بعد انتخابات 2018 النيابية التي وصف قائد "فيلق القدس" سليماني نتائجها بأنها حوّلت "حزب الله" من "حزب مقاومة إلى حكومة مقاومة في لبنان".
فمع "حكومة مقاومة" دائمة في لبنان لا ينفصل عنها الحزب ولا يخرج منها، مقرونة بترسانة صواريخ "في غزة ولبنان" تشكّل "الخط الأمامي لمواجهة إسرائيل"، على حدّ تعبير قائد سلاح الجو في الحرس الثوري الإيراني، أمير علي حاجي زاده، اكتملت منظومة دولة "حزب الله" بما هو متاح على أرض الواقع. فإن لم تكن "دولة حزب الله"، في الواقع وبالتّمام، "الأمّة" المنتظَرة التي تطمح إليها عقيدة الحزب، فهي دولة أفضل ما توفّر "من حواضر البيت". وببلوغ "الممانعة" ذروتها مع العهد العوني، بدأت عملية العد العكسي لانحدارٍ أنذرت به عمليات مصرف لبنان في أواخر 2016 لاجتذاب الدولارات، بفوائد ربوية، من أجل وضع حد لتراجع ميزان المدفوعات. واقترن ذلك بمواقف خارجية خرقاء للعهد، وعزلة متفاقمة، وأداء داخلي رث أنهك الخزينة وأجهض أدنى فرصة لترتيب علاقات لبنان بدول الخليج أو بدول أوروبية مانحة. فأداء العهد لم يكن خيراً من أداء "صهر العهد" وأعوانه في وزارة الطاقة، منذ 2010، التي صارت مضرب المثل في فساد الحكم وعدم أهليته.
وما كان للانحدار السريع سوى أن ينتهي إلى ارتطام عنيف، تَمَثّل، سلمياً، في انتفاضة 17 تشرين الأول التي شملت كل أطراف لبنان ومكوّناته، إلا واحداً. فحزب الله آثر أن يدافع عن العهد وأن يمنع انحلاله، بدلاً من أن يمنع تداعيَ لبنان وإفلاسه. فإما "حكومة مقاومة" يُمسك الحزب بعِقالها، أو لا تكون حكومة. وهكذا كان. فتبخّرت مساعدات الدول المانحة، وانقطع حبل السُرّة مع صندوق النقد الدولي، وذهبت ورقة حكومة دياب الاصلاحية أدراج الرياح، إرضاءً لـ "حزب المصارف".
وعلى هذا النحو، فإن كان "حزب الله" في حاجة تقتضي ستارة مسيحية بلبنان تحجب رجحان كفّته في الحكم، وإمساكه بمفاصل الدولة، دولة "حزب الله" العتيدة، فميشال عون ما عاد يفي بالغرض. ذلك أنّ المسيحيّين، بنوع خاص، الذين أغفلوا حقيقة الرجل خلال مأساة 1989- 1990، جربّوا عهده بلحمهم الحيّ وأرزاقهم، قبل انفجار المرفأ وبعده، ليعرفوا ماهيته، واكتَووا. وإن كان أمين عام "حزب الله" قد ضاق بالوضع ذرعاً (كما باقي اللبنانيين)، ولم يعد يحتمل أن تتفكّك بين يديه منظومة له فيها اليد الطولى، بكلفة لا ترحم طرفاً دون آخر، فلا طائل من أوامره، من على الشاشات، إلى من يقطع الطرق، أو إلى البنك المركزي، أو إلى قيادة الجيش، أو لتفعيل الحكومة المستقيلة، طالما أنّ "دود الخلّ منه وفيه". فإن كان لـ"الحديث تتمة"، على ما أكّده السيّد نصرالله في خطبته لمناسبة "يوم الجريح"، وأنّ لحزبه "خيارات كبيرة ومهمّة"، خارج الضوابط القانونية، فالأجدر أن يتبصّر، بدايةً، ما في القالب من خميرة، قبل أن يُقدم على قَضْم ما تبقّى منه.
فإذا كان "حزب الله" قد وُلد من رحم الاحتلال وطموحات الثورة الإسلامية في إيران، فكان من المُرتجى، أو من التمنّي، أنْ يكتسب الحزب، بعد عمادته في أتون التحرير، شخصيّة لبنانية خاصّة به، يفترضها ولاؤه للبنان وضرورات المصلحة اللبنانية. إلا أنّ ما حدث بعد العام 2000، بخيار سوري، معطوف إيرانياً، حصر الحزب بسكّة مرسومة له سلفا،ً لا خروج عنها. فهل أنّ ترسيخ هذه السكّة العابرة للبنان وبنيته اقتضى تغييب السيّد موسى الصدر في صيف 1978 (زُهاء أشهر قليلة قبل الانقلاب على حكم الشاه في إيران) لأنّه كان يدرك أنّ لهوية لبنان حدوداً لا إمكانية عند القيادة الدينية الإيرانية على تقديرها، أو نيّة لدى القيادة السورية للقبول بها؟
في مقدمة الدستور اللبناني، ثمة تأكيد في فقرته الأولى على أن لبنان "وطن نهائي لجميع أبنائه" (وبناته). فهو ليس، على وجه الخصوص، كياناً مرحليّاً يتبع "أُمّة" يحكمها الولي الفقيه نيابةً عن صاحب الزمان، في انتظار فرجه المُرتجى، حينما سيملأ الأرض عدلاً. فالعدل الذي يتوخّاه اللبنانيّون، على تواضعه، إنما يريدونه في هذا الزمان والمكان. والعدل أساس الملك، كما قيل. ولا عدل دون مساواة في حكم القانون (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). فهل يقبل "حزب الله" بالمساواة أمام القانون، وتبعاته على الحزب، إن أصلح الخلل بين اللبنانيّين؟ وهل تقبل بكركي بالمبدأ عينه كما نصّ عليه الدستور؟
بكركي
"مجدُ لبنان أُعطيَ لهُ" هو شعار بكركي وإن لم يكن محصوراً بها. نبوءة إشعيا النبي مبشّراً بمجيء المسيح تكتمل آيتها كالآتي: *(مَجدُ لبنانَ أُعطِيَ لهُ، وبهاءُ الكَرمَل والشّارون، فيرَى كلُّ بشَرٍ مجدَ اللهِ وبَهاءَ الربِّ إلهِنا)* (35:2)؛ أيضاً في إشعيا الآية البديعة التالية: *(مَجدُ لبنانَ إليكَ يَأتي: السَّرْوُ والشّربينُ والسِّنديانُ جميعاً، فيكونُ زينةً لمَقدِسي ومجداً لموطِئِ قدَميَّ.)* (60:13).
آية إشعيا، شعاراً لبكركي، إن دلّت على خاصّة للبطريركية المارونية، فإنما تدلّ على تلاصقها، في الهوية والعقيدة، بالكيان اللبناني. وإنّ أحداً لا يستهين بإسهام بكركي، والبطريرك إلياس الحويّك تحديداً، عقب الحرب الكونية الأولى، في تكوين لبنان الحديث ضمن حدوده الدولية، كما أن أحداً لا يقلّل أيضاً من دور المهجر اللبناني في قيام لبنان. وخلال قرن من التعرّجات في تاريخ الجمهورية الفتية في شرق أوسط مضطرب، حافظت بكركي على دور وازن لها، فيه من الخطورة على قدْر حكمتها في إدارة موازين دقيقة داخلية (وخارجية). ولا سيّما أن وجود شخصيّة صلبة، وبعيدة النظر، مثل البطريرك نصرالله صفير على رأس الكنيسة في الثمانينيات، مهّد لإخراج لبنان، من خلال موافقة البطريركية على مدرجات الطائف، من مأساة حرب جعلت منه مسرحاً لصراعات تخطّته بأشواط. ولكنْ رغم تحرير الجنوب، ثم خروج الجيش السوري من لبنان، لم ينتهِ درب الجُلْجُلة بالنسبة إلى اللبنانيّين، بل إنّ بلدهم أُقحم مجدداً، مُكرهاً ومعترضاً، بدفعٍ من "حزب الله"، في محورٍ لا يقل خطورة عما سبقه من مَحاور، ضمن مشادّة نووية تضع أمن المنطقة في ميزان لا وزن للبنان فيه.
فكان من البديهيّ أن تعترض بكركي على منحى حزبٍ في الحكم لا يخضع لسلطة الحكومة. كما يضع اللبنانيين، أولاً بأولّ، في مهبّ ريح معاكسة، وفي خلاف يرفضونه مع دول الخليج. ومن أجل أن يغطّيَ كيانه غير القانوني، وإمساكه بمرافق عامة أساسية، أسهم "حزب الله"، مع شركائه، في حبك شبكة فساد من حوله ورث خامتها من الأجهزة السورية، فيما هو يبني، بالتوازي، مجتمع حرب رديفاً، متراصًّا، يحتضنه، ويَقْسم لبنان (ثلثاً بثلثين).
فما يتبع من ذلك هو أن دعوة بكركي إلى مؤتمر دولي ليست لفض خلاف لبنانيّ- لبنانيّ صرف، قابل للحلّ، بل هو نتيجة إدراكها أن لبنان في حاجة إلى حبل نجاة من المجتمع الدولي لينجوَ من الغرق في دوامة مَحاورٍ دولية، دفعته فيها إيران بترسانتها الحربية على أرضه.
ولكنّ كلّ هذا لا يمنع أن نشخّص الخلل اللبناني الصرف، وخلفيته، الذي فتح فجوة لإيران، بالأمس واليوم، ولسواها من قبل، لتعبث بالبناء اللبناني. فمع أنّ "حزب الله"، أياً تكن حجته، لا يرضى، في الواقع، بالمعاملة بالمثل مع غيره من اللبنانيين، وهذا في لبّ المشكلة معه، فهل أن بكركي التي تصرّ، عن حق، على العيش المشترك في ظلّ الدستور، تلتزم من طرفها بما تدعو إليه، لا سيّما أنّ "كل اللبنانيّين سواء لدى القانون" كما نصّ الدستور؟ فإن كانت هذه هي الحال، فلِمَ ترضى الكنيسة المارونية بأنّ صاحب هذه السطور، مثلاً، لا حق له في رئاسة الجمهورية أو الحكومة أو مجلس النواب، أو قيادة الجيش أو حاكمية البنك المركزي، أو سواها من المناصب الرئيسية؟ فهذا ليس عرفاً، لأنّ العرف لا يمكن أن يخالف القانون، وثمة سوابق في الرئاسات من طوائف مختلفة؛ ولا هو "ميثاق"، لأن التفاهم الذي تمّ إبان الاستقلال كان على ألا ينْحوَ لبنان شرقاً أو غرباً، ولم يكن على مذهبية المناصب؛ إنما هو، باختصار، ممارسة شاذّة منذ الاستقلال غُضّ الطرف عنها.
ولربما أنّ "غضّ الطَرْف" ("التطنيش") عن التمييز السياسي المزمن ضد شريحة واسعة من اللبنانيين، على مختلف طوائفهم، كان تعليله المستتر في طمأنة بعض المسيحيّين، بعد الانتداب، لا بل بعد حكم ذميّ طويل في الفترة العثمانيّة، إلى أن "حقّهم محفوظ". ولكنّ التبصّر السياسي كان يَفترض في الذين عانوا طويلاً من التميّيز ضدهم ألا يتعاملوا مع الآخرين، خصوصاً من الموقع الرئاسي، بما يوحي إلى شركائهم بشيءٍ من ذمّية معكوسة. من أجل ذلك، فعندما اختار الرئيس إميل إده سنة 1937 خيرالدين الأحدب (سنيّ وعروبي من طرابلس) رئيساً للوزراء، بعد أيوب تابت (البروتستانتي)، فيما كان خالد شهاب (السنيّ) رئيساً لمجلس النواب، لم يفعل ذلك رغبةً منه في صيغة جامدة، بل أراد حينذاك أن يضمن توازناً داخلياً، إسلامياً مسيحياً، وأن يحتضن طرابلس على وجه الخصوص.
قبل دستور الطائف، كانت السلطة الإجرائية مُناطة برئيس الجمهورية الذي كان يعيِّن الوزراء ويقيلهم ويسمّي منهم رئيساً. كما كان يعيّن كبار الموظّفين. بعد تعديلات الطائف، أصبحت السلطة الإجرائية مُناطة بمجلس الوزراء، ورئيس الوزراء المكلَّف هو من يشكّل الحكومة، ثمّ يوقّع رئيس الجمهورية معه على مرسوم تشكيلها. فلا حصّة مكتسبة لرئيس الجمهورية في الحكومة، ولا تشكيلها من صلاحياته. واستطراداً، بات دور رئيس الجمهورية، بعد تعديلات الطائف، أكثر رقابةً ورمزيةً منه دوراً تنفيذياً، وقيمته المعنوية تفترض ما تفترضه من ترفّع وحكمة تُحتذى.
وعليه، فما العائق إذاً أن يكون غير ماروني في هذا المنصب، أو أن يكون ماروني في رئاسة الحكومة، على سبيل المثال، أو رئاسة المجلس، والدستور يجيز ذلك؟
السؤال يُطرح لأنّ الصيغة المعتمدة قَضَت. قَضت لأنها جامدة ومُجحفة بكثير من اللبنانيّين المؤهّلين (رُبّ سائل يسأل لِمَ ينجح اللبنانيّون في الخارج وليس في لبنان). وهي مُخالِفة للدستور لأنّها تميّز في الحقوق بين لبنانيّ وآخر. فكيف لبلد أن يتماسك إن اعتمد التفرقة، على عكس دستوره؟ والتفرقة تؤولُ ليس إلى "الفَدْرَلة"، كما يحلو للبعض اعتقاده (لأنّ في "الفيديرالية" دوراً محورياً لسلطة مركزية جامعة)، بل إلى "الصَّوملة" (نسبةً إلى الصومال) قبائلَ تتطاحن وتبقى في بؤس مستدام.
والسؤال يُطرح أيضاً لأنّ للمجتمع المدني دوره في فرض الدستور. إنّما الاستجابة ينبغي أن تأتيَ، في المقام الأول، من بكركي لأنّ الأمر يعنيها بامتياز، وكذلك ديمومة الكيان اللبنانيّ واستقراره. فتنفيذ أحكام الدستور، كما هو، لا يسري على طرف دون آخر. وكما أنّ السلاح خارج سلطة مجلس الوزراء هو خرق للدستور، فكذلك عدم المساواة في الحقوق. والأول إنما هو تعبير عن الثاني ونموذج له.
الإرث العُثماني الراجح
بما أنّ الشيء بالشيء يُذكر، فإن سألنا لماذا ينجح اللبنانيّون في الخارج وليس في الداخل، نسأل كذلك، تاريخيّا واستطرادا،ً لِمَ أخفق العثمانيّون، ونحن من ورثتهم، على مدى أربعة قرون ونصف القرن، علمياً وصناعياً، وهم ورثة بيزَنطَة وعلوم الحضارة الإسلامية، لماذا أخفقوا حيث نجح الغرب في ثورته الصناعيّة وتقدّمه؟ والسؤال ليس من باب التأمل، بل لِعلّة مشتركة بين المعضلتين، على اختلاف حجمهما اللبنانيّ والعثمانيّ. وعندما يشتكي اللبنانيّون من "النظام الطائفي"، وهو عن حقّ في أساس العِلّة، يتناسون إرثه التاريخي. فالطائفية ليست موروثاً انتدابياً، على ما يريده بعض العقائديّين، بل عثماني. إذ عندما حاول الفرنسيّون في بدايات الانتداب (سنة 1925) وضع قانون انتخاب نسبي، خارج القيد الطائفي، كادت تقوم قيامة اللبنانيّين ويُبعث الناس من قبورهم لإلغاء القانون، وهكذا حصل. فالتَركة التُركية ثقيلة، وكنّا وما زلنا نتحمّل عبئها.
فلنتذكّر، إذاً، أنّ بعد سقوط القسطنطينية، في أيار 1453، ببضعة أشهر، فرض السلطان محمّد الثاني ("محمّد الفاتح") على الشعوب التي صارت تحت سلطته نظام المِلَل (والمِلَّة هي الشريعة أو الدين) كمبدإٍ عملت به السلطنة، حتى مطلع القرن العشرين، من أجل تنظيمها الداخلي وتحديد "هوية" رعاياها. فلا هوية "وطنية" في السلطنة، بالمعنى الحديث (ولا مفهوم "مواطنة")، بل حدود تجمع أو تفرّق بين الجماعات، وتميّز بمراتب بين فرد وآخر، حسب انتمائهما الديني. وعلى هذا النحو، فمن الصعب تكوين مجتمعات متجانسة، متماسكة، قادرة على عمل اقتصادي مشترك، إن كانت قاعدتها الحقوقية قائمة على التميّيز. ولئن أضفنا إلى التمييز (بين مِلّة ومِلّة) عَطَباً إضافياً في نظام الملكية العثماني، انتهينا إلى خلل مضاعف. ذلك أن مُلكية الأرض، أو المُلك "الميري" (أميري)، كان يعود إلى الدولة العثمانية، التي تُلزِّم حق التصرف به مقابل بدل، أو ضريبة، حسب حاجاتها المالية. فمع تمييزه في الحقوق في المِلّة والمُلك، أقصى النظام العثماني اقتصادياً شرائح واسعة من رعايا السلطنة، بدلاً من استيعابها وتحفيزها، ما شكّل مكمن ضعف للدولة العثمانية، على المدى الأطول، في تجديد قدراتها الاقتصادية ونموّها.
مقارنةً، فلا مجال هنا للغوص في ظروف بريطانيا التاريخية ومحفّزات ثورتها الصناعية. حسبُنا القول أنّ ما عُرف بـ"الثورة المجيدة" في إنكلترا (1688)، التي أرست النظام الدستوري (من دون دستور مكتوب)، استبدلت السلطة المطلقة (المنبثقة من حقٍّ إلهي) بسلطة القانون، وفعّلت دور البرلمان مكان القرارات المَلَكية الأحادية، فسمحت بتشريع (لاإقصائي) يعكس مصالح اقتصادية لشريحة واسعة من المجتمع، فتح الباب على إمكانات التجديد والابتكار التي هي من صُلْب العصر الصناعي.
لبنان الحاضن
في دستور الطائف نقرأ ما يأتي: "مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية..." (المادة 22). هذا يحضّر، إذاً، لإنشاء مجلسين، بحسب الدستور، أحدهما خارج القيد الطائفي، كخطوة أولى لنزع الفتيل الطائفي من السلطة الاشتراعية.
ولكنْ، بطبيعة الحال، فباستثناء المادة 95 التي تنصّ على المناصفة في المقاعد النيابية بين المسلمين والمسيحيين، فإن الدستور اللبنانيّ، من حيث هو دستور مدنيّ، لا يأتي على ذكر طائفة أيّ من الرئاسات الثلاث، ولا صلة له بالطوائف. وقد سبق لنا أن اقترحنا (جريدة "الحياة"، 18-2-2016) اعتماد المداورة في الرئاسات على سائر الطوائف. وإن لزم الأمر، ومن أجل طمأنة المسيحيّين، تُحفظ إحدى الرئاسات لمسيحي أو مسيحيّة في كل دورة.
وبالعودة إلى بكركي، فإن أرادت، من أجل خلاص لبنان، رفع يد الخارج (الإيراني) عنه، لترتيب وضعه الداخلي في ما بين اللبنانيّين حصراً، ينبغي، كما أسلفنا، أن تقدّم الكنيسة المارونية المثل الأعلى بالتزام الدستور ورفض امتيازاتٍ في المناصب الرئاسية مخالِفة له، ولا طائل منها بعد الطائف (سوى العرقلة). فالإقصاء، أكان في المناصب، أم في التشريع (مع هيمنة "حزب المصارف")، أم في قرارات "حزب الله" الأحادية، فإنما يطيح الدستور ويفسخ العقد بين اللبنانيّين. فيجعل من المحاصصة والفساد قاعدة، ومن الانهيار المالي لازمة حتمية. وهذه جميعها ليست مسائل تقنية على الاقتصاديّين وحدهم معالجتها. بل لها، كما بيّنّا، جذور راسخة في موروثنا السياسي وذاكرتنا الطويلة.
وعليه، فسياسة الإحتضان، لا الإقصاء، وطمأنة الشيعة، كما الموارنة (وسائر اللبنانيّين)، أولاً بأول، من جانب بكركي، لا بدّ أن تُيسِّر احتضان المجتمع الدولي للبنان ومؤازرته في الخروج من محنته.