الاستنكار والعدالة، الحق والإجحاف، يبدو أننا أمام مشهد جدليّ ومنقسم حول ما آلت إليه الأمور في قضية الطفلة #إيلّا طنوس. لن ندخل في السجالات ولا الأحكام القضائية، خصوصاً أن الحكم يعتبر سابقة في لبنان على الصعيد الطبي والاستشفائي، وما جرى مع الطفلة لن تُعوّضه مبالغ العالم كله.
نحن اليوم أمام انقسام آخر، استنكار شديد واعلان المستشفيات والاطباء إضراباً تحذيرياً لمدة أسبوع احتجاجاً على الحكم الخاطئ والجائر كما وصفه بيان نقابة الأطباء، وانتصار للحق والعدالة برأي المرضى وعائلاتهم الذين وجدوا في الحكم غايتهم المنشودة لسنين طويلة.
إن اعتصام الأطباء اليوم أمام قصر العدل رفضاً للحكم القضائي، هدفه إظهار الدور الإيجابي الذي يضطلع به الأطباء في سبيل معالجة مرضاهم، وهذه حقيقة لا يمكن انكارها ونعرف تماماً الجهود المبذولة من قبلهم لإنقاذ المرضى.
يكشف هذا الاضراب الكثير، وتختلف الآراء وتتباين بين مؤيد ومعارض. ليكن واضحاً أن الحكم ليس موجهاً إلى كل الأطباء، ولا يمكن تعميم ما يصدر على القطاع الطبي بأكمله. اليوم لبّت المستشفيات الخاصة نداء نقابة الأطباء، وهي أيضاً تعترض على الحكم الصادر بحق المستشفيين المعنيين.
يؤكد نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون لـ"النهار" أن "كل المستشفيات الخاصة في لبنان ستلتزم الإضراب وعدم استقبال المرضى إلا الحالات الطارئة احتجاجاً على الحكم الصادر في قضية إيلا طنوس. ولا يمكن أن يمرّ هذا الحكم مرور الكرام، ولم يكن من المفروض صدوره أصلاً، وعلى من أصدر الحكم أن يتحمل مسؤولية ردة الفعل. وما يجري اليوم يُدرج في خانة ردة الفعل وليس الفعل، وأن المبالغ التي حددها الحكم كتعويضات شخصية هي فاحشة ولا تتناسب مع الواقع اللبناني".
وشدد على أن "المبالغ الصادرة في الحكم هي مجحفة وفاحشة، أولاً لأن المستشفيات قامت بواجبها من دون أي تقصير، علماً أنها من المستشفيات المرجعية، وثانياً، أن المبالغ التي فرضت هي غير مقبولة ولا يمكن المضي بها من دون ردة فعل".
كما يشير هارون إلى أننا "نعرف أن المصيبة التي حلّت بالطفلة ايلا وعائلتها كبيرة إلا أنها لا تبرر الحكم الصادر بهذا الشكل، وبما يختص المستشفيات، وبعد التحقيقات التي أجريت في هذا الموضوع، أظهرت عدم وجود تقصير من
المستشفيات".
وعن الإضراب والامتناع عن استقبال المرضى، يوضح النقيب أننا "على يقين ومعرفة بمسؤوليتنا تجاه المرضى، وبالتالي سنستقبل الحالات الطارئة والعلاجات الكيميائية وغسيل الكلى، في حين سنتوقف عن استقبال المرضى في العيادات الخاصة في كل مستشفيات لبنان الخاصة.
كما سيلجأ المستشفيان المعنيان (المعونات والجامعة الأميركية) إلى خطوة قضائية من خلال التمييز في الحكم ونأمل أن يتصحح مسار الحكم. ونحن نتحدث هنا عن واجبات المستشفيات التي لم تقصر فيها ولم يرتكب المستشفى أي خطأ، أما في ما يتعلق بالأطباء فهي تعني نقابة الأطباء والتحقيقات الجارية في هذا الملف. وعليه، يعتبر هذا الحكم لا مثيل له".
هذا، وكانت نقابة الأطباء قد أصدرت بياناً بعد الاطلاع على الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف في بيروت بموضوع الطفلة إيلا طنّوس، وجاء فيه:
"أوّلاً- إنّ النقابة تؤكد تعاطفها مع الطفلة المتضررة، ودليل ذلك أنّها قامت بالتحقيقات وقدّمت التقارير اللازمة والمنصفة بهذا الشأن. ولا شك في أن حالة الطفلة هي من الحالات الصعبة جدّاً وذلك لأن الالتهاب الجرثومي الذي أصابها هو من الأمور المستعصية وذلك بحسب الدراسات العالمية و90 في المئة من هذه الحالات مصيرها إما الوفاة إما البتر وتبقى نسبة الشفاء بعد العلاج فقط 10 في المئة، هذا وتعمل النقابة على دراسة الملف مجدداً، آخذة بعين الاعتبار أموراً لم تذكر في التقارير السابقة كالنظام الصحي العام ووضع الطوارئ والأطباء في المستشفيات، وكيفية نقل المريض من مستشفى إلى آخر. وقد اجتمعت لجنة التحقيقات في النقابة مجدداً بكل المعنييين في هذه القضية لتقديم الخلاصة في أقرب وقت ممكن. وفي حال وجود أخطاء طبية، إن هذه الغرامة التي فرضها القضاء هي مجحفة بحق من قاموا بكل ما في وسعهم لانقاذ حياة الطفلة. ومثل هذه الأحكام سيؤدي إلى تهرّب الأطباء لاحقاً من معالجة الحالات الصعبة، وسيصبح بالتالي من الصعب وجود أطباء في الطوارئ أو في العناية الفائقة للاهتمام بالمرضى. هؤلاء الأطباء الذين يضحون بحياتهم خلال عملهم لإنقاذ مرضاهم، كما شهدنا على ذلك أثناء وباء كورونا وبشكل شبه مجاني، في المقابل لا نرى بين الحين والآخر سوى تعنيف لفظي أو جسدي، ولا من يتحرك في ظل الفساد المستشري، وهذا القرار الصادر أخيراً عن القاضي الذي يعد نوعًا من العنف المادي على الطبيب الذي لن يستطيع تسديد المبلغ المفروض حتى ولو عمل كل حياته. ولهذا الأمر سلبيات كبيرة على المجتمع ككل وليس على الطبيب فقط، ومنها هجرة الاطباء التي نعاني منها، من دون ذكر التعرفات الطبية الهزيلة وحقوقهم المهدورة منذ عقود.
ثانياً- يعبّر مجلس النقابة عن استغرابه واستنكاره الشديد للنتيجة التي آل اليها الحكم لجهة التعويضات المحكوم بها، وهي تتعارض تعارضاً كليّاً مع المعايير الإقتصادية السائدة في لبنان خصوصاً في الوضع الحالي، كما أنّها تتجاوز قدرات الفرقاء المحكوم بوجههم . وإنّ أيّ حكم قضائي لا يأخذ بالاعتبار أوضاع هذا القطاع يكون قد غضّ النّظر عمّا يعانيه من صعوبات وما يقوم به من تضحيات في ظلّ الحالة الصحيّة والاجتماعية الراهنة.
ثالثاً- إنّ مثل هذه الأحكام القضائية الاستنسابية في غياب أحكام قضائية ننتظرها بشأن انفجار مرفأ بيروت، مضافة إلى سائر العقبات التي تعترض عمل القطاع الطبي تشكّل عاملاً سلبياً بارزاً من العوامل التي تدفع بهما قسراً إلى الهجرة، وهو أمر بدا واضحاً وأكيداً في الآونة الأخيرة، كما أنّه صار يشكّل خطراً داهماً على الأمن الصحّي في لبنان، وعلى المرضى بالذات، خصوصاً في الحالات التي تستوجب مهارة وعناية خاصّتين.
رابعاً- إنّ مثل هذه الأحكام تدفع الأطبّاء وبخاصة ذوي الخبرة العالية إلى التريّث وأحياناً إلى الامتناع عن المشاركة في الأعمال الطبيّة الخطيرة التي تتطلّب مهارة خاصّة خشية الإساءة إلى سمعتهم والقضاء على مستقبلهم، وهي، بمعنى آخر، تشيع التردّد والإحباط في أوساط الجسم الطبي وتنعكس انعكاساً سلبيّاً على سلامة المرضى.
خامساً- إنّه مع التسليم بأنّ الخطأ ممكن الحصول في أي مجال من المجالات، وفي المجال الطبي وإن بصورة استثنائية ونادرة، ومع الإيضاح بأنّ الأخطاء المشكو منها تخضع للتحقيق الدقيق وأحياناً للعقوبات المسلكية في أجهزة النقابة، فإنّه لا يجوز أن تترتب على هذا الخطأ نتائج وخيمة وقاسية وغير منطقية تتخطّى المعقول وتسيء إلى ثبات العمل الطبيوإلى الثقة بأفراد الجسم الطبّي.
وفي الختام، إن نقابة الأطباء إذ تشدد على أولوية صحة المريض مع المحافظة على كامل حقوقه، تؤكد أن لا شيء يثنيها عن التصويب عن الأخطاء في حال حصولها. فالمطلوب احترام الأطباء والتعامل معهم بإنسانية وصون حقوقهم. وتحفيذهم على العمل والبقاء في لبنان لا على تهجيرهم".