١٩٢٢- ٢٠٢٢: مئة عام على البرلمان الأول | أخبار اليوم

١٩٢٢- ٢٠٢٢: مئة عام على البرلمان الأول

| الثلاثاء 19 أبريل 2022

ما يجري في لبنان اليوم ليس سياسة بل أحقاداً معلنة وهي في طبيعتها عمياء

"النهار"- داود الصايغ

كان لبنان المبادرُ الأول. ذلك هو دوره وتلك كانت دعوته. وربما كان ذلك ذنبُهُ. إنه صاحب أعرق تجربة انتخابية في الشرق وأول من مارسها حتى في الزمن العثماني أيام المتصرفية قبل التحوّل إلى الانتداب بالممارسة المختلطة في المجتمع المختلط الذي نشأ ونما قبل ذلك بأكثر من قرنين. نشأ ونما على الاختلاط، على الاختلاط الحرّ وسار التاريخ في المجرى المرسوم لأنه هكذا قد كُتب.

ومنذ سنة ١٩٢٢ جاءَ قرار المسؤول الفرنسي في أول قانونٍ انتخابي بعد المتصرفية، بأن جميع الناخبين ينتخبون جميع المرشحين بصرفِ النظر عن انتمائهم الديني والمذهبي.

كان ذلك يومَ وقف لبنان على أعالي كيانه كما يجب أن يكون. لعلّها بارقةٌ لمعت في سماء الشرق وجادت بمائها. لأنه ليس كلُّ بارقة تجود بمائها. وكم جاد لبنان بمائه. أعطى بدون حساب ومن ينابعه الدافقة أبداً، وفتح أبوابه ومدَّ أيدي الصداقة، لكن الأبواب فُتحت أكثر مما يجب والأيدي الخارجية امتدت أكثر مما تفرضه الأخوة والصداقة. وهي المشكلة الحالية.

لبنان ينتخب. إنه ينتخب منذ مئة عام. منذ مئة عام ما بين الموروثات العثمانية ومستحدثات الانتداب الفرنسي، عَرَفَ الأوائل كيف يُوفّقون. كيف يوفّقون بين الاقطاع القديم والمشايخ والبَكَوات وبين عطاءات النهضة والانفتاح والحداثة الواردة. بين الرؤوس المعممة بالطرابيش والقبعات الغربية مثل الصور التي يُقدّمها لنا زمن الاستقلال للرئيس بشارة الخوري بالقبعة الغربية والرئيس رياض الصلح بالطربوش العثماني وكلاهما بلباس السموكن الرسمي والغربي.

كل شيء كان توفيقياً في لبنان لأن نجاحه واستمراره حتى الأمس القريب حتى لا نقول حتى الآن كان في التوفيق بين الثابت والمُستحدث ليُحسن صبّه في المجرى الذي لا يتحوّل. لأن مجرى لبنان لم يُخلق ليتحوّل. نقول حتى الآن لأن ما يجري اليوم من مُتغيرات تضع لبنان أمام أسئلةٍ كبيرة ليس هنالك حالياً من مسؤولٍ واحد أكان جالساً على كرسي أم مستعداً للجلوس عليه من يوجّه فكره واهتمامه وقضيته ليتساءل عن لبنان الغد إزاءَ ما يجري في المنطقة.

فمَشاهد المنطقة من حولنا أَعمَت العديد من البصائر، وبخاصة بصائر أهل السياسة بما لهم من مفهومٍ لها. لأنَّ ما يجري في لبنان اليوم ليس سياسة بل أحقاداً معلنة وهي في طبيعتها عمياء. المنطقة من حولنا تُعيد رسم نفسها أو يُعاد رسمها. وما شاهدناه في شرم الشيخ يوم الأحد في ٢٢ آذار الماضي في اللقاء بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد ورئيس وزراء إسرائيل كان حدثاً مذهلاً. وتَبِعَهُ بعد ذلك "لقاء الستة" في النقب لوزراء الخارجية العرب الذين طَبَّعَت بلادهم العلاقة مع إسرائيل في مفهوم "اتفاقات أبراهام" إلى جانب الوزير الأميركي، والتي لم يُشارك فيها الأردن التي زارها من بعد رئيس الوزراء الإسرائيلي.

مذهلٌ أن تُحوَّل مجاري التاريخ وأن تمتدّ الأيدي المُقررة إلى الجغرافيا. الرئيس المصري رئيس أكبر دولة عربية والتي وقّعت معاهدة السلام مع إسرائيل في آذار ١٩٧٩ ودفع ثمنها من حياته سلفه الأبعد أنور السادات، جمَعَ القوة العسكرية والعدوة السابقة إسرائيل، إلى جانب القوة الاقتصادية الخليجية الصاعدة وهي دولة الإمارات التي، لعواملَ وأسبابٍ متنوعة، منها براعة ولي عهد أبو ظبي، تكادُ أن تُصبح قوّة مُقررِة في الشؤون الدولية وهي مؤلفة من سكانٍ غالبيتهم من غير أبناء البلاد. وترتفع يوماً بعد يوم بأبراجها وبتدفق رؤوس الأموال إليها، وآخرها الأموال الروسية الهاربة من لندن وجينيف بعد العقوبات الغربية على روسيا، فلَم يجد أصحابها من ملجأٍ سوى دبي. حماها الله.

إذ عندما يُراجع اللبنانيون حساباتهم القديمة بمرارةٍ يقولون: كنا نحن الضوء والمقصد والمرجع والفكر والأدب والعلم والجامعة والمصارف والمصايف وقبل كل شيء الحرية. فانحدرت بنا الأقدار. إذ أشدُّ ما يؤذي فيها أن الانحدار حصل على أيدي أبناء البلد الذي كانت الأنوار تـنبعث من بيوت جباله وسواحله وسهوله دونما أي حاجةٍ لناطحات السحاب والأبراج. لأن الأضواء كانت في النفوس.

لا يكفي هذا المشهد، مشهد شرم الشيخ وحده. ليس فقط للتساؤل عن فلسطين والقضية الفلسطينية، بل لمحاولة التَطلُّع إلى المستقبل على وقعِ الأحداث المصيرية التي نشهدها. فاللبنانيون دفعوا أفدح الأثمان من جراء القضية الفلسطينية وحروب ١٩٧٥ – ١٩٩٠. ويوم ١٣ نيسان ١٩٧٥ مرّت ذكراه المشؤومة منذ أيام. وذلك قبل أن يدفعوا أثمان الوصاية السورية التي رافقت أحلك سنوات لبنان، والتي سبقت مباشرة سنوات الحضور الإيراني الطاغي اليوم والذي أجاز معه لنفسه وزير خارجية إيران لقول ما قالهُ على منبر وزارة الخارجية دون أن يتجرّأَ أحدٌ على الردّ عليه أو تصحيح مقاربته للشأن اللبناني كما يجب أن تكون.

يجري كلّ ذلك والأطماع الداخلية تزداد شراسةً. ولن تكُن الانتخابات القادمة سوى مناسبةً لتغذية هذه الأحقاد. لا برامج ولا إصلاح بل تنافس شرس على التحالفات وما صار يُعرف بالحواصل والصوت التفضيلي في هذا القانون البالغ السوء الذي سُلق سَلقاً ليلة إقراره، لأنه أُقرّ في الساعات الأخيرة بين القوى التي كان ولا يزال لها مصلحةٌ فيه.

كيف سيخرج لبنان من انتخابات أيار القادمة. ذلك هو السؤال الذي يطرحه العالم القريب والبعيد قبل اللبنانيين. يُطرح السؤال لتعداد الفواجع والمشاكل وتدني الممارسة وطغيان الجائعين إلى الكراسي... وتعداد مختلف أنواع المآسي، بل لأن المصير هو الموضوع هذه المرّة. وهذا ما لا يتوقف عنده الكثير من المرشحين، في ظلّ قانونٍ انتخابي زاد في الانغلاق وحجب الكفاءات على نحو ما اتفقت عليه بعض المكونات بما يكفل زيادة عدد المقاعد لها. تلك كانت الحسابات ولا تزال. لأن الحيوية الملفتة التي نشهدها من خلال إقدام العديد من دعاة التغيير إلى الترشّح يصدُّها ذلك القانون البائس، والغريب كلّ الغربة عن تقاليد المئة عام من الانتخابات النيابية في لبنان، ولعلّه يحرم العديد منهم من الوصول.

الانتخابات النيابية التي تجري في الديمقراطيات المتقدمة هدفها تحديد الخيارات بالنسبة إلى المستقبل. لأنه هنالك مستقبل حتى بالنسبة إلى المجتمعات المُطمئنة والمرتاحة. دائماً إلى الأفضل والتقدّم وتحسين المسارات لأن السياسة عملية تجدد وهذا لا يحصل إلا بتداول السلطة التي هي مع فصل السلطات القاعدة الأساسية الثانية للديمقراطية.

اللبنانيون ينتخبون عام ٢٠٢٢ ليس فقط في ظلّ أجواء الخيبة والنقمة على المسؤولين الذين أوصلوا لبنان إلى ما وصلَ إليه بل في ظلِّ توجّسٍ حقيقي بأن يعودوا إيّاهم، أولئك الذين قال عنهم ايمانويل ماكرون بأنه يخجل بهم، هذا الذي تستعدُّ فرنسا اليوم لإعادة انتخابهِ لأنه يُمثّل بالنسبة إلى أكثرية الفرنسيين الثـقة والاستقرار. الثـقة والاستقرار هما ما يفتَـقِدُ إليه اللبنانيون حالياً لو اختُصرت مطالبهم. فهل هنالك اليوم غرفةٌ ما، حول مسؤولٍ ما، تدرس وتراقب وتراجع وتتوقع ما سيحصل للبنان. هل هنالك من يتطلّع إلى أبعد من مصالحه القريبة كلا ليس هنالك من دارسين ومخططين للمستقبل، في ما عدا بعض المهمومين والمهتمين بهذا الوطن والذين يقفون بعيداً عن أصحاب القرار، إذ أنه ثبت وبخاصةٍ في السنوات الأخيرة أن هؤلاء بلغَ بهم الجهل والجشع والطمع للسلطة ولكلّ ما تُمثّل، باتوا لا يطيقون الجلوس مع الأكفياء وأصحاب الرُؤى أو حتى لمجرد الاستماع إليهم. ولكن لبنان لبنان الحقيقي هو هؤلاء والخلاص سيأتي على أيديهم النظيفة وأفكارهم النيّرة وحسن وفائهم للقيم. لأنهم هُم هُم بالذات، يُمثلون تلك البارقة المنتظرة التي لا بدَّ أن تعود لتجود بمائها.

انضم الى قناة " AkhbarAlYawm " على يوتيوب الان، اضغط هنا


المزيد من الأخبار