السعودية لم تنكفئ عن لبنان ولا تسوية إقليمية على حسابه | أخبار اليوم

السعودية لم تنكفئ عن لبنان ولا تسوية إقليمية على حسابه

| الخميس 20 أكتوبر 2022

الراي- لم تُغادِرْ السعودية لبنان، لم تُدِرْ ظَهْرَها ولم تنكفئ... ها هي تُقيمُ في واحةِ «السيادة الوطنية»، في اليرزة وبين رمزياتها... تُجاوِرُ الجيشَ وعَلَمَهُ المُرَفْرِف «شرف، تضحية، وفاء». وعلى مرأى العين قصرُ الجمهوريةِ المُتَهالِكة المتلهّفِ لساكِن آخَر وخياراتٍ أخرى، لحياةٍ أكثر ولجهنّم أقلّ.

فالمملكةُ مقيمةٌ في اليرزة الخضراء أباً عن جَدّ. قصورُها وبيوتاتها المغروسة بين الصنوبرات العتيقة لم تَقْوَ عليها الحرائقُ السياسيةُ في بلاد الأرز، وهي التي غالباً ما لعبتْ دور الإطفائي أيامَ المِحَن اللبنانية ونجحتْ في جعْل الطائف برْداً وسلاماً قبل أن يتكاتف الشرُّ من جديد على الوطن الصغير.
سفيرُها لم يُسافِرْ، وديبلوماسيتُها لم تطفئ محرّكاتها، ورؤيويةُ الـ2030 صاغتْ وصفةً إستراتيجيةً لعلاقةٍ من دولة إلى دولة. أما خزائنها المفتوحةُ للناسِ «من يدٍ إلى يد»، ممنوعةٌ على مَن أَفْسَدوا في السياسة والمال. فهي لم تنكفئ، لكنها لن تكافئ مَن اقتادوا البلادَ إلى الهلاكِ و... بئس المصير.

سوءُ تفسيرٍ أو سوءُ نيةٍ، سيان بالنسبة إلى الديبلوماسية السعودية التي تأخذ على العقل الجَمْعي اللبناني انصياعه لـ «البروباغندا» الخبيثة التي تعوّدتْ قَلْبَ الحقائق وروّجتْ لتخلي المملكة عن لبنان كأحد روافد عمقها العربي وكأن «بلاد الأرز» صارتْ... منزوعةَ العروبة.

في أجواء خريفية جميلة لا تُشْبِهُ الخريفَ السياسي المُخيفَ في لبنان، استضاف سفيرُ المملكة في بيروت وليد بخاري جَمْعَةً من الصحافيين اللبنانيين مِن مَشارب مختلفة. أرادها جلسةً لمدّ «الجسور» انسجاماً مع المبادرة التي جَعَلَها ما فوق ديبلوماسية للتواصل مع الجميع من دون قفازاتٍ أو مجاملاتٍ، وأقرب ما تكون إلى المُكاشَفةِ التي يتمنّاها صاحبُ الدار.

بضع ساعات في فناء منزل السفير «الموسوعيّ» وليد بخاري، الآتي من تجارب ديبلوماسية في أنحاء عدة من المعمورة ومن دوائر التخطيط والتطوير التي رافقتْ تحولات الـ2030... عَرَفَ لبنان قائماً بالأعمال قبل أن يأتي إليه سفيراً في ظروف فوق العادة.

قرأ بخاري، في لحظة إجراء مراجعة شاملة للعلاقة مع لبنان، مَحاضر اتفاق الطائف كلمةً كلمةً وحفظ عن ظهْر قلبٍ صفحاتٍ مُشْرِقَةً في سجلّ العلاقة بين الدولتين منذ أن تعهّد الملكُ المؤسِّس عبدالعزيز أمام الرئيس كميل شمعون الدفاعَ بنفسه عن استقلال لبنان.

في جلْسة «الحديقة الخلفية» استُحضرت أزماتُ لبنان وأزماتُ المنطقة، التوازنُ المختلّ في لبنان واختلال التوازنِ في المنطقة وما بينهما من أوعيةٍ متصلة سُكب فيها الكثير من الدم منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005... مداخلاتٌ «مَهْمومَةٌ» لزملاء، ومُقارَباتٌ مُهِمَّةٌ لسعادته.

فعلى عكس السَرديات الإشاعة، يُستشفّ من كلام بخاري، الذي غالباً ما يُضْفي على حديثه نَكْهَةً فلسفيةً أو نَفْحَةً ثقافيةً أو «لغةَ أرقام»، أن «السعودية الجديدة» لا تنظر إلى لبنان كـ «ساحة» أو بؤرةِ نفوذٍ بل كدولةٍ ذات سيادة في عالمٍ عربي يشكل عمقاً للمملكة، وتالياً هي معنيةٌ بمساعدته، على أن يُساعِدَ نفسه.

فالعلاقةُ مع لبنان لم تَعُدْ كما كانت بعدما خضعتْ للمُراجَعة في ضوء رؤية 2030 وصارت جزءاً من الشراكة الشرق أوسطية. والمملكةُ وضعتْ 22 اتفاقاً، هي الأهمّ على مدى آخِر مئة عام لمَأْسَسَةِ العلاقة مع لبنان، الذي تَرَدَّدَ طويلاً في التوقيع عليها رغم حماسةِ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لها.

ومن شأن هذه الاتفاقات، التي ستكون برسْم رئيس الجمهورية والحكومة الجديديْن، النهوض بلبنان من كبْوته، ليس لِما تشكّله من دعامةٍ اقتصادية ومالية وخدمية للبنان فحسب، بل لأن من شأنها إحداث صدمةٍ إيجابية يفيد منها لبنان، أو ربما تكون بمثابة «كبْسةِ زرٍ» لإعادة الثقة الخليجية والخارجية فتنقلب صورة الـ«داون تون» الخاوي ليضجّ بالحياة من جديد.

لم تنفض المملكة، التي تُفاخِرُ بأن أوّل سفير لها في واشنطن كان لبنانياً، يدهَا من لبنان. وحتى في الأمس القريب، كانت من الداعين لمؤتمر سيدر، لا من المشاركين فيه فحسب، والسفير بخاري مثّل بلاده في مؤتمر روما، في سابقةٍ بروتوكولية، وهو المؤتمر الذي كان مخصَّصاً لحشد الدعم للجيش اللبناني وسائر المؤسسات الأمنية.

هذا الثباتُ السعودي حيال لبنان استمرّ رغم إعلان الحرب على المملكة من بيروت... فلم يكن جفّ مفعولُ تدشين الرئيس ميشال عون لحُكْمِه بزيارةٍ للسعودية امتنّتْ لها المملكة حين دعا الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله للذهاب إلى اليمن للقتال ضدّ السعودية.

لم تَرَ المملكةُ في هذا الكلامِ المُتَطايِرِ من بيروت سوى «إعلانَ حربٍ»... لم تَرُدّ بالمِثل، بل انتظرتْ موقفاً من المسؤولين اللبنانيين الذين إما لاذوا بالصمْت، وإما اكتفوا بـ «تغريدات». طال الانتظارُ وتَمادى العدوان. وفي بيروت... لا حياةَ لَمَن تُنادي.

بدا من مقاربةِ الديبلوماسية السعودية، التي تنأى عن خطابِ الكراهية ولا تتقنه، أن «الحال اللبنانية» مصابةٌ بإفراطٍ مُتَخَيَّلٍ لـ «وَهْمِ القوة» إزاء «حزب الله» ومشروعه، وبـ «وَهَنِ المواجهة» لإعادة التوازن إلى الحياة السياسية بما من شأنه حماية مشروع الدولة واحتكار سلطتها على الأرض والقرار، وسط انطباعٍ بأن لبنان غير متروك لمَن يريده حَطَباَ في مشاريع إقليمية مُناقِضَة لهويته.

«لبنان غير متروك»... هو أكثرُ من انطباعٍ، إنه فِعْلٌ يوميّ للديبلوماسية السعودية النشطة التي نجحتْ في تشكيل ثلاث مظلات لحماية لبنان والحؤول دون وضْع اليد عليه والدفْع في اتجاه مُراكَمَةِ مواقف لتمكينه من النهوض من الكبوةِ حين تحين الفرصةُ، التي ربما تشكّلها الانتخاباتُ الرئاسية ومعها حكومةٌ جديدة. وهذه المظلات هي:

• الأولى، جهودُ المملكة التي أثمرتْ رؤيةً مشتركة فرنسية - سعودية حول الوضع في لبنان أَنْهَتْ الالتباسات في مقاربة باريس وارتكزتْ على ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإصلاحاتٍ شاملة، والتزام اتفاق الطائف، ومكافحة الفساد، ومراقبة الحدود، وحصْر السلاح بيد الدولة، وألا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية ومَصْدراً لتهريب المخدرات، وأهمية احترام سيادة لبنان ووحدته بما يتوافق مع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.

• الثانية تجلّت في المبادرة الكويتية، الخليجية، العربية والدولية التي أعقبت جولةً لولي العهد الأمير محمد بن سلمان شملتْ دولاً خليجية عدة. وتضمنتْ المبادرةُ التي قادتْ وزير خارجية الكويت حينها أحمد الناصر إلى بيروت، 12 بنداً بينها «ضرورة الالتزام بمندرجات الطائف وبكل قرارات الشرعية الدولية والجامعة العربية، والتأكيد على مدنية الدولة اللبنانية وسياسة النأي بالنفس قولاً وفعلاً، وضْع برنامج زمني لتطبيق قرارات مجلس الأمن الخاصة بنزْع سلاح الميليشيات، وقْف تدخّل «حزب الله» في الشؤون الخليجية والعربية والتعهّد بملاحقة أي طرف لبناني يشارك في أعمال عدائية ضد دول مجلس التعاون، وبسْط سلطة الدولة على كافة مَنافذها (...)».

• الثالثة، البيانُ المشترَك لوزراءِ خارجيةِ السعودية والولايات المتحدة وفرنسا، والذي جاء في توقيتٍ بالِغ الأهميةِ مع العدّ التَنازُلي لانتخابات رئيسٍ جديدٍ للجمهورية في لبنان، وهو أكد على «الالتزام باتفاق الطائف المؤتمَن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي» و«ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بتطبيق القرارات الدولية 1559 - 1680 - 1701 - 2650، وقرارات الجامعة العربية»، والتشديد على «إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد وفق الدستور» و«انتخاب رئيس يمكنه توحيد الشعب اللبناني ويعمل مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية لتَجاوُز الأزمة الحالية».

ولم تكتفِ الرياض بهذا القدر من الديناميةِ لاستقطابِ الدعم الدولي، الذي من شأنه تشكيل «مانعة صواعق» تحمي لبنان... ويُروى أن ديبلوماسياً سعودياً خَلَعَ قفازاته الحريرية حين سأل مستشار الرئيس الفرنسي السفير باتريك دوريل وبـ «المباشر» عما إذا كانت باريس تخطط لرعاية حوارٍ لبناني من أجل «عَقْدٍ جديد» كان لمح إليه الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارته لبيروت بعد انفجار مرفئها، أو الدفْع في اتجاه نظامٍ يقوم على المثالثة، فكان ردّ دوريل، على مسامع زملائه في الخارجية والمخابرات، حاسماً في نفيه أي نيةٍ أو رغبة في ذلك.

هذه المحاولة لـ «سبْر أغوار» الموقف الفرنسي مردُّها إلى اقتناعِ السعودية بأن أي لعْب في اتفاق الطائف سيكون بمثابة مُغامَرَةٍ لن ينجو منها لبنان. وليس أدلّ على ذلك من الموقف الذي أعلنه السفير بخاري في الإثنين الماضي، غداة زيارته رئيسي الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري، إذ بدا واضحاً في قوله إن «وثيقة الوفاق الوطني عَقْدٌ مُلْزِمٌ لإرساء ركائز الكيان اللبناني التعدُّدي، والبديلٌ عنه لن يكون ميثاقاً آخَر بل تفكيكاً لعقد العيش المشترك وزوال الوطن الموحَّد واستبداله بكياناتٍ لا تشبه لبنان - الرسالة».

حركةُ بخاري في بيروت، التي زارها أخيراً مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية حسام زكي ووزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، تشي بأن لبنان المتعثّر في عملية انتخاب رئيس للجمهورية قبل نهاية ولاية عون في 31 الجاري وفي تشكيل حكومةٍ كاملة الصلاحيات لملء الشغور الرئاسي بأقلِّ إشكالاتِ سياسيةٍ - دستوريةٍ ممكنة هو الآن تحت المجهر الإقليمي - الدولي.

ويُفهم من المداولاتِ الديبلوماسية لأصدقاء لبنان، وفي مقدمتهم السعودية، أن رفْع مستوى وتيرة الحركة الديبلوماسية مع العَدِّ التنازُلي للانتخابات الرئاسية مردُّه السعي إلى ضمان عدم جنوح الوضع اللبناني نحو منزلقاتٍ أمنية من جهة، والإبقاء من جهة أخرى على التواصل مع القيادات اللبنانية التي ينبغي أن تكون حاضرةً للتحرّك لعدم إطالةِ أَمَدِ الشغور الرئاسي في حال تَعَذَّرَ إجراءُ الانتخابات في موعدها.

واللافت في هذه المقاربات أمران: الأول تَجَنُّبُ البعثات الديبلوماسية، أكانت سعودية أو سواها، الانخراط في لعبة الأسماء المرشحة للرئاسة، فما يهمّ المملكة مجيء رئيس يملك رؤية سيادية ويتحلّى بالاعتدال التوافقي.

والأمر الثاني ملاحَظَة أن «حزب الله» تَقَدَّمَ خطوةً إلى الأمام في ملاقاة الآخَرين حول الملف الرئاسي في ضوء التوازنات الجديدة التي تَحْكُمُ البرلمان واهتزاز حال بيئته تحت وطأة الأزمة وتقويمه لِما آلت إليه تجربة فرْضه رئيساً على اللبنانيين كما حصل في 2016.

ما يهمّ المملكة، بحسب ديبلوماسيتها، هو ولادة عهدٍ جديد في لبنان قادر على العمل مع الشرعيتين العربية والدولية من أجل إنقاذ لبنان، رئيس لم يتورط في الفساد السياسي والمالي، وحكومة قادرة على إعلاء مصلحة لبنان والعمل مع الأشقاء والأصدقاء لإنهاضه، مع جزْمٍ بأن ما من تسويةٍ إقليمية ستكون على حساب لبنان.

انضم الى قناة " AkhbarAlYawm " على يوتيوب الان، اضغط هنا


المزيد من الأخبار