ما هي السلطة التي حلّت محلّ الدستور؟ | أخبار اليوم

ما هي السلطة التي حلّت محلّ الدستور؟

| الثلاثاء 28 فبراير 2023

ما هي السلطة التي حلّت محلّ الدستور؟
الغيمة السوداء إلى زوال حتماً وسوف تأخذ معها سواد النفوس كلّها

"النهار"- داود الصايغ
الطبقة السياسية تعبيرٌ غامض. يزيد في غموضه ملحق "المنظومة". في بلاد الناس التي نحاول عبثاً الاقتداء بها هنالك أحزاب سياسية ذات برامج تتداول السلطة، لأن تداول السلطة مع فصل السلطات هو أساس الديموقراطية السياسية. وفي لبنان شخصياتٌ لها أحزاب تابعة لها تتصارع على السلطة.

إزاء الأنظمة الديموقراطية المتقدمة التي لا يهتم بعض زعماء لبنان سوى بمدنها السياحية وشواطئها للراحة من عناء الصراعات الشخصية، عندنا وجوهٌ لا تتغيّر وهي ذاتها منذ عقود. وعندما التقاهم الرئيس الفرنسي مرتين أطلق عليهم اسم "الطبقة".

كان إيمانويل ماكرون البادئ بالتوصيف اللبناني للمسؤولين السياسيين، الذي أصبح مرادفاً لكل من يتحدث عن لبنان في العالم ولم يعد أحدٌ يرانا إلا من خلاله، من خلال الطبقة السياسية.

والإعلام كله، داخلياً وخارجياً، لم يبخل بالشتائم على من هم أهل الطبقة. إلى درجة أن أحد أركانها من الطارئين الذي تسلّق على جدران السلطة بات في أحاديثه يدين تلك المنظومة، دون أن يستحي والحياء لم يكن يوماً من صفاته.

لم يجد الرئيس الفرنسي بعد خروجه من لقاءين عقدهما مع القيادات اللبنانية في قصر الصنوبر بعد فاجعة انفجار بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠ سوى ذلك التعبير: الطبقة السياسية. لقد أدانها بقسوة في مؤتمره الصحافي الذي خصصه للبنان في ٢٧ أيلول من العام نفسه: أنا أخجل بالطبقة السياسية اللبنانية.

حدث ذلك قبل أن يعيد الناخبون اللبنانيون انتخاب زعمائهم أنفسهم في ربيع ٢٠٢٢، فاستسلم الرئيس الفرنسي وابتعد منصرفاً إلى هموم فرنسا وانتخاباتها التي أعادته هو إلى الرئاسة الأولى. إلى أن أُعيد بعض الحياة إلى لقاء باريس في السادس من مطلع هذا الشهر عبر لجنة عربية - دولية تُشرف على الوضع اللبناني، كمجموعة أطباء ينحنون على سرير المريض ويشجعونه على النهوض أقله قائلين له: لا نستطيع أن نسير بدلاً منك.

لسنا هنا في تفسيرٍ لغوي لمعنى الطبقة، والقاموس يفيد من بين ما يفيد عنها القول إن الطبقة تأتي من أطبق، كمثل القول "أطبق على رقبته أي خنقه"، وهذا هو ربما أصدق تفسيرٍ عن الطبقة اللبنانية. وفي كيفية التعامل بين أركانها وفي مسؤوليتها عن الانهيار الذي حصل، مقابل ذلك العامل الآخر المتمثل بوجود ما صار يُعرف بالدويلة المسلحة بالصواريخ والتي بات لها القرار الحاسم في مختلف الأمور، وانسداد الباب الرئاسي أحد دلالاتها.

لا بد من القول إن من يُطلق عليهم اسم الطبقة أو المنظومة هم مجموعة قادة سياسيين متنافرين في ما بينهم، إذ ما من واحدٍ منهم يتعامل برحابةٍ مع الآخر أو يتكلم مع الآخر، وإذا حصل فلفترةٍ عابرة. وذلك في ما عدا ما صار يُعرف بالثنائية الشيعية دون الدخول في كيفية تكوينها وعملها. ولذا من الاستحالة بمكان جمعهم على موقف واحد ورأي واحد.

سؤال أساسي طرحه المتابعون الجدّيون لذلك الموضوع: إن كان صحيحاً أن العلّة الأساسية موجودة في أفراد هذه المجموعة التي اجتمعت في قصر الصنوبر، وإن كان من المتعذر التوفيق في ما بينهم وحملهم على اتخاذ موقف موحد، أقله في ما يعود إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، أو حثّهم على رؤية موحدة في سبيل المصلحة الوطنية – وهو ما أخفق حتى الآن في مختلف جلسات الحوار – فكيف إزاحتهم أو تغييرهم أو استبدالهم أو المجيء بوجوهٍ جديدة غير معروفة وليس الاكتفاء بإبعاد الآباء والمجيء بالشباب كما حصل.

كان العميد ريمون إده يثور عندما يقولون عن أحدٍ من أصحاب المراكز إنه "آدمي" كأن الحالة الطبيعية هي ألا يكون كذلك. فيقول إن الآدمية يُفترض أن تكون تحصيلاً حاصلاً، والبحث بعد ذلك يتم عن المؤهّلات التي تخوّل صاحبها شغل هذا المركز أو ذاك.

وذات يوم في جلسةٍ مع الراحل فؤاد بطرس أخذنا نعدّ عدد الأوادم في الحكومة الثلاثينية فلم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة أي خمسة من أصل ثلاثين. كان يومذاك زمن الوصاية السورية وتأليف الحكومة يدخل فيه رجل الاستخبارات السورية القابع في عنجر. ولدى محاولة تأليف حكومة ما بعد انتخابات ١٩٩٦ وصلت إلى الرئيس رفيق الحريري لائحة تضمّنت أسماءً لا يعرفها. فتمرّد على تلك الصيغة لمدة أسبوعين، وبالنتيجة وجد صعوبة في تأليفها على نحو ما يريد أي نحو ما يقضي به #الدستور وكانت يومذاك حكومته الثالثة فقال عنها، وهو مثّل ذروة الموقف عن حكومة يرأسها هو بالذات: "ثلثها فاسد وثلثها جاهل...".

لم يكن هذا الكلام ببسيطٍ يومذاك من قبل رئيس حكومةٍ يُفترض أنه هو الذي يشكلها ويعرضها على رئيس الجمهورية ليتشارك معه في التوقيع عليها وفق المادة ٥٣ من الدستور التي تنص على صلاحيات رئيس الجمهورية وطلب بعد ذلك أن يأتي إليه الوزراء الذين اقتُرحت عليه أسماؤهم حتى يتعرف إليهم.

هنا لا بدّ من تسجيل أن حكومات ما بعد انتهاء الحروب أي منذ عام ١٩٩٠ كانت تراعي التوازنات والمعادلات على حساب أي اعتبارات أخرى دون أن ننسى أن ما كان يُعرف بالـ"ترويكا" أي بثلاثية رؤساء الجمهورية والمجلس والحكومة كانت ظاهرةً اختلطت فيها الصلاحيات، ثم إلى تعديل الدستور عام ١٩٩٥ في سبيل التمديد للرئيس الياس الهراوي وبعد ذلك بالتمديد للرئيس إميل لحود عام ٢٠٠٤.

لم يكن ذلك هو اتفاق الطائف. كلا. ولم يكن ذلك ما قبله. فهل لأن القوى التي ظهرت في أوقات الحروب تحوّلت إلى قوى شبه منظمة بعد انتهاء الحروب وباتت أحزاباً لها تمثيلها؟ لماذا لم يتغيّر الوضع بعد الانسحاب السوري، وبات الرؤساء المكلفون بتأليف الحكومات يمضون أشهراً في التوفيق بين المطالب: العدد ونوعية الحقائب: المالية لمن الطاقة لمن الاتصالات لمن. ما هو العدد لكل من القوى بدءاً برئيس الجمهورية. هكذا وقع الخراب نتيجة التـناتـش على الحصص وأولها كما شهدنا في الولاية الأخيرة حصة رئيس الجمهورية وحزبه في واقع لم يقدم فيه رئيس الجمهورية على إعطاء المثل. ولم يضع حداً لها من كان بمستطاعه ذلك فانساق الآخرون إلى السبيل نفسه. وبات لنا منظومة بدل أن يكون لنا دستور.

ولكن لا بد من التساؤل عمّا إن كان الفساد في لبنان متأصلاً. لعله من موروثات الزمن العثماني، ومن مظاهر الإقطاع السياسي القديم. لكن الفارق بين هذا الأمس واليوم، أنه مرّ في تاريخ لبنان من أفاد من منافع السلطة داخلياً وخارجياً، لكن بقي عنده حسٌّ وطني للمصلحة العامة وبقيَ أكبر من المال ومن المكاسب.

إن الرئيس فؤاد شهاب – ودائماً ما نعود إليه – عبّر عن احتقاره لأكلة الجبنة كما كان يسمّيهم. ولكنه لم يُبعدهم أو لم يتمكن من إبعادهم. ولذا يجدر السؤال: هل الفساد القديم المتوارث وذهنية الإفادة من السلطة هو ذاته اليوم في تكوين "الطبقة" التي أوصلت عمل نظام الحكم في لبنان إلى المحاصصة السافرة؟

في هذه الحال ينبسط أمامنا المشهد التالي:
أولاً: بات من الصعب بمكان تحديد المسؤولية عن الانهيار المالي وأزمة المصارف والودائع. هل هي الدولة، هل هي المصارف، هل هو مصرف لبنان، هل هم المسؤولون السياسيون؟ الأطراف تتبادل الاتهامات والتهجّمات، وما من جهة حتى الآن تتحمل مسؤولية هذه الكارثة. تماماً كما حصل في فاجعة انفجار المرفأ. تعطّل التحقيق. كأن هذا كان هو المطلوب.

ثانياً: بات من الصعب إجراء تغييرٍ على النحو الذي حصل في الثورة، خريف ٢٠١٩، أي الثورة بشعار "كلهم يعني كلهم" حين نجح بعض هذا الكل في تشتيتها. وهي لن تعود لا بزخمها ولا بمجموعاتها الشاملة والغاضبة على مساحة الوطن كلّه، كما حصل، إذ ما لبث المتضرّرون منها أن أدخلوا العنصر الطائفي والحزبي فحطموا أمكنة التجمّع وأنهوا الثورة.

ثالثاً: المسؤولون يعالجون الأزمات بالتفاهمات نفسها، لا بالتدابير الحاسمة. فالوزراء محسوبون على من سمّاهم لا على الدولة، وعلى طاولة السلطة التنفيذية التي تجمعهم. ولذا فإنهم يتكلمون باسم من سمّاهم لا باسم التضامن الوزاري المفروض في النظام البرلماني. والأمثلة على سبيل المثال لا الحصر ما ينطبق على الطاقة والعدل والمالية... ومن حضر ومن قاطع جلسات مجلس الوزراء، باسم المرجعية التي تقرر لا باسم المصلحة العامة.

رابعاً: القضاء توقف إصلاحه حين دُفن مرسوم التشكيلات التي أقرّها مجلس القضاء الأعلى بالإجماع مرتين، في أدراج الرئاسة ثم في أدراج وزير المال، بالنسبة إلى قُضاة محكمة التمييز، بذريعة عدم التوازن الطائفي، وبعد ذلك يسأل البعض كيف يتعامل المسؤولون الكبار مع الفواجع والأزمات. إنهم يتعاملون معها من منطق مصالحهم الشخصية فقط.

خامساً: بات معروفاً أن أي يدٍ عربية كانت أو غربية لن تمتدّ للمساعدة قبل إجراء الإصلاحات المطلوبة. والإصلاحات لم تحصل ولن تحصل في الوقت الحاضر.

إزاء هذا المشهد لا بد من الاستنتاج أن الغضب في النهاية سينفجر. إزاء هذا المشهد تجول السفيرة الفرنسية على المسؤولين لتُطلعهم على ما جرى في اجتماع باريس لمندوبي الدول الخمس التي باتت تُشرف على شؤون لبنان.

ما من بارقة تجود بمائها؟ بلى. الآن هنالك غيمة كالحة تغطي لبنان تطوف بالسواد في سماء الشرق بدل الضياء. لكن العتمة ليست قدر لبنان، بل إنه الضياء. الفساد ليس قدراً مكتوباً علينا. فـ"الأيدي النظيفة" وافرة العدد في لبنان وخاصة في المجتمع المدني، وإلا لكان لبنان اندثر وفقد مبرّر وجوده. وإن كان الفساد هو قاعدة التعامل اليوم فإن القيم التي قام عليها المجتمع اللبناني منذ عقودٍ لا تزال أمنع من كل الكوارث. في كلمة الشكر التي أدلى بها الأمين العام السابق للجامعة العربية عمر موسى بعد تسلمه جائزة السيد هاني فحص عصر يوم الجمعة في ١٧ الجاري ذكّر صاحب الجائزة بدور لبنان وإسهاماته في عصر النهضة. فلبنان يحرك العصور. هذا كان دوره ولا يزال، لا بل إنه مبرّر وجوده. وإلّا فلماذا قام بهذا الشكل منذ قرون، وتميّز عن محيطه كلّه وعن الشرق كلّه. الغيمة السوداء إلى زوال حتماً وسوف تأخذ معها سواد النفوس كلّها.

انضم الى قناة " AkhbarAlYawm " على يوتيوب الان، اضغط هنا


المزيد من الأخبار