رؤية استراتيجية متوازنة: قراءة في كلمة الرئيس جوزاف عون في قمة القاهرة
جمع بين التمسك بالحقوق الوطنية والثوابت العربية والانفتاح على العالم بمرونة
داود رمال – "اخبار اليوم"
تميزت كلمة الرئيس العماد جوزاف عون في قمة القاهرة بالعمق السياسي والرؤية الاستراتيجية الواضحة، إذ قدم مقاربة شاملة لقضية فلسطين من زواياها الوطنية والعربية والإنسانية، متكئًا على خبرته العسكرية والسياسية في قراءة تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي. هذه الكلمة لم تكن مجرد موقف سياسي تقليدي، بل شهادة حياة تنطلق من تجربة ميدانية عايشت الصراعات والتحديات الكبرى، ما جعلها تحظى بوقع استثنائي في أروقة القمة.
أكد الرئيس عون أن فلسطين هي قضية حق، لكنه شدد في الوقت ذاته على ضرورة امتلاك القوة لحماية هذا الحق، وهو ما يعكس وعيا بأهمية تكامل الأدوات النضالية، سواء عبر المقاومة المسلحة أو القوة الدبلوماسية والإعلامية والاقتصادية. فالقضية الفلسطينية، وفق هذا الطرح، ليست مجرد مظلومية تاريخية، بل معركة مستمرة على مختلف المستويات لكسب التأييد الدولي وتعزيز الموقف الفلسطيني في معادلة الصراع.
الرؤية التي قدمها الرئيس عون تنطلق من فهم شامل لطبيعة القضية الفلسطينية، إذ رفض حصرها في الإطار الوطني الفلسطيني فقط، مشددًا على أنها قضية عربية بامتياز، فضلا عن كونها قضية إنسانية عالمية. هذا التأكيد يهدف إلى تفادي محاولات تقزيمها إلى صراع محلي أو مذهبي، كما يحذر من استخدامها في أجندات سياسية ضيقة تخدم مشاريع خارجية على حساب الحقوق الفلسطينية. ومن هذا المنطلق، برزت دعوته إلى الوحدة العربية باعتبارها الشرط الأساسي لإحداث تغيير حقيقي في مسار القضية، حيث أشار إلى أن الانقسامات بين الدول العربية تجعل من الصعب تحقيق إنجازات فعلية على الأرض. فالتضامن العربي، وفقًا لهذا التصور، ليس خيارًا تكتيكيًا بل ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات الكبرى.
من موقعه كرئيس وقائد سابق للمؤسسة العسكرية اللبنانية، شدد الرئيس عون على أن الهوية الوطنية اللبنانية لا تتناقض مع الهوية العربية، بل تتكامل معها في إطار يعزز مناعة الدولة اللبنانية ويمنع استغلال التباينات الداخلية لأغراض سياسية. هذه المقاربة تهدف إلى تثبيت موقع لبنان كدولة ذات سيادة تتفاعل مع محيطها العربي والعالمي دون أن تكون تابعا لأي محور أو أداة في صراعات الآخرين. كما دعا إلى ضرورة الانفتاح على المجتمع الدولي وتوظيف الدبلوماسية في خدمة القضية الفلسطينية، معتبرا أن المواجهة مع إسرائيل لا يجب أن تكون مقتصرة على العمل العسكري، بل يجب أن تشمل جهودا سياسية وإعلامية لكسب الرأي العام العالمي.
في سياق آخر، أكد الرئيس عون أن لبنان يعاني، كما فلسطين، من الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة، مشيرا إلى أن تحقيق السلام لا يمكن أن يتم إلا بتحرير الأراضي المحتلة وضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. هذا الموقف ينسجم مع الثوابت التاريخية للدولة اللبنانية، لكنه في الوقت ذاته يعكس مقاربة عقلانية ترفض الانجرار إلى صراعات غير محسوبة العواقب. من هذا المنطلق، جاءت رسالته الحاسمة بأن لبنان لن يكون ساحة لصراعات الآخرين، ولن يسمح بأن يتحول إلى محطة لنفوذ خارجي أو ورقة في لعبة المصالح الإقليمية والدولية.
في ختام كلمته، شدد الرئيس عون على أهمية عودة لبنان إلى الشرعية العربية والدولية، مشيرا إلى ضرورة دعم الدول العربية له في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف به. كما أكد على أن لبنان يجب أن يبقى وطنًا للحرية والحداثة والانفتاح، وليس ساحة للصراعات أو ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية.
تُبرز هذه الكلمة رؤية استراتيجية متوازنة تجمع بين التمسك بالحقوق الوطنية والثوابت العربية والانفتاح على العالم بمرونة وواقعية. فقد قدم الرئيس مقاربة عملية لدعم القضية الفلسطينية ضمن إطار عربي موحد، مؤكدًا أن الانقسامات العربية هي العقبة الأبرز أمام تحقيق تقدم ملموس. كما شدد على أن لبنان لن يكون ساحة للصراعات، بل يجب أن يحافظ على دوره كجسر للتواصل والحوار.
بذلك، نجح الرئيس العماد جوزاف عون في إيصال رسالة سياسية ودبلوماسية تعزز من موقع لبنان في المعادلة الإقليمية والدولية، وتؤكد أن التوازن بين المبادئ والواقعية هو المفتاح لصياغة سياسات ناجحة في زمن الأزمات والتحولات الكبرى.