مقاربتان لسلاح "حزب الله"
حركته العسكرية ستبقى مشلولة وأصبح مطوقاً سياسياً
شارل جبور - "نداء الوطن"
برزت في الآونة الأخيرة مقاربة سياسية فحواها أن المشروع المسلّح لـ"حزب الله" انتهى، وأن لا حاجة للصدام معه سعياً لنزع سلاحه بالقوة طالما أقفلت الحدود مع إسرائيل لعملياته العسكرية، وأقفلت الحدود مع سوريا لتلقيه السلاح والمال، وأقفلت الخطوط الجوية مع إيران لتمويله، ما يعني أن هذا السلاح فقد وظيفته ودوره، فيما توقيعه على اتفاق وقف إطلاق النار يمنح إسرائيل حرية الحركة واستهدافه المتواصل على غرار ما هو حاصل، وما يعني أيضاً أن حركته العسكرية ستبقى مشلولة، وأصبح مطوقاً سياسياً في الداخل بتركيبة رئاسية وحكومية غير خاضعة للمرة الأولى لتأثيره، وبالتالي سيندمج بشكل تدريجي مع الواقع الجديد ويسلِّم بالمعطيات الجديدة، خصوصاً أن الدور الإقليمي لمرجعيته الإيرانية انتهى بدوره أو على طريق الانتهاء.
وبالمقابل، هناك مقاربة أخرى تعتبر أن دور الدولة لا يُؤخذ بالتقسيط والتدريج، ولا يُترك على همّة أي فريق سياسي ومزاجه، لأنه، إذا كان القرار عائداً له لن يسلِّم سلاحه حتى لو فقد وظيفته، إنما يحافظ على وضعيته بانتظار الظروف التي تسمح له بإعادة انتزاع دوره وإنتاجه، كما أن تطبيق الدستور والقانون ليس خياراً ولا حرية رأي، إنما مسألة ملزمة غير قابلة للنقاش والحوار، خصوصاً أن "حزب الله" ليس ميليشيا كسائر الميليشيات ولدت في الحرب نتيجة انهيار الدولة، إنما أداة إيرانية في سياق مشروع إقليمي توسعي عقائدي استغلت الحرب لتستوطن الواقع اللبناني.
والظرف السياسي الذي دخله لبنان يعد مثالياً وقد لا يتكرّر قريباً، ومن الخطيئة عدم الإقدام والمبادرة لإنهاء أحد أبرز مخلفات الحرب الذي أبقى لبنان في حالة حرب على رغم انتهائها منذ 35 عاماً، فماذا يمكن انتظار أكثر من تدمير بنية "الحزب" العسكرية وتطويقه من كل حدب وصوب ومحاصرة مشروعه الإقليمي ونشوء سلطة غير خاضعة لأجندته؟ وهل على المجتمع الدولي أن ينوب مكان السلطة في تنفيذ ما هو مطلوب منها؟ أم أن على السلطة أن تكون حازمة في بسط سلطتها والقيام بدورها وواجباتها؟ وهل تدرك السلطة أن ما بإمكانها القيام به اليوم سيتعذّر عليها غداً، خصوصاً بعد أن يمتص "الحزب" واقعه وخسارته ويعيد تنظيم نفسه وصفوفه؟
قد يكون صحيحاً ان "حزب الله" عاجز عن استخدام سلاحه في الداخل، وواقعة المطار أقوى دليل على أن التهويل بكتيبة الأهالي لم يعد ينفع. لكن المواطن الشيعي الذي لم يلمس بعد أن تركيبة "الحزب" العسكرية لم يتم حلها، وأن الدولة لم تفرض هيبتها وحضورها، سيبقي على التزامه سقف "الحزب" لا الدولة خشية على أمنه وحياته.
وبالتوازي مع هذا التفصيل على رغم أهميته، كيف يمكن للدولة أن تستعيد دورها السيادي في ظل دويلة تسيطر على مناطقها، وستعيد حكماً تنظيم صفوفها بانتظار الظروف التي تمكنها من الانقلاب مجدداً على الواقع السياسي؟ ومعلوم أن العالم ينام على حدث ويستفيق على آخر يمكن أن يبدِّل في الأوضاع والاهتمامات، فمن كان يتوقّع مثلاً أن يجتاح صدام حسين الكويت الذي قلب الأولويات؟ أو أن يقوم بن لادن بعمليته الإرهابية في 11 أيلول؟ أو أن يعلن السنوار حرب الطوفان؟ أو أن يخاطب الرئيس الأميركي نظيره الأوكراني بالطريقة المعروفة؟ وبالتالي، قد يحدث ما هو غير متوقّع ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فيما المصلحة الوطنية العليا تكمن في الاستفادة من المومنتم لإنهاء التركة الشاذة للأسد والخامنئي؟
لن تستقيم أصلاً أمور الدولة في ظل حزب مسلّح، ورافض التخلي عن أدبياته القديمة، وما زال مصراً على مشروعه المسلّح. ويجب أن تكون التجربة قد قدمت درساً للجميع بأن احتكار الدولة وحدها للسلاح هو المدخل الوحيد لقيام دولة فعلية. وخلاف ذلك، ستبقى في وضعية انتقالية وعاجزة عن فرض هيبتها وحضورها ودورها في المجالات والقطاعات كلها.
وما يجب أخذه في الاعتبار، أن من دمّر آخر همّه أن يعمِّر، لا بل سيجعل من الدمار مادة لتحريض بيئته ضد الدولة بأنها تقايض الإعمار بالسلاح، واكتراثه لهذا الجانب مرتبط حصراً باستيعاب نقمة بيئته، وإذا نجح بتحوير النقمة ضد الدولة يكون قد حقّق هدفه، وبدأ أساساً بالتحريض، إن في هذا الاتجاه، أو باتجاه أن الدولة عاجزة عن إخراج إسرائيل من لبنان وكأنه لم يهزم أمام الجيش الإسرائيلي، وكأنه حرّر مزارع شبعا التي تذرّع باحتفاظه بالسلاح لتحريرها منذ العام 2000، وكأنه بلع مقولاته بتوازن الرعب والردع واحتلال الجليل وأوهن من بيت العنكبوت، فيما وقّع على اتفاق يعطي إسرائيل المبرِّر لانتهاك السيادة اللبنانية طالما لم يسلِّم سلاحه، ولا يعطي الدولة الفرصة لتحمُّل مسؤولياتها، والفرصة تبدأ من نزع سلاحه، ولن تنجح بفعل أي شيء طالما هو مسلّح، إنما سيبقى لبنان ساحة نزاع مع فارق أن "الحزب" تحوّل إلى الحلقة الأضعف، ولكن هذه الحلقة تمنع قيام دولة فعلية.
وما يجب أخذه في الاعتبار أيضاً، أن لا أولوية لـ"حزب الله" تعلو على أولوية سلاحه، وأن تخييره بين السلاح والإعمار مزحة ثقيلة، لأنه سيختار السلاح، كما أن الرهان على لبننته مجرّد وهم لحزب لا يرى في لبنان سوى مساحة من مساحات المشروع الإيراني، وبالتالي لا خيار أمام الدولة سوى تطبيق ما لم يطبّق منذ العام 1991 وهو نزع سلاح "حزب الله".