عودة "توتال" المشروطة: البلوك 8 ينتظر ... والباقي في مهبّ السياسة!
هل تقوم الحكومة قريبا بانتشال هذا الملف من عنق الزجاجة؟!
دوللي بشعلاني - الديار
لا يزال لبنان الرسمي حتى الآن، "يُهمل" أو لا يُعطي الأولوية لقطاع النفط فيه، رغم كلّ الجهود المبذولة لتشجيع شركات النفط العالمية الكبرى والوسطى والصغرى كذلك، على الاستثمار في الرقعة الاقتصادية الخالصة التابعة له. وقد جرى أخيرا تمديد مهلة تقديم طلبات الاشتراك في دورة التراخيص الثالثة حتى 28 تشرين الثاني المقبل، بعد أن انتهت في 17 آذار الفائت. وهذا يعني أنّ لبنان أعطى نفسه مرّة جديدة، وشركات النفط العالمية، مدّة ثمانية أشهر وعشرة أيّام إضافية، للانطلاق مجدّدا في تحريك قطاع النفط. هذا القطاع الذي قد يُمثّل موردا كبيرا ومهمّا للأموال التي قد يُحصّلها لبنان، إذا تمّ اكتشاف أول بئر تجارية في احدى بلوكاتها البحرية، الأمر الذي من شأنه أن يجعل شركات النفط تتسابق على الاستثمار فيه. فلماذا تتأخّر الدولة، وما الذي تنتظره لإعادة تحريك هذا الملف الواعِد؟!
من المهم معرفة أنّ مفاعيل ترسيم الحدود البحرية التي حصلت مع العدو “الإسرائيلي” في العام 2023 تُستكمل، على ما يقول خبير طاقة متابع للأوضاع النفطية في لبنان والمنطقة، بمعنى أنّه حصلت الحرب ما أدّى الى عدم الاستقرار، فتوقّف العمل من الجانب اللبناني، في حين استمر من قبل "إسرائيل" التي هي في مرحلة الإنتاج. أمّا اليوم فقد انتهت الحرب نسبياً، وثمّة "رغبة" أميركية، بحسب المعلومات، أن يتمّ العمل بقطاع النفط من الجانبين، حتى لا يقول أحد الطرفين أنّه مغبون، وأن لا عمل لديه، أو أنّ لديه نوع من الركود في هذا القطاع. فبعد ترسيم الحدود البحرية، كان العدو "الإسرائيلي" جاهزاً للإنتاج من حقل "كاريش"، ولكن كان ممنوع عليه أن يُنتج، إلّا بعد مجيء الشركات للعمل في لبنان، أي حصلت معادلة حفر البئر في حقل "قانا" مقابل الإنتاج من حقل "كاريش". هذا البئر الذي حفرته "توتال" الفرنسية، ولم تُقدّم حتى الآن تقريرها الرسمي والنهائي بصدده، كون الأمر يحمل وجهين: سياسي وتجاري.
والجديد اليوم على صعيد البلوكات البحرية، يلفت الخبير النفطي، الى أنّه قبل حرب 7 تشرين الأول 2023، مُنحت حقوق التنقيب عن النفط في المنطقة المقابلة للبلوك 8 اللبناني، عند العدو "الإسرائيلي" الى شركة "سوكار" الأذربيجانية، بالتشارك مع "بي.بي" (أي "بريتش بتروليوم")، وشركة "إسرائيلية" صغيرة هي "نوميد للطاقة". لكن التوقيع لم يحصل آنذاك، بل جرى في الاسبوع الأخير من آذار المنصرم. ويقضي برنامج هذه الشركات، أولاً القيام بمسح زلزالي ثلاثي الأبعاد، لأنّه لم يجرِ قبل ذلك في المنطقة مقابل البلوك 8 الذي كانت تطمع "إسرائيل" بالحصول عليه، واستطاع لبنان استرداده بالكامل في اتفاقية الترسيم البحرية. وهنا يتردّد في كواليس قطاع النفط، أنّ ثمّة هتماما متجدّدا أخيرا من قبل شركة "توتال" الفرنسية وشركائها بالبلوك رقم 8. وثمّة إخراج ما يجري لحصول هذا الأمر، لا سيما بعد طلب رئيس الجمهورية جوزاف عون من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعودة شركة "توتال" الى لبنان، وطلبه بعد ذلك من أمير قطر بحصول حركة متجدّدة في هذا الملف. فضلًا عن الانفتاح الإماراتي على لبنان، من خلال السماح بعودة الإماراتيين اليه والرغبة بالاستثمار فيه.
ويأتي تجدّد الاهتمام بقطاع النفط في لبنان، على ما يبدو، نتيجة بدء العمل لدى العدو "الإسرائيلي"، والذي يفترض أن يكون هناك عمل موازٍ له في الجانب اللبناني. فكما يُجري "الإسرائيلي" مسحًا زلزاليًا خُصصت له ثلاث سنوات مقابل البلوك 8، ستعمل "توتال" على إجراء مسح زلزالي فيه. وهذا الأمر يؤكّد على أن التوازي في الحركة على جانبيِ الحدود محافَظٌ عليه حتى الآن. وهو ما جعل الأميركي ربما، يدفع الفرنسي الى العمل مجدّدا في هذا المجال. ورغم أهمية هذا الأمر، فإنه يبقى أقلّ بكثير ممّا يطمح اليه لبنان، سيما أنّ المرحلة الاولى من المسح وتحليل البيانات والنظر اليها وإجراء الدراسات، تتطلّب وقتا ليس قصيرًا (بين سنتين وثلاثة)، تقرّر بعده الشركات إذا ما كانت فعلاً تريد حفر بئر في البلوك 8 أم لا. علماً بأنّ المسوحات الزلزالية التي أجراها لبنان، قد وفّرت عليه بعض الوقت في موضوع الحفر. فالبلوكات جاهزة، ولا تحتاج سوى الى مستثمرين لديهم كلّ الداتا لبدء العمل.
من هنا، إذا تزامن خروج كونسورتيوم الشركات من البلوك 9، مع دخوله الى البلوك 8، فإنّ الخطوة تكون إيجابية نوعًا ما، على ما يشير المصدر المتابع، بالنسبة الى تحريك العمل في قطاع النفط في لبنان. وهذا يؤكّد أنّ هناك توازيًا غير مُعلن في المحتوى والشكل بين الجانبين، نتيجة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية. أمّا الأمر اللافت وغير الإيجابي، فهو أنّ "توتال" لا تهتم سوى بالبلوكات البحرية الحدودية، وكانّها حاصلة على “تفويض” ما بالتزام أي عمل على الحدود. علمًا بأنّ هناك 7 أو 8 بلوكات أخرى حتى الآن، لم يبدأ العمل بها مثل البلوكات 5 و6 و3. ومع نتائج البلوك 9 يُفترض أن يكون لدى "توتال" فكرة أوضح، ما يجعل الخبراء يعتقدون بأنّه ليس لديها أي اهتمام بعيد المدى حاليا للتنقيب عن الغاز والنفط في لبنان، وإلّا لكانت قدّمت طلبات للحصول على التراخيص في بلوكات أخرى غير البلوكين 4 و9. الامر الذي يدلّ على أنّ هتمامها آني ظرفي له علاقة بالسياسة بالدرجة الأولى. وإذا أتت منه نتيجة تجارية، من خلال اكتشاف تجاري ما، فستقوم بالطبع بتطويره.
في المقابل، يلفت الخبير الى أنّ هناك استراتيجية متبعة تقوم على ركائز عديدة، هي:
- الركيزة الأولى: تحفيز الشركات وتخفيف المعايير من دون خسارة قيمتها، وبموازاة الصناعة في العالم. فقد جرى منذ سنة ونصف تقريباً تقديم حزمة تعديلات، للتخفيف من الشروط في دورة التراخيص، سيما أنّ إبقاءها مرتفعة لا يساعد لبنان على تشجيع الشركات للإستثمار في بلوكاته البحرية. فإذا كان لبنان يريد المواءمة بين طبيعة الموارد التي يمكن أن يمتلكها، إذا كانت حقولا صغيرة لا تهمّ الشركات الكبيرة، وبين تطوير هذه الثروة وإخراجها من العمق لتُصبح أصولا مالية، عليه التوجّه الى الشركات المتوسطة والصغيرة من خلال تخفيف الشروط العالية التي قد تمنعها من تقديم طلبات الاشتراك. وطالت التعديلات في دفتر الشروط أربعة معايير أساسية هي:
1- معايير تقنية كانت ٍقاسية جدّا، فرضت عمل الشركة على عمق 500 متر وما فوق في المياه العميقة، وأن يكون إنتاج منها. وهو أمر صعب جدّا. لهذا، خفّف هذا المعيار، وأصبح يُطلب من الشركة أن تكون قد عملت في البحر، لكيلا يكون هذا الشرط عامِل مفاضلة لشركات محدّدة دون سواها. وبعد تقديم الشركات لطلباتها، تتمّ دراسة ملف كلّ منها.
2- مالية: بأن يكون لدى المشغّل، مثل "توتال" مثلاً، 10 مليار دولار أصول وما فوق. هذا الرقم يجعل عددا محدودا من الشركات تتجانس مع هذا الشرط، وهي شركات كبيرة، وبرامج حفرها تعتمد على المخاطر والصعوبات الأقلّ. لهذا طُرح تخفيض هذا الرقم الى مليار دولار، بهدف ألّا يكون هناك أي مانع لدى الشركات الجديدة التي لديها خبرة في الاستكشاف، من تقديم طلب الاشتراك. علماً بأنّه عندما تجد اكتشافا تجاريا ما، يمكنها الاستعانة بعدئذٍ بشركات أخرى، ما يُسرّع العمل. أمّا لغير المشغّل فخُفّض السعر من 500 الى 300 مليون دولار، مع طرح إلغاء وجود تحالف يضمّ ثلاث شركات لاستجلاب أكبر عدد من العروض. في حين أنّ كفالة المزايدة التي كانت 5 مليون دولار، فقد خُفّضت الى 500 ألف دولار. أمّا رسم الطلب الذي كان 50 ألف دولار، فجرى تخفيضه الى 5 آلاف فقط، وذلك استنادا الى مواكبة ما يحصل في المنطقة، ومقارنة مع دورات تراخيص أخرى فيها.
3- معايير قانونية: إذ جرى تخفيف الإجراءات البيروقراطية في ما يتعلّق بالأوراق، التي تحتاج الى توقيع من الخارجية ومن السفارات والنسخ الأصلية الخ... فقد وافق دفتر الشروط على تقديم النسخ، وفي حال فازت شركة ما، عندها تقدّم النسخ الأصلية.
4- معايير تتعلّق بالصحّة والسلامة والبيئة: كان يطلب دفتر الشروط معلومات معيّنة من الشركة، من دون فرض قبولها أم لا. هذا المعيار أصبح يُدرس فإذا كان هناك أمر ناقص، يُطلب من الشركة إضافته.
من هنا، فمن الضروري، وفق الخبير، إقرار هذه التعديلات على مرسوم دفتر الشروط، والتأهيل المسبق لتوسيع مروحة الشركات، وإمكانية أن تنضمّ الى التنقيب الشركات الصغيرة والمتوسطة، ضمن دورة التراخيص الثالثة الممدّدة حتى تشرين الثاني المقبل. علماً بأنّ مجلس الوزراء السابق لم يُقرّها، لهذا أعيد تقديم العرض الى وزير الطاقة الحالي، وجرى التأكيد على التوصيات نفسها. ولا يزال الملف في أدراج الحكومة الحالية في انتظار إقراره في مجلس الوزراء قبل انتهاء مهلة تمديد دورة التراخيص الثالثة.
- الركيزة الثانية على ما تابع المصدر، هي القيام باللازم للتسويق والترويج للمواد البترولية في لبنان، آخذين بالاعتبار نتائج البلوك رقم 9، التي هي إيجابية علمياً، وإن لم يتمّ اكتشاف غاز تجاري. فلبنان استطاع من خلال حفر هذه البئر تثبيت أنّ الطبقات الجيولوجية المنتجة ببحر فلسطين المحتلّة، ممتدّة الى بحر لبنان ككلّ. وهذا أهمّ تأكيد من البئر التي حُفرت في حقل "قانا". غير أنّ "توتال" قد تكون غير متحمّسة كثيراا لتظهيره تلافيا للمنافسة أو لأي سبب آخر. فالعوامل الإيجابية موجودة، وإن كان موقع الحفر غير مناسب، لأنّ الغاز الذي كان موجودا من 7 ملايين سنة حتى الآن قد يكون تسرّب لأنّ الغطاء لم يكن مُحكما، بسبب الحركات التكتونية والهزّات والزلازل الخ، ما يفرض الحفر في موقع آخر. علما بأنّ لبنان يملك 60 موقعا للحفر في بحره داخل بلوك 9 وخارجه، وما يحتاج اليه هو جلب المستثمرين للعمل فيها.
- الركيزة الثالثة: إطلاق التنقيب في البرّ الذي هو أقلّ كلفة وأسرع بكثير من العمل البحري. هناك قانون موجود في مجلس النوّاب منذ خمس سنوات، وقد عُرض على اللجان، وجاهز لإقراره في الهيئة العامّة. ولكن حصل خلاف حوله فتوقّف المشروع. واليوم إذا أرادت الحكومة الحالية تحريك هذا الملف، فإنّ القانون موجود ومعدّل ، ويمكن نفض الغبار عنه، ما يعطيها الحقّ في وضع عقد نموذجي وإطلاق مناقصة بدفتر شروط. فهل تقوم قريبا بانتشال هذا الملف من عنق الزجاجة؟!