البيوت التراثية ... كنز نسير جنبه يومياً دون أن نراه

البيوت التراثية ... كنز نسير جنبه يومياً دون أن نراه

image


البيوت التراثية ... كنز نسير جنبه يومياً دون أن نراه
تبكي لكن لا يسمع بكاءها إلا من عاش فيها

مازن مجوز - "نداء الوطن"
بيوتنا التراثية والعتيقة والمهجورة هي البركة، تشبه المرأة بشعرها الأبيض وظهرها المنحني ووجهها الشاحب، هذه البيوت تبكي لكن لا يسمع بكاءها إلا من عاش فيها.

والمشكلة في لبنان أن هذه البيوت التراثية متروكة لمصيرها، تمر بجانب أحدها في منطقة البسطة الفوقا فتقرأ "إنتبه هذا العقار آيل للسقوط، لا تقترب منه" جملة تستوقفك لكونها مطبوعة على ست أوراق متباعدة قليلاً عن بعضها، تم لصقها على امتداد واجهة البيت.

منزل تراثي بيروتي جميل ومهجور في الشارع الرئيسي في البسطة الفوقا - المزرعة، سكن الفنان "شوشو" حسن علاء الدين (1939-1975) في منزل تراثي آخر ملاصق ومشابه له تم هدمه قبل 8 سنوات، إنه شوشو الذي عاش فقيراً ومات مديوناً.

هذا الشارع ذو الطابع التراثي سكن فيه العديد من الأسماء اللامعة في عالم الفن والثقافة والسياسة منهم المخرج محمد سلمان والممثلة الكوميدية أماليا أبي صالح، والفنان التشكيلي مصطفى فروخ...


واليوم الإهمال سيد الموقف حيال هذه البيوت، متروكة لمصيرها، والبعض من أصحابها اضطر إلى بيعها بأقل من سعرها الحقيقي، ومعظمها ينتظر دعم الترميم أو التدعيم من الدولة، والذي يشكل الحل الأفضل، لأنها بالنسبة لأصحابها تمثل مخزون الذاكرة وصوت الجد والأب والأم والجدة، حرص معظمهم على عدم أذية مشاعرها عندما رتب أغراضه وغادرها مرغماً (لأسباب تختلف بين مالك وآخر ) فهي بالنسبة إليه عيون وقلوب من نوع آخر .

يقول عمر فؤاد دسوم، مالك مبنى قديم وتراثي، مكون من 5 طوابق في منطقة زقاق البلاط: "المبنى عمره 95 عاماً، مجمّد بحسب وزارة الثقافة وقد أدرج على لائحة الجرد العام، وقيّد حقه بالتصرف على هذا العقار وقد تكبدنا خسائر كبيرة وكأنه وضعت اليد عليه، ولا يمكننا القيام بأي خطوة، فمثلاً لا يمكننا الترميم ولا إجراء التصليحات، تأذينا كثيراً ، خصوصاً أننا كنا نأمل بإعادته مبنى جميلاً بمساعدة وزارة الثقافة وبلدية بيروت، ثم أتى انفجار مرفأ بيروت ليقضي على أجزاء أخرى من المبنى، وحتى اليوم لا تزال كل الوعود وعوداً بشأن المساعدة" .

ويتحسر دسوم على "تكبيل يديه وحريته" معظم المارة عند مرورهم بجانبه يأخذون الصور له ويستشهدون بتاريخه وبالفن الهندسي الذي يتميز به.

وللتوضيح، فإن وضع اليد تعني تجميد العقار أي تجميد حق الملكية، وضع قيود على حق الملكية والتصرف خاصة حيال الأبنية المصنفة .

تؤكد رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات المحامية أنديرا الزهيري، أنه حتى الآن ليس هناك قانون عملي وعلمي واضح بشأن الأبنية التراثية في لبنان، إذ لا مشاريع أو اقتراحات قوانين، هناك قانون نظام الآثار الصادر في فترة الانتداب الفرنسي، هو لا يكفي ويحتوي على ثغرات أساسية تعالج موضوع الأبنية التراثية التي لديها طابع خاص وتخضع لمعايير معينة إلا أن هناك قانوناً رقمه 194 يتعلق بحماية المناطق المتضررة جراء انفجار المرفأ ويقضي بحماية تراث بيروت.

وتضيف بأن المديرية العامة للآثار ووزارة الثقافة وضعتا ضوابط معينة لحماية هذه الأبنية، لكنهما في نفس الوقت ظلمتا المالكين، بفعل الشروط القاسية، لم يخفف من وطأتها إعفاء أصحاب هذه البيوت من الضرائب.

وفي ما يتعلق بالأضرار التي لحقت بها تشير الزهيري إلى أنها لحقت بها إما بفعل الحروب أو بفعل الإهمال أو تقييدها أو تجميدها من قبل الدولة بغية المحافظة عليها، واليوم تعرضت هذه الأبنية للضرر والتشويه، أو للهدم أو للتهاوي، ولسرقة حجارتها بسبب الحرب الأخيرة مع إسرائيل ، ومن بينها تلك المتواجدة في طرابلس وبعلبك والجنوب (سوق النبطية والجوامع والكنائس التراثية وعدد من الأسواق الشعبية في طرابلس).


بدورها توضح رئيسة الجمعية اللبنانية لحماية التراث والآثار/ALCAP الدكتورة خولا الخوري أن البيوت التراثية هي خليط من التاريخ والآثار والتراث والعادات والتقاليد، وعرف هذا الخليط في أواخر القرن الـ 18 بـ " البيت العثماني" ثم لاحقاً راح يعرف بالبيت اللبناني وهذا من ناحية العمارة، فيما تحمل لنا في داخلها عادات وتقاليد، لا بل أكثر هناك حضارات عدة تدخل في عمارة هذه البيوت، إذ تبين لنا أن قطع أحد المباني متنوعة، هناك قسم من فرنسا (من مارسيليا) وقسم من بريطانيا وقسم من تركيا من الأناضول.

وحول إنشائها تضيف الخوري، في فترة كان أصحابها يهربون من مناطقهم (إن من سوريا أو من البقاع أو من جبل لبنان) بسبب المشاكل السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، ما يعني أن هؤلاء المهاجرين جلبوا عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم معهم، وهذا يظهر من خلال عدة لكنات في الكلام وليس لكنة واحدة في بيروت وضواحيها مثلاً.

وتشدد الخوري على أن هذه البيوت أخذت عزها وشهرتها منذ نهاية القرن التاسع عشر وتحديداً 1882 وصولاً إلى 1945 تاريخ انتهاء الحرب العالمية، فيما أهميتها تظهر مثلاً بأنها "داتا البيروتي" حاملة كل تاريخ أصحابها وعائلاتهم وأقاربهم. وهي تشبه البيوت الممتدة على البحر المتوسط، وفي الواقع نحن من أخذ من الحضارات التي حملها إلينا أصحابها ومن بناها .

وتوصي الخوري بضرورة الحفاظ على هذه البيوت، لأنها أحد أسس السياحة، وأساس التاريخ وأساس الاستدامة، ولا ننسى أن هذه الأبنية هي هويتنا، وفي حال خسرناها فإن الخسارة ستكون كبيرة ولا تعوض.

وبالعودة إلى الزهيري، تكرر مطالبتها بأنه لا يكفي إقرار أو نشر قوانين تعنى بالأبنية التراثية، ولكن مراعاة الملكية الفردية دون تقييد التصرف بها، وتقديم الحوافز والدعم من خلال منظمات دولية كالأونيسكو وغيرها، للمحافظة على هذا النسيج التراثي الذي يضم ثقافات وتواريخ قيّمة وأساسية لإنعاش الاقتصاد اللبناني والسياحة اللبنانية .

وتكشف الزهيري أن 460 مبنى تضرروت في انفجار مرفأ بيروت، تم ترميم البعض منها، والكثير من الناس وجدت نفسها مرغمة على بيع بيتها التراثي بسعر أقل من سعره الحقيقي، وهذا ينعكس سلباً على ثقافة الأبنية وعددها في لبنان.
وتصف الزهيري هذه البيوت بـ "الكنز التراثي" واجب على الدولة المحافظة عليه وتقديم حوافز رئيسية، بالإضافة إلى إعفاء أصحابها من الضرائب، كان عليها مساعدتهم في الترميم لأن كلفة الترميم وتدعيم هذه الأبنية باهظة وتخضع لشروط معينة"، وهذه خطوة من شأنها تنشيط السياحة وإنعاش الاقتصاد، خصوصاً في ظل النهضة المنتظرة في القطاعات الإنتاجية كافة.