السموم البيضاء تفتك بالشباب في يومها العالمي
هذا ما يجري خلف جدران السجون!
ندى عبد الرزاق - الديار
لم يعد الحديث عن تعاطي المخدرات محصورا في نطاق الجريمة والانحراف، بل بات يشكّل ظاهرة مركّبة تتشابك فيها العوامل النفسية والاجتماعية والطبية على نحو بالغ الخطورة، لا سيما مع ما نشهده من ازدياد ملحوظ في أعداد المدمنين، وبصورة أكثر فداحة بين فئة الشباب. المقلق في المشهد أنّ كثيرين لا يدخلون هذا النفق المظلم بقرار مسبق أو وعي كامل، بل غالبا ما تكون البداية تجريبية، فضولية، أو حتى "علاجية"، قبل ان تسارع وتيرة الانزلاق إلى مرحلة الاعتماد النفسي والجسدي، وتنقلب المسألة من وسيلة للهروب أو التسلية إلى مأزق صحي واجتماعي مدمر.
وفقا لما تؤكده دراسات علم النفس الإكلينيكي، فإن التذرع بالأسباب النفسية والاجتماعية، مثل الاكتئاب، الوحدة، التفكك الأسري، أو الإحساس بالإقصاء، لا يمكن اعتباره مبررا كافيا أو حتميّا للانخراط في سلوكيات إدمانية. إذ إن ملايين الأشخاص يعايشون هذه الظروف دون أن يسلكوا طريق المخدرات. ما يميّز المدمن عن غيره في هذه الحالة هو هشاشة آليات التكيّف النفسي لديه، وضعف مهارات المواجهة السليمة، وافتقاده شبكات دعم فعالة، ما يتركه فريسة سهلة أمام الإغراءات العابرة أو الضغوط المستمرة.
عقاقير اشد فتكا من التعاطي!
وفي غمرة هذا الواقع تسلط "الديار" الضوء على قضية لا تقل خطورة: بعض الأدوية الموصوفة قانونيا والتي تُصنَّف ضمن فئة المؤثرات العقلية مثل الترامادول، البنزوديازيبينات (كالزاناكس والريڤوتريل)، والميثادون – تحوّلت من أدوات علاجية إلى بوابات إدمان مفتوحة على مصاريعها، إما بسبب سوء الاستخدام، أو نتيجة الحصول عليها بطرق غير مشروعة. وهنا تتداخل المسؤوليات بين الأنظمة الصحية، والتشريعات الرقابية، والوعي المجتمعي شبه الغائب.
من هذا المنطلق، فإن تحليل الظاهرة لا يمكن أن يكتفي بتعاطف سطحي مع الأسباب أو تكرار الخطاب الأخلاقي التقليدي، بل يتطلب مواجهة جذرية تبدأ بفهم الدوافع الحقيقية، وتفكيك الآليات النفسية التي تدفع البعض إلى تعاطي المواد المخدرة، مرورا بدور البيئة، والمؤسسات، وانتهاءً بضرورة وضع استراتيجيات وقائية صارمة تستند إلى العلم وليس إلى العاطفة أو العقاب وحده.
الصاحب ساحب والاهل غرقى في دوامة الحياة!
في السياق نفسه، تشير اختصاصية نفسانية واجتماعية تعمل ضمن إحدى الجمعيات اللبنانية المتخصصة في مكافحة الإدمان إلى أنّ "الانجراف نحو تعاطي المخدرات لا يقتصر على فئة عمرية محددة، وإن كانت فئة الشباب تحديدا هي الأكثر عرضة للخطر، ليس فقط لأن الشاب أكثر قابلية للتأثر والتقليد، بل لأن ظاهرة "العدوى الاجتماعية" باتت ملموسة؛ إذ إنّ فردا مدمنا قادر على سحب أصدقائه إلى التجربة بسهولة، لا سيما في ظل بيئة متهالكة وخالية من البدائل الآمنة".
وتؤكد لـ "الديار" انه، "استنادا إلى وقائع ميدانية، فإنّ الأسباب لا تقتصر على ضغوط نفسية أو مشاكل أسرية، بل أحيانا يكون التحفيز المباشر من داخل المنزل، حيث لا يدرك بعض الأهل خطورة ما يقدمون عليه حين يورّطون أبناءهم في تجارب ضارة، إما عن جهل أو تساهل مفرط، أو حتى بدافع "التهدئة" عبر وصف أدوية مهدّئة من دون إشراف طبي، ما يفتح الباب أمام التبعية الدوائية ثم الإدمان الفعلي".
وتشير: "يأتي العامل الاجتماعي والاقتصادي في طليعة المؤثرات الدافعة إلى التعاطي، خصوصا بعد اشتداد الضغوط على خلفية الأزمات المتراكمة، وكان آخرها العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، الذي لا يزال متواصلا، وما نجم عنه من موجات نزوح، وبطالة، وإحباط جماعي عميق. فالشباب اليوم، يعانون من "أزمة معنى"، ومن غياب الأمل وضياع الهوية، ما يجعلهم أكثر عرضة للهروب نحو بدائل مدمرة تمنح شعورا زائفا بالتحرّر أو التسكين المؤقت".
وتنوّه: "بأهمية التأهيل التقليدي نظرا الى اعتماده على الدعم النفسي والمجتمعي مثل الجلسات الجماعية والعلاج السلوكي، وهو ضروري لتثبيت التعافي ومنع الانتكاس. بينما الرعاية الحديثة فتشمل تقنيات متطورة مثل التطبيب الدوائي والتدخلات النفسية المتقدمة، مما يزيد فرص النجاح. ويظل استمرار العلاج الكلاسيكي مهما، باعتباره قاعدة أساسية لتعزيز الثبات النفسي والاجتماعي للمدمن".
البلاسم... من الشفاء الى وكر الإدمان!
من جهته، يحذّر الصيدلي الدكتور علي خليل، من معضلة متفاقمة داخل الصيدليات، إذ يقول: "نواجه يوميا أشخاصا، بعضهم قاصرون، يطلبون أدوية مهدئة أو منومة بجرعات مريبة، وغالبا من دون وصفة طبية. وبذلك، تحوّلت أدوية مثل الريڤوتريل، الزاناكس، أو حتى بعض مضادات الاكتئاب إلى وسيلة تعاطٍ خفيّة أشبه بالإدمان، بحيث أصبحت تُؤخذ كما تُستهلك المخدرات التقليدية".
ويوضح لـ "الديار" أنّ "غياب الرقابة الصارمة في بعض الصيدليات، إلى جانب التهاون في صرف أدوية الأعصاب، يفاقم الأزمة، ولا سيما بعد الحرب الأخيرة وما خلّفته من حالات قلق واكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة. ويكشف: "نرصد تزايدا مقلقا في عدد اليافعين الذين يطلبون هذه الأدوية، وبعضهم يعترف بأنه يحصل عليها من صيدليات بعيدة عن منطقته لتفادي الشبهات".
ويشدد على انه "رغم جهود وزارة الصحة في هذا المجال، فإن الواقع على الأرض يستدعي خطة وطنية أكثر صرامة وشمولًا، تبدأ من تقييد صرف الأدوية النفسية بطرق عشوائية، وتمرّ عبر حملات توعية منهجية موجهة للأهل والطلاب على حدّ سواء، وصولًا إلى فرض رقابة مستمرة على عمليات البيع والتوزيع، خصوصا في المناطق التي تشهد هشاشة اجتماعية وأمنية".
من قاع الإدمان إلى مواجهة الذات: شهادة شاب نجا من الهاوية
في سياق متصل، يستعيد طوني، وهو شاب في السادسة والعشرين من عمره، تفاصيل رحلته من الإدمان إلى التعافي. يروي قصته بصوت منخفض يملؤه الندم، وبنظرة لا تخلو من العزيمة، قائلا: "لم أكن أتصوّر أنني سأصل إلى هذا المكان. كانت أولى محاولاتي مع الحشيش برفقة أصدقائي. كنا نضحك ونقول إنها تجربة عابرة، لن نتعلق بها، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى وسيلة للهروب: من هموم المنزل، من الإخفاق في الدراسة، ومن شعور دائم بعدم القبول".
على صعيد اجتماعي، لم يبدأ طوني، كما أصدقائه وكثيرين في وضع مماثل، تعاطي المواد المخدّرة الصلبة بشكل مباشر، بل انزلق إليها تدريجيًا: من "التحشيش" إلى المهدئات، ثم إلى أنواع أكثر خطورة، وكل ذلك بعيدا عن أنظار العائلة التي اعتقدت، لسنوات، أنه يعاني فقط من تقلّب المزاج ورفقة سيئة.
بطبيعة الحال، المنعطف الحاسم في حياة طوني جاء بعد أن انهار جسديا ونُقل إلى المستشفى، لتكتشف عائلته حالته المأسوية. وبعد محاولة انتحار فاشلة، التحق بمركز للعلاج، وخضع على مدى 4 اعوام لعلاج نفسي وسلوكي مكثّف. ويعتبر ان: "الإقلاع عن المواد لم يكن التحدي الأكبر، بل كان الأصعب هو التحدي النفسي، ومواجهة الفراغ الداخلي الذي كنت أهرب منه طوال الوقت".
اليوم، وبعد تعافيه، يعمل طوني ضمن فريق توعوي، ويتحدث عن تجربته القاسية، موجّها رسالة الى كل شاب عبر "الديار": "ما تظنه لحظة متعة أو هروب، سيتحوّل مع الوقت إلى سجن. لا أحد سيبقى إلى جانبك، ولا يمكنك الاعتماد على صديق يدفعك نحو التجربة. لذا، لا تخجل من طلب المساعدة؛ السقوط ليس عيبا، لكن البقاء فيه هو العيب الحقيقي".
أزمة السجون تُفاقم مأساة الأبرياء!
من جهتها، تشرح الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، المحامية ماريانا برو، لـ "الديار" أن "وضع المحكومين لا يختلف عن وضع باقي السجناء، فالسجون في لبنان تخرّج البريء مجرما، ولا تؤهّل المجرم، بل ان ما يجري هو العكس تماما، اذ تضم أقبية زنازين الدولة اللبنانية عددا كبيرا من المظلومين الذين تتأخر محاكماتهم، وتصدر في غالبيتها أحكام بالبراءة".
وتقول: "صدّقوا أن التجّار والمروّجين خارج القضبان، بينما الصغار هم من يُزجّ بهم داخل السجن. والامر الانكى ان هناك من يظهر على الشاشات وهو مطلوب بعشرات مذكرات التوقيف، لكن لأنه محمي، لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه. حتى إنّ بعضهم يروّج ويتاجر بالمخدرات من داخل السجن، وقد استلمت العديد من الملفات أمام المحكمة العسكرية، وتبيّن أن جميع التهم تتعلق بالترويج والاتّجار بالمخدرات داخل السجون. ففي مجتمع لا يتجاوز فيه راتب العسكري مئتي دولار، الى جانب ذلك السجين المظلوم الذي يبكي كل يوم مئات المرات، ويعيش في ظروف تخنق الكلاب، فكيف إذا كان إنسانا؟! لذا، من الطبيعي أن يلجأ البعض داخل السجن إلى الإدمان، فاليأس أحيانا يؤدي إلى الانهيار والانحلال الأخلاقي على كل المستويات".
"دواء هذه المعضلة" بالعفو العام!
وتضيف: "أجدد المطالبة بإصدار عفو عام وتطبيق المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، والبدء فعليا بإنشاء سجون لائقة، وحلّ أزمة السجون، وبناء دولة قوية. لكن يبدو أننا سنظل نكرّر الأحلام، لأن أبسط حقوق الإنسان في لبنان أصبحت حلما فكيف يمكننا معالجة آفة المخدرات ونحن حتى اليوم لم نعالج أزمة اكتظاظ السجون؟".
وتختم بالقول: "على أمل أن ينتبه الأهل جيدا لأطفالهم، وأن يعاقب المروّجون والتجّار بعقوبات رادعة فعلية، مع ضرورة عدم زجّ أسماء لا علاقة لها بملفات المخدرات، كيلا يتحوّل الشخص المتهم، الذي هو في الاصل ضحية، الى مجرم بسبب توريطه في قضايا لا تخصه. كما أطالب الإعلام بالتركيز على خطورة تعاطي المخدرات، اذ تؤدي الصحافة ومواقع التواصل الدور الأبرز في التوعية. كما أشكر وسيلتكم على اهتمامها الدائم بكل القضايا التي تسهم في حماية أفراد المجتمع".