حزب الله يستعيد المبادرة..خلف الدولة وأمامها وأبعد من الجميع

وضع نصرالله جملة عناوين يمكنه انتقاء أي منها فيما غرق الآخرون بحفرة مواقفهم

منير الربيع - المدن
الصبر الذي يتمتع به أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، يتيح له البقاء في "جنّة" سياسية مستدامة نسبةً إليه. ظل على صمته منتظرًا إعلان المواقف من الاتجاهات كلها، حتّى نفذت ذخيرة الآخرين، فخرج ليعلن معادلته. استجمع ما صدر عن حلفاء وخصوم، راقب حال ضعف لبنان في موقعه التفاوضي، ورأى الخيوط كلها تُسحب من أيدي المسؤولين، الذين وصلوا إلى استجداء الوسيط الأميركي، ووضع نصرالله هذا كله بين يديه وطرح معادلاته. كان واضحًا أنه يردّ على من أراد حشره في حفرة، فحفر حفرة للجميع، واستعراض قوته ونصح الدولة اللبنانية بالاستفادة منه.

خلف الدولة وأمامها 
ميزة نصر الله أنه قادر على طرح معادلة وجملة أفكار في إطلالة واحدة، وربما في جملة واحدة. هو يوسّع آفاقه، فيما ينزلق الآخرون إلى فكرة واحدة تأسرهم وتستأثر بهم. بعضهم لا يرى غير تعديل المرسوم لاعتماد الخطّ 29. آخرون يتشبثون بالخطّ 23. وطرف ثالث يعتبر أن قدوم الباخرة إلى كاريش ما كان إلا بناء على تطمينات وصفقة أميركية- إيرانية، وسوى ذلك من مواقف يبقي من يدلي بها أسيرًا لها.
وحده نصر الله خرج من هذه الشرانق. تجاوز الحدود والخطوط واعتبرها وهمية، مركّزًا على أهمية الحقول، وطرح معادلة وقف التنقيب، طالما لبنان ممنوع من البدء بالحفر والتحضير للاستخراج. في موقفه أخذ نصرالله تلك المواقف وذهب أبعد منها: هدد إسرائيل بوقف التنقيب فورًا، إذا لم تبدأ الشركات بالعمل في لبنان. بقي على موقفه خلف الدولة اللبنانية، لكنه وقف أمامها أيضًا، فتركها خلفه في ذهابه بعيدًا، واستبق زيارة المبعوث الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين. فقوّى موقف لبنان وحصنه لجهة الإسراع في إنجاز الاتفاق، مهددًا إسرائيل بوقف العمل خلال فترة قريبة.

أبعد من الجميع
تجاوز نصرالله بذكائه ما اعتبره محاولة بعض القوى والخصوم دفعَهُ إلى خوض معركة أو مواجهة أو حرب لا يريدها. فهو موقن أن اندفاع  كثيرين إلى التعويل على تعديل المرسوم، أو التصويب على حزب الله لعزوفه عن المقاومة دفاعًا عن السيادة لإحراجه واستدراجه إلى مواجهة، ليست سوى من قبيل المزايدة. وهو عاد إلى طرح مواقفه السياسية وعرض القوة والتلويح بها.

استفاد نصرالله من ذهاب الآخرين بعيدًا، فبنى على كل المواقف لتكوين موقفه المتكامل، الذي يختزل الخيارات: سياسية، ديبلوماسية، نفطية، وعسكرية أيضًا. وبذلك وضع جملة عناوين يمكنه انتقاء أي منها عندما يريد وكيفما تقتضي المصلحة، فيما غرق الآخرون في حفرة مواقفهم.

أفق الصراع لدى حزب الله أبعد بكثير من مجرد ترسيم حدود وتنقيب عن النفط. هي معركة من معارك كثيرة، أو في سياق حرب وجودية. ونصرالله استخدم هذه الكلمة في تهديده إسرائيل. فحزب الله يعلم أن ترسيم الحدود البحرية يستتبع الانتقال إلى الحدود البرية. وهنا قال نصر الله إن لا مشكلة فيها. فغاب عن باله أن مزارع شبعا لا تزال موضع نزاع وفق القانون الدولي.

ولا يغيب عن بال نصرالله أن الانتهاء من الترسيم يعني تعالي الأصوات الداعية إلى إلقاء السلاح. وهذا حتمًا ليس التوقيت الذي يراه حزب الله مناسبًا لذلك، لا لبنانيًا ولا إقليميًا، ولا يمكن طرحه لقاء التنقيب عن النفط. فحزب الله يعمل وفق معادلة المعركة الوجودية حدوديًا وسياسيًا ودستوريًا.

استعادة المبادرة وتجاوز الخلافات
في الخلاصة: أراد نصر الله تعزيز موقف الدولة اللبنانية قبل مجيء هوكشتاين. وموقفه يسمح باستعادة المبادرة، والتي تتجلى في تسريبات رسمية عن رفض الالتزام بما يطالب به المبعوث الأميركي، أي الجواب الخطّي. فالمصادر الرسمية تركز على رفض ذلك تحت عنوان: لا يمكن لهوكشتاين فرض إملاءاته على اللبنانيين. وفي هذا السياق يدعو رئيس الجمهورية إلى لقاء في بعبدا للبحث في كيفية الردّ. قد لا يحضر رئيس مجلس النواب نبيه بري هذا الاجتماع لعدم اقتناعه بآلية التفاوض.

حتى الآن لا تزال الخلافات قائمة بين اللبنانيين. وحده نصر الله تجاوز تفاصيلها واختصر الأمر بمعادلة واضحة: الترسيم وفق المصلحة اللبنانية، والبدء بعمليات التنقيب والتحضير للاستخراج. وهذا على قاعدة: لا غاز من كاريش من دون استخراج الغاز من لبنان. عدا عن ذلك يبقي حزب الله خياراته العسكرية مفتوحة. وكان نصر الله واضحًا عندما كشف عن اجتماعه بالمسؤولين العسكريين في حزبه لسؤالهم عن مدى قدرة المقاومة على تنفيذ ضربة بحرية مركّزة ضد باخرة التنقيب.

يعلم حزب الله جيدًا أن أميركا وإسرائيل في أمسّ الحاجة إلى الاستقرار، في ظل اشتعال حرب روسيا على أوكرانيا، وهمّ أوروبا الأساسي توفير الغاز. هذا رهان أساسي على عدم التصعيد في جنوب لبنان، لأن التصعيد يؤدي إلى وقف استخراج الغاز من كاريش. وهذه معادلة قوة يعرف نصر الله جيدًا كيف يستخدمها.