بين نيسان 1975 و2025: خمسون عامًا من الانهيار
تعرّضت الطبقة الوسطى التقليدية للتحلّل خلال الحرب وبسببها
هاني عضاضة - المدن
يسير الزمن في لبنان في حلقةٍ دائرية، حيث يترابطُ الماضي والحاضرُ والمستقبل بعمق، وكأنه محكومٌ بتكرارٍ نيتشويٍ أبديٍّ مملّ، تُنفى فيه الفكرة التي ردّدها الماركسيون من وحي (وليس بشكلٍ حرفي) ما كتبه كارل ماركس في "الثامن عشر من برومير" حول كيفية تكرار التاريخ لنفسه، مرةً كمأساة ومرةً أخرى كمهزلة. وكأن اللبنانيين غير قادرين على الفكاك من "أقدارهم"، والأحداث والانهيارات والحروب والإخفاقات تتكرّر بالشكل نفسه، بل حتى أحيانًا بالدقة نفسها.
وربما يكون هذا أحد أسباب وصف الكثيرين لأعمال زياد الرحباني المسرحية بالعبقرية، رغم أنه شخصيًا لم يكن ليتصوّر أن أعماله المسرحية ستكون مجرد جزءٍ لا يتجزأ من هذا التكرار اللامتناهي. الجميع يلوم الجميع على الانحدار في كل مرحلةٍ من المراحل، لكن عناصر الترابط في هذا التعاقب الدوري جميعها متداخلة لدرجة تمنع فصل الأحداث عن بعضها بعضًا، سواء كانت تلك الأحداث قد وقعت قبل الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) بسنوات قليلة، أو في بداياتها، أو عبر مختلف مراحلها، أو في جميع المراحل اللاحقة وصولًا إلى يومنا هذا.
جميع هذه العناصر، في هذا النسق المعقّد، تتصل بالبنية الاقتصادية والاجتماعية، وتتمظهرُ بمزيدٍ من التبعية الاقتصادية، وتعميق الطابع الاستهلاكي للمجتمع، ومراكمة الدين العام، وإغراق لبنان في عجزٍ تجاري أكبر. ينعكس كل هذا في ثنائيات جدلية يُعيد النظام السياسي الطائفي تكوين شروط إنتاجها باستمرار. يسير التاريخ في لبنان في حلقةٍ دائرية، رغم كل المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى في العالم، بل حتى في محيطه الجغرافي المباشر. ويحدث فيه ذلك بصورة أشد تركيزًا من غيره من البلدان المشابهة له في الوقوع في أفخاخ التبعية الاقتصادية، لكن مجتمعاتها تتّسم بفاعلية سياسية تمكّنها من "التجاوز" في لحظة تاريخية مواتية، ويغذّي تكرار الأحداث نفسها في حالتها القدرات الكامنة على هذا التجاوز، وإن لم يكن هناك تجاوز تام بالمطلق، إلا أنها تتمكّن من الانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى، وإحداث تغييرات هائلة تطال بنى الاقتصاد والمجتمع والسياسة مع كل عملية انتقالية جديدة.
أما في لبنان، فتُعيد البنى الاقتصادية والسياسية إنتاج نفسها، رغم الأزمات والانهيارات، ويُصارِع أصحاب المصلحة في ذلك حتى الرمق الأخير، ضد العالم كله، بمؤسساته ومنظماته الدولية وحكوماته، وضد الغالبية العظمى من اللبنانيين المتضرّرين في الوقت ذاته. وهذا هو بالذات ما نشهده اليوم من قبل مجموعات الضغط المصرفية، التي تعمل على "شيطنة" طروحات أكثر المؤسسات تطرفًا نيوليبراليًا حول العالم، أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وغيرها، التي تطالب برفع السرية المصرفية وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتضع هذه المطالب في خانة التطرّف اليساري!
جذور الانهيار
بالطبع، ليس بمقدور أي بلدٍ صغير في جميع أنحاء العالم اليوم أن يضمن استقلالًا اقتصاديًا حقيقيًا عن الأسواق العالمية. لكن هناك قدرًا من التوازن يتيح لأي دولة صغيرة توفير استقلالية نسبية تسمح لها بالتحكم – نسبيًا أيضًا – في مصير مجتمعها وخياراتها الاستراتيجية. هذا التوازن نجده مفقودًا على نحو كبيرٍ في الحالة اللبنانية، والأمر يزداد سوءًا منذ عام 2019 بسبب الشلل والفشل السياسي الذي تبع الانهيار الاقتصادي، وقبل أن تأتي الحرب الإسرائيلية الأخيرة لتعيث دمارًا ضخمًا يعمّق وقع الانهيار.
إلا أننا نجد جذور الركيزة الأساسية لهذه الدوامة في فترة الحرب الأهلية، التي قُدّرت الخسائر الاقتصادية الناتجة عنها بنحو 25 مليار دولار أميركي حسب ما أشار إليه النائب السابق لحاكم مصرف لبنان بين عامي 1990 و1993 غسان العيّاش في كتابه "أزمة المالية العامة في لبنان: قصّة الانهيار النقدي 1982-1992".
هذا الاختلال الكبير في التوازن لم يكن موجودًا قبل الحرب، حيث كان إجمالي الإيرادات يفوق إجمالي النفقات بشكل عام، وكان لبنان يتمتع بفائضٍ مالي حتى الستينيات، قبل أن تبدأ الزيادة (المدروسة) في الإنفاق العام في المرحلة الشهابية، فيما كانت القطاعات الإنتاجية تشهد نموًا على الرغم من سطوة القطاع المصرفي.
لكن الاقتصاد اللبناني قبل الحرب الأهلية لم يكن موجهًا بشكلٍ كامل لخدمة المصارف، وكانت المعايير القانونية والسياسات النقدية تتّسم بالصرامة، إلى هذا الحد أو ذاك، مقارنة بالوضع الناشئ خلال فترة الحرب، حيث تحوّل المصرف المركزي إلى مؤسسة تقوم بتمويل عجز الموازنة، وتقوم حتى بإقراض الأطراف المتصارعة، كما حصل في حالة تنازع حكومتي سليم الحص وميشال عون على السلطة في عام 1988. ثم اتجه الاقتصاد اللبناني بشكل جذري بعد الحرب، أي في فترة "إعادة الإعمار"، نحو التجارة والسياحة والخدمات على حساب الصناعة والزراعة، وليس بطريقة مكملة لهما.
طاولت الأضرار الناتجة عن حرب الستة عشر عامًا جميع القطاعات والمنشآت، بما في ذلك المستشفيات، والجامعات، والمدارس، ودور الحضانة والأيتام والعجزة، ومطار بيروت الدولي، والمرافئ الشرعية وغير الشرعية على السواء، وما لم يقع تحت سيطرة الميليشيات التي فرضت الخوّات والرسوم الخاصة بها، وقع ضحية العبوات الناسفة أو السيارات المفخخة. يُضاف إلى اقتتال الميليشيات اللبنانية بين بعضها بعضًا، الاعتداءات الخارجية، الإسرائيلية والسورية على حد سواء، وإن كان اجتياح إسرائيل عام 1982 أكثرها إلحاقًا بالدمار في البنية التحتية، وكانت له مساهمة، تُضاف إلى جميع العوامل الأخرى مجتمعة، في بدء الانهيار النقدي في العام نفسه.
تراكم الانهيار
يذكر غسان العيّاش في كتابه أن "سعر الدولار الأميركي ارتفع من 3.8 ليرة لبنانية في نهاية عام 1982 إلى 1838 ليرة لبنانية آخر عام 1992، وبذلك يكون سعر صرف الدولار الأميركي قد ارتفع خلال هذه الفترة 482 مرة، مسجلًّا نسبة ارتفاع سنوي تبلغ 85.5 في المئة، وقد كان ارتفاعه جنونيًا في بعض سنوات الأزمة، إذ بلغ 103 في المئة سنة 1985، و380 في المئة سنة 1986، و423 في المئة سنة 1987".
وبين عامي 1984 و1987، تجاوز عجز الدولة نسبة 80 في المئة من إجمالي النفقات، وفي عامي 1988 و1989 تجاوز نسبة 90 في المئة. تزايُد عجز الدولة في تلك السنوات فاقم من اعتمادها على تمويل عجزها عبر الاستدانة، إذ حذّر الحاكم السابق لمصرف لبنان، إدمون نعيم، في تشرين الأول/أوكتوبر 1987 من أن "الإنفاق غير المحدود الذي تقرره السلطات العامة يمعن في تدني قيمة الليرة اللبنانية بشكل سريع". هذا مقابل تراجع الإيرادات الضريبية للدولة اللبنانية بشكل كبير، بشكل أساسي بسبب فقدانها السيطرة على مواردها ومرافقها الحيوية.
أدى هذا الوضع إلى إحداث تغييرات بنيوية في آليات عمل الاقتصاد اللبناني؛ فيشير العيّاش إلى أن عبء الضرائب المباشرة انتقل من الأغنياء إلى الأجراء، وتقلصت الضرائب والرسوم غير المباشرة لتصبح أقل من الضرائب المباشرة، وتحديدًا منذ عام 1985، مع الإشارة إلى أن الرسوم الجمركية كانت العنصر الرئيسي في الضرائب غير المباشرة، حيث شكّلت نحو 65 في المئة إلى 75 في المئة منها، وذلك قبل إقرار الضريبة على القيمة المضافة (TVA) بعد فترة الحرب الأهلية. ولحق بمستوى المعيشة نتائج مأساوية، مع ارتفاع معدّل التضخم، وانخفاض القيمة الحقيقية للأجور وإعادة توزيع الدخل بشكل ظالم، وانهيار الطبقة الوسطى وتحول معظم أفرادها إلى فقراء. وقد بلغ معدل التضخم خلال الحرب أقصاه في عام 1987 بنسبة 487 في المئة.
بينما يشير الخبير الاقتصادي والمدير التنفيذي لمؤسسة البحوث والاستشارات الدكتور كمال حمدان إلى أن "الدراسة المقارنة لتطور الأسعار والأجور تظهر انخفاض الحد الأدنى للأجور بنسبة 65 في المئة بين 1974 و1990، وانخفاض الأجر المتوسط بنسبة 75 في المئة في نفس الفترة".
استمر العجز في الموازنة بعد انتهاء الحرب، مع تزايد الاعتماد على الاستدانة غير المفيدة، إذ لم تتجه الأموال لإنعاش القطاعات الإنتاجية الأساسية. وانبنى اقتصاد الجمهورية اللبنانية الثانية على أساس الفجوة الطبقية الهائلة التي ولّدتها الحرب، إذ أتت حزمة السياسات النيوليبرالية الحريرية التي كانت تهدف بالأساس إلى زيادة الاستثمارات وتحفيز النمو الاقتصادي، لتفاقم الفروقات الاجتماعية، وتضاعف من استفادة ومراكمة ثروات أفراد الطغمة المالية مقابل الإهمال المتزايد للطبقات الاجتماعية الأضعف.
أعادت هذه السياسات تشكيل الطبقة الوسطى، لكن هذه العملية كانت مصحوبة بتغيرات بنيوية في التركيب الاجتماعي، حيث تعرّضت الطبقة الوسطى التقليدية، المساهِمة تاريخيًا في نشوء ونموّ القطاعات الإنتاجية للتحلّل خلال الحرب وبسببها، مقابل ولادة طبقة وسطى جديدة مرتبطة بشكل شبه كامل بالقطاعات الخدماتية.
وساهم التضخم العقاري والإقراض الاستهلاكي المفرط في تكوين المزيد من الفقاعات الاقتصادية، في حين ساهمت الوصاية السورية في تعطيل الحياة السياسية والنقابية الديمقراطية من جهة، ومفاقمة الفساد في القطاعين العام والخاص من جهة أخرى. كل هذه العوامل، وغيرها الكثير، خلال الحرب وبعدها مباشرة، تشابكت كميًا لدرجة أنه لم يعد من الممكن فصل أي مرحلة عن سابقتها منذ عام 1975 حتى تاريخ آجلٍ نشهد فيه تفكّك الجمهورية الثانية، إضافة إلى إرث الجمهورية الأولى الثقيل الذي لا تزال تحمله حتى اليوم.