20 دولارًا فرق بـ 100 متر والرقابة "اختراع لبناني"

20 دولارًا فرق بـ 100 متر والرقابة "اختراع لبناني"

image


20 دولارًا فرق بـ 100 متر والرقابة "اختراع لبناني"
مديرية حماية المستهلك: نقوم بجولات لكن الأعداد غير كافية

سيدة نعمة - "نداء الوطن"

"20 دولارًا ومئة متر فرق"، هكذا اختصرت سيّدة خمسينية واقع الأسعار المتفاوتة بين سوبرماركت وآخر في المنطقة نفسها. ظاهرة لم تعد محصورة في حيّ أو قضاء، بل تحوّلت إلى نمط عام يستشري في مختلف المناطق اللبنانية.


في بلد يرزح تحت وطأة أزمات متتالية، لا يكفي اللبناني أن يتحمّل ارتفاعًا سنويًا في الأسعار بلغ 1.3 % مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي (وفق الجدول الأسبوعي لجدول أسعار سلّة السلع الغذائية الصادر عن وزارة الاقتصاد) بل على اللبناني أيضًا أن يواجه فوضى تسعير تُدار وفق أهواء التجار، وهنا يُطرح السؤال الأساسي: أين دور الوزارة وأجهزتها الرقابية؟ وهل من خطة فعلية لحماية المستهلك من هذا الفلتان اليومي؟


في معرض تفسيره لظاهرة تفاوت الأسعار بين السوبرماركات، يوضح مدير حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، طارق يونس، أنّ "الاختلاف في الأسعار يُعتبر أمرًا طبيعيًا، إذ تتفاوت الكلفة التشغيلية من منطقة إلى أخرى. على سبيل المثال، سوبرماركت في فردان يتحمّل إيجارًا مرتفعاً مقارنة بسوبرماركت في قرية نائية حيث لا أجور عقارية تُذكر".

ويضيف: "مهمتنا ترتكز على التدقيق في نسب الأرباح، لا على توحيد الأسعار، كما أنّ المستهلكين لا يميّزون دائماً بين المنتجات من حيث النوعية والشركة المُصنّعة، ما يؤدي إلى مقارنات غير دقيقة".


ويشرح يونس أنّ آلية المراقبة في الوزارة تعتمد على تسيير ما بين 20 إلى 25 دورية يومية تغطي مناطق بيروت وجبل لبنان، وهي نسبة غير كافية نظراً لمهام الوزارة المتعددة في مجال حماية المستهلك، لا سيّما في ما يتعلق بسلامة الغذاء. ويقول: "نقوم بجولات رقابية على المطاعم والسوبرماركات للتأكد من سلامة المنتجات وجودتها"، ويوضح: "في الشمال والبقاع والنبطية توجد مكاتب تابعة للوزارة تقوم بنفس العمل".

في الميدان، يعمل المراقبون على التأكد من تطابق الأسعار المعلنة على الرفوف مع تلك المحتسبة على صناديق الدفع، وهو تلاعب تكرّر خلال فترات تقلب سعر الصرف، ولا يزال يُسجّل ولكن بوتيرة أقل. كما يتمّ التحقق من التزام التجار بنسب الأرباح المحددة على السلة الأساسية للسلع، ومتى تبين وجود تلاعب غير مبرر، تُحرّر محاضر ضبط بحق المخالفين. ويلفت يونس إلى أنّ بعض المخالفات لا تقع على عاتق السوبرماركات أحياناً بل تعود إلى الشركات المستوردة الكبرى التي ترفع أسعارها، وهنا يُحاسب التاجر الأساسي.
لكن الطريق ليس سهلاً أمام فرق الرقابة، فبحسب يونس، "يواجه المراقبون صعوبات متعددة أبرزها تهرّب التجار من إبراز الفواتير، إلى جانب ضعف الرواتب الذي يثقل كاهل الموظفين، والصعوبات الأمنية التي تشمل الإهانات والاعتداءات الجسدية واللفظية في عدد من المناطق".
أما عن أنواع المخالفات، فيُعدد يونس: "تجاوز نسب الأرباح المسموح بها، اختلاف السعر على الرف عن السعر عند الدفع، أو عدم الإعلان عن الأسعار على بعض السلع الغذائية".

أما في ما يخص تحديد ما يُعد "تجاوزاً في نسب الأرباح"، فإن وزارة الاقتصاد تعتمد على "قرار نسب الأرباح" الصادر في العام 2008 عن وزير الاقتصاد حينها، محمد الصفدي، والذي لا يزال سارياً حتى اليوم. ينصّ هذا القرار (رقم 277/1) على تحديد حدود قصوى لهوامش الربح في تجارة الجملة ونصف الجملة والمفرق، وذلك بحسب نوعية السلع.

ويُحدَّد السقف المسموح به على النحو الآتي:

• المواد الدهنية والزيتية: 7 % للجملة ونصف الجملة، و10 % للمفرق.

• اللحوم: 5 % للجملة ونصف الجملة، و10 % للمفرق.

• الحبوب ومشتقاتها والعلفيات: 5 % للجملة ونصف الجملة، و10 % للمفرق.

• الخضر والفاكهة ومشتقاتها: 7 % للجملة ونصف الجملة، و15 % للمفرق.

• المكسرات: 10 % للجملة ونصف الجملة، و15 % للمفرق.

• السكاكر والحلويات: 10 % للجملة ونصف الجملة، و15 % للمفرق.

• الصابون ومشتقاته: 7 % للجملة، 10 % لنصف الجملة، و15 % للمفرق.

• الأقمشة والملبوسات: 10 % للجملة ونصف الجملة، و15 % للمفرق.
• السلع المتفرقة كالبن، المشروبات الروحية، الخل، الورق الصحي: 7 % للجملة، 10 % لنصف الجملة، و15 % للمفرق.

هذا القرار يشكّل المرجع الرسمي للمراقبين لتحديد ما إذا كان التاجر قد خالف القانون بتحقيق أرباح تتخطى الحدود المسموح بها.


ورغم هذه الجهود، يشير إلى أنّ "المشكلة الأساسية تكمن في غياب المحاسبة القضائية الرادعة. فمحاضر الضبط لا تزال كلفتها منخفضة نسبياً، ولا تُشكّل إلا جزءاً بسيطاً من أرباح المخالفين". ويضيف: "تعديل القانون في الـ 2019 رفع الغرامات لتصل إلى كلفة بين 50 و 100 مليون ليرة، لكننا نأمل في تفعيل القضاء بشكل أكبر لتكون العقوبات فعّالة وسريعة، لأن سعر صرف الدولار اختلف كثيراً عن السنة المذكورة"، كاشفاً: "هناك محاضر ضبط لا تزال عالقة عند القضاء المختص منذ ثلاث سنوات وأكثر".


وعمّا إذا هناك تعاون مع البلديات، يؤكد أنّه "من حيث المبدأ، تمتلك البلديات حق التدخل، لكنها تفتقر إلى الخبرة الكافية وغالباً ما تتجنب التدخل بسبب ضعف الإمكانيات والخشية من الدخول في إشكالات ضمن نطاقها".

ويختتم يونس برسالة إلى المستهلك اللبناني، داعياً إيّاه إلى المطالبة بحقوقه، وأبرزها الحصول على فاتورة، والتأكد من صلاحية السلع وجودة التخزين، والإبلاغ عن أي عملية غش أو مخالفة عبر تطبيق الوزارة الذي يتيح تقديم الشكاوى بسرّية تامة، متعهّداً بمتابعة الشكوى خطوة بخطوة وإبلاغ المشتكي بكل التطورات عبر رسائل مباشرة.

بالمقابل هناك رأي مخالف لرأي يونس عن العمل الرقابي في الوزارة إذ يؤكّد رئيس جمعية "مستهلك – لبنان" زهير برّو أن "المشكلة لا تكمن في الرقابة بقدر ما تتعلق بطبيعة السوق اللبناني". ويضيف: "من يحدد الأسعار في لبنان ليس وزارة الاقتصاد ولا مديرية حماية المستهلك، بل عوامل أساسية ثلاثة: وجود المنافسة، الإنتاج المحلي، والاستقرار السياسي والاقتصادي".

ويشرح برّو أنّ لبنان يستورد ما بين 80 إلى 85 % من حاجاته الاستهلاكية، ما يمنح التجار المستوردين القدرة على تسعير السلع وفق مصالحهم، خاصة في ظل غياب منافسة حقيقية. "حين يكون السوق احتكارياً، فإن التاجر هو الذي يستورد ويحدد السعر"، يقول برّو، مشيراً إلى أن غياب الإنتاج المحلي يجعل السوق اللبناني هشاً أمام تقلبات الأسعار العالمية.

ويضيف أن "الرقابة اختراع لبناني"، مشدداً على أنه "لا توجد رقابة فعلية في نظام اقتصادي حر". من وجهة نظره، الرقابة غير قادرة على كبح ارتفاع الأسعار لأن لكل تاجر كلفة تشغيلية مختلفة، وبالتالي فإن "أي محضر ضبط يصدر بحق أحدهم يمكن إسقاطه قانونياً".

وبرأي برّو، فإن الحل الأكثر فعالية يكمن في "نشر أسعار السلع الأساسية بشكل دوري. "نحن نؤيد نشر أسعار أسبوعية للسلع في المحال الكبيرة، فهذا الإجراء يخلق نوعاً من المنافسة بين المتاجر"، ويُذكّر بتجربة مماثلة تم تنفيذها في العام 2000 على يد الوزير ياسين جابر، حيث تم نشر أسعار المحال الكبرى للسلع الأساسية، لكنّ المبادرة توقّفت مع الوزير الذي خلفه بعدما اعترضت المتاجر ذات الأسعار المرتفعة واعتبرت ذلك "تشهيراً".

ويختم برّو برسالة إلى الإعلام، داعياً إلى عدم الترويج لفكرة الرقابة كحل جذري، قائلاً: "دعونا لا ننجر خلف هالة الرقابة، فالحل يبدأ بإصلاح تركيبة السوق وليس بزيادة محاضر الضبط التي لا تردع أحداً".

بعيداً عن تصريحات الخبراء والحديث العلمي، اخترنا الدخول إلى يوميات الناس، إلى تفاصيل معاناتهم اليومية مع الأسعار المتقلبة، حيث بات التسوّق في السوبرماركت معادلةً معقدة بين الحاجة والقدرة الشرائية.


في منطقة الكورة، تقف ريما، سيّدة خمسينية، أمام رف الزيت لتقارن بين منتجين متشابهين، قبل أن تتمتم بامتعاض: "20 دولارًا ومية متر فرق! نفس الغراض، بس مجموع الفاتورة الكليّة عم تفرق 20 دولارًا تقريبًا" وتضيف: صرنا نحفظ أيا سوبرماركت رخيص".


أما في عكار، يصف محمد، موظف وأب لأربعة أولاد، رحلته الأسبوعية إلى التبضع بأنها "مهمة استخباراتية". يقول ضاحكاً بسخرية: "منفوت على السوبرماركات، ومناخد من كل محل اللي أرخص... بس كل مرة بيطلع السعر غير".

وفي قضاء زغرتا، تشير شاديا، وهي معلمة مدرسة، إلى فوضى الأسعار داخل المنطقة الواحدة: "كل أسبوع في مفاجأة! مرة الرز بيطير، مرة الزيت، ومرة المعكرونة! ما بقى في مرجعية، وكل محل بيحط السعر اللي بيريحه".

أما فاتن، من بيروت، فتقول: "ما بشتري شي قبل ما قارن الأسعار على الأقل بين تلات محلات... والغريب إنو أوقات منلاقي فرق كبير ضمن الشارع نفسو".

وفي إطار متابعتنا الميدانية، جُلنا على عدد من السوبرماركات في مناطق مختلفة، حيث رصدنا تفاوتًا ملحوظًا – وإن لم يكن كبيرًا – في أسعار السلع نفسها بين المحال التجارية، حتى داخل الحي الواحد. هذا التفاوت، كما عبّرت ريما، "بيفرق عالمجموع"، فالفرق البسيط في سعر كل منتج يتحوّل إلى رقم كبير على الفاتورة النهائية.

وقد لاحظنا أن بعض المتاجر تلتزم بإعلان الأسعار بشكل واضح وشفاف، في حين تغيب التسعيرة تماماً عن رفوف متاجر أخرى، ما يعمّق شعور المواطن بالغبن والحيرة، خصوصاً في ظل ضعف الرقابة وغياب آليات محاسبة فعّالة تضمن حماية المستهلك، لكن السؤال الذي يطرح نفسه إلى متى سنبقى على هذه الحال ويبقى المواطن اللبناني ضحية طمع وغياب رقابة فعلية؟