أسرار التكتيك الصيني في الحرب التجارية
تُمثل الصين نحو 70% من إنتاج المعادن الأرضية النادرة المستخرجة عالميًا
رمزا زخريا - المدن
في الحرب التجارية المتجددة بين واشنطن وبكين، يبرز التكتيك الصيني والحنكة التي تدير بها الصين اللعبة، في وقت يحاول فيه الرئيس الأميركي إعادة خلط أوراقه، حيث لا تخفى على أحد عشوائية القرارات الأميركية، وتزايد مخاطر انزلاق أكبر اقتصاد بالعالم في الركود. فبعد أن جمّد ترامب الرسوم الجمركية لمدة تسعين يومًا على مختلف الدول باستثناء الصين، يحاول تضييق الخناق على خصمه التجاري عبر الضغط على سائر الدول لتقليص علاقاتها التجارية مع بكين، مقابل إعفائها من الرسوم الجمركية.
لكنّ الصين حذرت العالم من التهاون ودعت الدول إلى عدم الرضوخ للتهديدات الأميركية، حيث قال المتحدث باسم وزارة التجارة الصينية إنّ التهدئة مع واشنطن لن تجلب السلام وإنّ البادئ أظلم. وقد وضعت بكين ضوابط مشددة على تصدير منتجات بالغة الأهمية، فهي تقوم بتحريك أسلحتها التجارية بدهاء لمواجهة الضغوط الأميركية بتكتيك دقيق ومتصاعد.
سلاح المعادن الأرضية النادرة
يقوم سلاح الصين الفتاك في الحرب التجارية مع الولايات المتحدة على المعادن النادرة، وبحسب وكالة الطاقة الدولية، تُمثل الصين نحو 70 في المئة من إنتاج المعادن الأرضية النادرة المستخرجة عالميًا، كما تهيمن على مرحلة تكرير ومعالجة ما يتخطى 90 في المئة من الإنتاج العالمي. بين عامي 2020 و2023، اعتمدت الولايات المتحدة على الصين في 70 في المئة من وارداتها من المعادن النادرة، وفقًا لتقرير هيئة المسح الجيولوجي الأميركية.
وهنا تبرز القوة الاقتصادية للمارد الصيني وتأثيره الكبير على الاقتصاد العالمي وسلاسل الإمداد والصناعات المختلفة.
كما يتزايد القلق من نفاد المخزون المتوفر من المعادن النادرة في السوق العالمية، حيث تشير التقديرات إلى أنه يكفي لمدة تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر.
يشار إلى أن العناصر الأرضية النادرة هي معادن تشكّل مجموعة من سبعة عشر عنصرًا كيميائيًا، وتعدّ من العناصر الحيوية الأساسية في تطور الصناعات الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة والمعدات العسكرية. وعلى الرغم من أنها أكثر وفرة من الذهب، ويمكن العثور عليها في عددٍ من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، إلا أنها توصف بالنادرة بسبب قلة الأماكن التي كانت تستخرج منها سابقًا. كما يشكّل استخراجها عمليةً معقدة ومعالجتها عالية التكلفة ولها آثار ملوثة للبيئة، فهي لا توجد منفصلة في الطبيعة، بل تكون مختلطة مع معادن أخرى. ولا بدّ من الإشارة كذلك إلى أنه بات يُعثر مؤخرًا على تركيزٍ عالٍ نسبيًا من هذه العناصر في القشرة الأرضية.
من يتحكّم بالصناعات الحديثة؟
تُعدّ هذه المعادن أساسية في الصناعات عالية التقنية مثل الإلكترونيات والمركبات الكهربائية والصناعات الدفاعية. وتُمكّن المغناطيسات المصنوعة من المعادن الأرضية النادرة من تصنيع محركات ومولدات أصغر حجمًا وأكثر كفاءة تُستخدم في الهواتف الذكية، ومحركات السيارات والطائرات، وأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي. كما أنها مكونات أساسية في مجموعة من الأسلحة الباهظة الثمن، من طائرات الشبح المقاتلة إف-35 إلى الغواصات الهجومية التي تعمل بالطاقة النووية.
وكما ذكرنا سابقًا، تعدّ الصين أكبر دولة منتجة للمعادن النادرة بحجم إنتاج يصل إلى 270 ألف طن متري، تليها الولايات المتحدة بـ 45 ألف طن متري، أستراليا ونيجيريا بـ 13 ألف طن متري لكلّ منهما، تليها تايلاند والهند وروسيا وكذلك فيتنام وماليزيا.
خطط صينية طويلة المدى
أدرك القادة الصينيون الأهمية الاستراتيجية للمعادن النادرة في الصناعات الحديثة، كصناعة السيارات وتوربينات الرياح والسيارات الكهربائية والبطاريات القابلة لإعادة الشحن وغيرها، فحجزوا لأنفسهم دورًا رياديًا في هذه الصناعة، ما أعطى بكين اليوم القدرة على ضرب الصناعة الأميركية في النقاط الصحيحة.
ونستذكر هنا المقولة الشهيرة للزعيم الصيني السابق دينغ شياو بينغ الذي قاد الإصلاحات الاقتصادية في البلاد، والذي قال خلال زيارة لأحد أهم مراكز إنتاج المعادن النادرة في منغوليا الداخلية في العام 1992: "الشرق الأوسط غنيّ بالنفط، أمّا الصين فلديها المعادن الأرضية النادرة".
على صعيد آخر، وضمن ردودها على الرسوم الجمركية، أوقفت صناديق الاستثمار الصينية المدعومة من الدولة استثماراتها الجديدة في الأسهم الخاصة في وول ستريت.
يشار إلى أن صناديق الثروة السيادية الصينية ضخت على مدار العقود الماضية مليارات الدولارات في عدد من مجموعات رأس المال الخاص الأميركية، مثل بلاكستون وتي بي جي ومجموعة كارلايل.
فرصة جديدة للولايات المتحدة
تسعى الولايات المتحدة من جهتها إلى بناء سلسلة توريد محلية خاصة بها للمعادن النادرة، على الرغم من أن هذه الجهود تحتاج إلى سنوات لتلبية الطلب المتزايد. وترى بعض الشركات الأمريكية أنّ ضوابط التصدير الصينية فرصة لتسريع الإنتاج المحلي والدفع نحو سلسلة توريد أقوى خارج الصين.
ويرى خبراء أنّ ضوابط التصدير الصينية التي تركت دول العالم أمام بدائل محدودة جدًا، دفعت الولايات المتحدة إلى مضاعفة جهودها لسدّ الفجوة في سوق المعادن النادرة.
فمنذ العام 2020، منحت وزارة الدفاع الأميركية أكثر من 439 مليون دولار لإنشاء سلاسل توريد محلية من تلك المعادن. كما تحاول تطوير سلسلة توريد مستدامة من المناجم إلى المغناطيس، لتلبية متطلبات الدفاع الأميركية بحلول العام 2027.
الهجوم على الفدرالي ورئيس
تضغط حدة التوترات التجارية على آفاق الاقتصاد العالمي، إذ إنّها تقوّض معدلات النمو وترفع مستويات التضخم وتضع مختلف الدول في مواجهة حساسة مع أزماتها، لا سيما أكبر اقتصادين في العالم.
من هنا نرى ارتفاع مستوى التخبط داخل الولايات المتحدة مع تصاعد تحذيرات كبار الاقتصاديين والمستثمرين من المخاطر المحدقة بالاقتصاد والتراجعات القوية للدولار والخسائر الفادحة في الأسواق المالية. ويتزامن ذلك مع الضغوط الكبيرة على مجلس الاحتياطي الفدرالي، لا سيما على رئيسه جيروم باول الذي يكافح للمحافظة على استقلالية البنك في قراراته النقدية والاقتصادية.
وتتزايد الهجمات التي يتعرض لها باول من قبل الرئيس ترامب، الذي وجّه له انتقادات لاذعة وطالبه بخفض الفائدة بشكل فوري، كما وصل به الأمر إلى البحث بإقالته من إدارة الفدرالي.
المخاطر على اقتصاد الصين
من جهة أخرى، يعاني ثاني أكبر اقتصاد في العالم من أزمات عدة. فهو يعتمد بشكل كبير على التصنيع والتصدير، فيما يشهد تباطؤًا في النشاط الاستهلاكي. وبالتالي فإنّ الاقتصاد يواجه مخاطر كبيرة بسبب التوترات التجارية، خاصة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وتضع الحرب التجارية النمو الصيني في دائرة الخطر من جديد. فالاقتصاد الصيني نما خلال الأشهر الأولى من العام بفضل النمو الكبير للصادرات قبل دخول القيود التجارية حيّز التنفيذ.
كما تُفاقم أزمة قطاع العقارات الصيني من التحديات الاقتصادية. وتحاول الحكومة الصينية اتخاذ إجراءات كثيرة لإنقاذ القطاع الذي شكّل هبوطه ضربة قوية للاقتصاد.
هذا ودَعت الصين مؤخرًا، على لسان وزير خارجيتها، إلى عولمة اقتصادية ونظام تجاري متعدد الأطراف مدعوم من منظمة التجارة العالمية.
الاقتصاد العالمي تحت نيران الأزمة
في أحدث تطورات حرب الرسوم الجمركية، رفعت الإدارة الأميركية نسبة الرسوم على استيراد الألواح الشمسية من أربع دول آسيوية إلى 3500 في المئة. كما قامت واشنطن، منتصف الشهر الجاري، بفرض قيود على تصدير شرائح الذكاء الاصطناعي إلى الصين، ما دفع بشركة إنفيديا، التي تعدّ إحدى أكبر شركات العالم في مجال تصنيع الشرائح الإلكترونية، لوقف صادراتها إلى الصين.
وهنا أثبتت الشركات الصينية مرة جديدة قدرتها على المواجهة. فقد تصدّت للقرار الأميركي عبر تعزيز حصتها في السوق، الأمر الذي يرفع مكانة بكين عالميًا في تطوير الرقائق الإلكترونية.
وسط كلّ التوترات والضبابية المحيطة بالاقتصاد العالمي، تتعرّض الأسواق المالية لهزات كثيرة، فيما يتراجع الدولار ويقفز الذهب لمستويات تاريخية غير مسبوقة وتحقق سوق العملات المشفرة ارتفاعات مليارية.
فما الذي تخفيه استراتيجية الردّ الصينية؟ وهل ستواصل أميركا تصعيدها في الحرب التجارية أو ستشهد الأيام المقبلة نوعاً من التهدئة؟ لاسيما أن بعض التصريحات تشير إلى أن ترامب يدرس خفض الرسوم الجمركية على الصين الى ما بين 50 في المئة و65 في المئة.