بصمت ديني ودنيوي... "خالق جديد" قادر على إبادة المليارات في ثوانٍ قليلة جداً...
الوظائف والفرص التي تَعِد بها التكنولوجيا الحديثة هي أقلّ بكثير من تلك التي تلغيها
أنطون الفتى - وكالة "أخبار اليوم"
صحيح أن الإنسان عدو ما يجهل. وصحيح أنه انغمس في حقبات كثيرة برفض التقدم والتطور، وباستسهال قديمه، وصولاً الى حدّ اتّهام بعض العلماء والمفكرين بالهرطقة وإعدامهم... خلال حقبات ووسط ظروف معينة. ولكن ما نحن فيه من تقدّم تكنولوجي اليوم، ومن تهليل للذكاء الاصطناعي، يجبرنا على التوقف أمام كل ما يجري ولو قليلاً، لأنه يتجاوز الضّغوط التي يرخي بها على ملايين البشر وعلى عشرات الوظائف حول العالم.
يبتلعهم...
فالانتقال الى زمن التكنولوجيا فائقة التطور القادرة على تغيير وتعديل وتطوير ذاتها بذاتها، وعلى فهم ذاتها من ذاتها، ينقلنا من الحديث عن تطور عالمي جديد، الى الوعي لحقيقة أننا أمام "خليقة جديدة" لإنسان جديد، يقدّم نفسه على صورة خالق. وهذه مسألة غير اعتيادية.
فالتطور في العادة هو ذاك الذي يأتي من خارج، ويبقى فيه، ويُستعمَل فيه، فيحسّن ويغيّر. ولكن ما يُعرَض من تطور تكنولوجي (حالي ومُنتَظَر مستقبلاً) أمام مليارات البشر حول العالم اليوم، هو عالم آتٍ من خارجهم، سيكونون مُجبَرين على أن يكونوا هم فيه، وعلى أن يقبلوا حقيقة أنه سيبتلعهم ليسمح لهم بالنشاط، والنمو، والعيش... وهذا العالم غير مألوف، يحوي الإنسان تماماً كما لو كان شريط كهرباء، أو أي قطعة أخرى، ولا ينتظر رأيه (الإنسان).
"التهليل التكنولوجي"
الغريب في الموضوع، هو أن حتى المؤسسات التابِعَة للسلطات الدينية كافة حول العالم، من تربوية واستشفائية و... و... و... تسير في ركب التهليل التكنولوجي، وتشكل قاعدة أساسية في المؤتمرات والدورات التدريبية والأنشطة المرتبطة به... تحت ستار السعي للاستفادة من هذا التطور، من دون أي اهتمام ملموس بكرامة الإنسان، وبمستقبل العدالة الاجتماعية، ومن دون تدقيق كبير في حقيقة أن ذكاء عصرنا الحالي الاصطناعي يجعل مليارات البشر "زوائد إضافية" على وجه الكرة الأرضية بشكل ملموس، وذلك تماماً مثل من يسمح لنفسه بالقول إن الأرض لا تتّسع لجميع الناس الذين يعيشون عليها، وإنه يتوجب إماتة أو إبادة المليارات، انطلاقاً من أنه ما كان يتوجب أن يُولَدوا أصلاً. وهذه قمة التجديف.
كما أن ما نتوغّل فيه من تطور تكنولوجي فائق التقدّم (سيُصبح أشدّ تعقيداً في المستقبل)، يجنح نحو القول للبشر إن هناك إلهاً جديداً، يخلق خليقة جديدة، تتمتّع بقوانين وقواعد... جديدة، وما عليكم سوى أن تراجعوا حياتكم كلها، من عمل، وزواج، وإنجاب، واستشفاء... وأي نشاط آخر، لجعلها متلائمة مع هذا الخالق الجديد، القادر على أن يُبيدكم إن بقيتم خارجه، وإن لم تحترموا قواعده.
بدلاً من الإنسان
مؤسف حقاً أن بعض الذين يسيّرون الأرض، يعملون على أساس أن الإنسان بحدّ ذاته هو مصدر أساسي للتلوث على الأرض، وللضغط على مواردها من أجل توفير طعامه، وشرابه، وثيابه، وإن كل نَفَس يتنفّسه يكلّف الكوكب كثيراً، بينما يعتبرون أن تقليص أعداد البشر، سيخفّف الضغوط على موارد الأرض كثيراً.
ومن المؤسف والخطير جداً، أن هؤلاء يمتلكون قوة التقدم فائق التطور بين أيديهم، وهم يكذبون على الناس بالقول إنهم يعملون على خفض مستويات البطالة عبر الذكاء الاصطناعي، فيما يطرح هذا الأخير نفسه بديلاً من الإنسان في كل شيء، وفي كل وقت وحين.
أقلّ بكثير...
في هذا السياق، يؤكد مراقبون أن البشرية خطت خطوات كثيرة وكبيرة في الماضي، تسبّبت بتغييرات كبرى في سوق العمل. فعلى سبيل المثال، دفعت الثورة الصناعية وثورة الآلة العاملين في مجال الحياكة وغيره من المجالات، الى الاحتجاج في ذلك الوقت، فحطّموا مراكز عملهم ورموا بضائعهم.
ويشدد هؤلاء على أنه صحيح أن ثورات التقدّم والتطور تلغي وظائف وتخلق أخرى، وأنه لا تزال هناك الكثير من المساحات غير المُستثمرة على الأرض حتى الساعة، والتي يمكن الاستفادة منها بتحويل البشر الذين سيُوقِف الذكاء الاصطناعي وظائفهم إليها، للعمل فيها وزراعتها، وذلك بعيداً من نظريات المؤامرة والتهويل، إلا أن ما لا بدّ من التحذير منه، هو أن الثورة التكنولوجية التي نتوغل فيها الآن، والمرشّحة لأن تُصبح أشد تطوراً، لا تقتصر على أنها تلغي وظائف وتخلق أخرى، بل تتعداها لحقيقة أن الوظائف والفرص التي تَعِد بها، هي أقلّ بكثير من تلك التي تلغيها.
الحكومات والشركات
فالثورة الصناعية أنهت فرصاً، ولكنها خلقت أخرى، وحافظت على توزيع أكثر تنظيماً على هذا المستوى. وأما عالم التكنولوجيا فائقة التطور اليوم ومستقبلاً، فهو يحصر القدرة على الاستمرار بالحياة عموماً بفئة صغيرة جداً، ويرمي كل باقي الخليقة في هامش لا يقدم لها شيئاً، من دون ضوابط أخلاقية، إذ إن الذكاء الاصطناعي قادر على أن يفيد البشرية وعلى أن يدمرها في وقت واحد، حتى من دون تدخل بشري في مرحلة معينة.
قد يرى البعض أن من واجب الحكومات أن تتدخل لقوننة التكنولوجيات، وعدم تركها لمشيئة الشركات تحت ستار عدم خنق الابتكار والتطور. ولكن عندما نعلم ونلمس أن الحكومات تعمل لدى الشركات، فلا يسعنا سوى القول إننا نقف على مشارف عالم جديد، وخليقة جديدة، خطيرة جداً على الإنسان، وعلى ما تبقّى من مفهوم لكرامته البشرية.