المنظّمات غير الحكومية في لبنان: حين تلبس الهيمنة قناع الإغاثة

المنظّمات غير الحكومية في لبنان: حين تلبس الهيمنة قناع الإغاثة

image

المنظّمات غير الحكومية في لبنان: حين تلبس الهيمنة قناع الإغاثة
تجربة هذه المنظّمات لا توفر الأمان بل تفكّك النضالات الاجتماعية وتضعف التعبئة الشعبية

إنغريد شاهين - الاخبار

في بلد كلبنان حيث البنى التحتية غائبة أو شبه معدومة، تصبح الاستجابة لأي حدث طارئ مرهونة بالدعم الخارجي. من السهل تناول هذه الحقيقة من منظور إنساني بحت، لكن يبقى السؤال: لماذا يتحول هذا الدعم من أداة إنقاذ إلى وسيلة ابتزاز، وكيف يكون المانح نفسه هو من يخلق الأزمات ويقود سفينة النجاة في نفس الوقت؟

أنتجت ظاهرة «هيمنة المنظمات غير الحكومية» أو ما يُعرف بـNGO-ization واقعاً عالمياً أدّى إلى ظهور سوق عمل جديد في دول تعتمد على المساعدات مثل لبنان، ما دفع العديد من المواطنين إلى التوجّه نحو العمل أو التطوّع في المنظمات المحلية والدولية، ما حوّل برامج الاستجابة الطارئة مع الوقت، إلى اقتصاد موازٍ له مزاياه، من الرواتب المغرية وورشات التدريب في الخارج، وخلق مساحات للتشبيك تحت عنوان الأهداف الإنسانية أو التنموية، وهو ما تعزز بقوة مع بدء تدفّق اللاجئين السوريين إلى لبنان بعد اندلاع الأزمة السورية في عام 2011.

إلا أن تغيّر أولويات الدول المانحة وبروز شح التمويل المرتبط بتراجع المساعي الإنسانية لصالح أجندات أكثر عنفاً، جعلا مصير العاملين في هذا القطاع مجهولاً. فبرز واقع مقلق عنوانه عودة الأفراد إلى سوق العمل الفعلي، بعدما أمضوا سنوات يعتمدون على رواتب مرتفعة من هذه المنظمات، ما فتح الباب عملياً أمام أسئلة جدية حول مستقبلهم الاقتصادي والمعيشي.

أزمة التوظيف في لبنان، ليس مصدرها مشكلات تتعلق بالوظائف والتمويل والسياسات الخارجية فقط، بل تتعداها لتشمل غياب الثقة في الدولة ومؤسساتها، مقابل فائض في الإيمان بالقوى الغربية.

ولا يزال عالقاً في الأذهان، مشهد المواطنين اللبنانيين الغاضبين، الذين توسّلوا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد انفجار مرفأ بيروت قائلين: «لا تعطوا المال لحكومتنا، نحن لا نثق بها»، وقد وصل الأمر بالبعض إلى المطالبة بالعودة تحت الانتداب الفرنسي. هكذا أصبحت المنظمات غير الحكومية تعامل معاملة البديل عن الدولة لا الداعم لها.

تحدّثت «الأخبار» مع عاملين في القطاع الإنساني في لبنان، ممن تختلف تجاربهم ومساراتهم، بدءاً بخرّيجي الجامعات الذين دخلوا المجال، وكلهم أمل بمستقبل أفضل، لكنهم فوجئوا بخياراتهم المحدودة.

كذلك سألنا محترفين ممن باتوا يضطرون إلى العمل في أكثر من وظيفة لتأمين الدخل المناسب. وصولاً إلى من هم في ذروة حياتهم المهنية مِن مَن وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل فجأة. وقد طلب الجميع عدم الكشف عن هويتهم.

فجأة.. توقف كلّ شيء!
التحق شاب بإحدى المنظمات المحلية كمتدرّب قبيل تخرّجه، وسرعان ما تمكّن من الحصول على وظيفة بدوام جزئي في منظمة تُعنى باللاجئين السوريين. في ذلك الحين كانت جائحة كورونا قد بلغت ذروتها، وزادت وتيرة الاستجابة الإنسانية، خصوصاً لجهة توزيع مستلزمات النظافة الشخصية.

استمرّ عقد العمل الأول لعامين، قبل أن يتوقف فجأة ومن دون سابق إنذار بعد أن قطع المموّل التمويل عن المشروع. ويقول الشاب: «وعدونا بتجديد العقود لكن لم يحصل شيء. توقف كلّ شيء فجأة».

عقب إنجازه مشروع التخرّج، لم يجد الشاب أمامه سوى العودة إلى المسار ذاته: «لم يكن لديّ خيار آخر . لم أعثر على فرصة عمل خارج المجال لكوني تخرّجت حديثاً». إلا أن العمل في مجال الاستجابة الطارئة في منطقة اعتادت الأزمات والحروب لم يكن بالثبات أو الاستمرارية التي توقّعها.

عمل الشاب لمدة عام آخر في وظيفته الجديدة، قبل أن يقفل المشروع مجدداً، وذلك قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، فوجد نفسه في رحلة بحث عن عمل جديد، لكن هذه المرة من خارج المجال وربما خارج البلد أيضاً.

«لا مجال للنمو في وظائف كهذه»، يقول الشاب ويشرح كيف تغيّر كل شيء منذ الأزمة المالية الكبرى في عام 2020. في تلك الفترة كانت السلع والخدمات لا تزال متاحة لأولئك الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار، لكن شيئاً فشيئاً بدأت الأسعار بالارتفاع لتتجاوز ما كانت عليه سابقاً، بينما لم يتحسن الراتب بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار.

ويضيف: «كنت أتقاضى مبلغاً يراوح بين 500 و800 دولار في عام 2020، وكانت تغطي احتياجاتي بشكل أفضل من الـ1800 أو 2200 دولار التي أتقاضاها اليوم. ما زلت شاباً ومصاريف الشباب كثيرة، لم تعد الأشياء كما كانت».

رغم التقلبات، يدرك الشاب أنه اكتسب العديد من المهارات التي تساعده في مجالات أخرى كاستخدام الحاسوب وإدارة الوقت وحل المشكلات.

ويوضح مسألة تتعلق بوفرة التمويل قائلاً: «الموضوع مش حنفية مفتوحة. كان صعب نوصل للتمويل حتى قبل قطع التمويل». مشيراً إلى أنه كان يعمل ليقدّم المساعدة للآخرين وليستفيد في الوقت نفسه.

أما الحديث بالسياسة فقد كان ممنوعاً بشكل رسمي في مكان العمل وهو ما وصفه بأنه متوقّع ومتناقض في الوقت نفسه، «فالأزمات التي نُكلّف بالاستجابة لها ليست كوارث طبيعية، بل أزمات سياسية بامتياز».

من وجهة نظره، صحيح أن الناس بحاجة إلى خدمات المنظمات، لكن تدفّق التمويل الخارجي ساهم في تعميق الفجوة بين المواطنين والدولة بشكل أكبر.

وفي مفارقة واضحة، يرى الشاب أن الجهات المانحة التي تدعم منظمات المجتمع المدني لمعالجة الإهمال البنيوي هي نفسها من يموّل الأنظمة المسؤولة عن هذا الإهمال أصلاً.

في نهاية حديثه، يقول الشاب بوضوح إنه لم يعد يرى له مستقبلاً في هذا القطاع، ولا في لبنان. والآن، هو صوتٌ آخر ينضم إلى جوقة الشباب الراغبين بالرحيل.

لا أمان بلا خطّة بديلة
عامل متخصّص في مجال العلاج الوظيفي، بدأ رحلته عام 2022 كعامل في منظمة غير حكومية. تولّى أدواراً متعدّدة باختلاف المشاريع، شملت الدمج والدعم النفسي الاجتماعي وبناء القدرات.

ويقول: «كنت أبحث عن طريقة لتوظيف مهاراتي بما يتجاوز العمل السريري مع الأفراد. لطالما كنت أطمح للعمل في مجال الدمج ورأيت في بيئة المنظمات مساحة أستطيع من خلالها الدفع نحو تغيير منهجي أوسع».

لم تكن أيام العمل متشابهة، كان يقوم أحياناً بزيارات ميدانية ويعقد جلسات تدريبية، وفي أيام أخرى كان يكتب التقارير ويتولى المهام التنسيقية. يصف الشاب العمل بكونه ديناميكياً من جهة ومثقلاً بالبيروقراطية والتبعية الكاملة للجهات المانحة من جهة أخرى: «رغم ذلك، تمكّنت من إيجاد مساحة أؤدي فيها عملاً ذا قيمة رغم كل ما يتطلّبه ذلك من تجاوز للعوائق البنيوية».

وعلى الرغم من تنوّع المهارات المطلوبة للتوظيف، ظلّت توصيفات الوظائف عامة في أغلبها، لا بل سطحية أيضا، ولا تعكس فعلياً حجم الأدوار التي كان يؤدّيها، ويضيف: «تولّيت مسؤوليات تفوق بكثير ما هو مذكور في عقد العمل، والبدل المادي لم يكن يوازي هذا الجهد الإضافي دائماً».

وكما هو حال الكثير من العاملين في المنظمات، تأثّرت قدرته الشرائية بتأثير دورات التمويل وتقلبات سعر صرف الليرة اللبنانية، موضحاً: «في البداية، كانت رواتب المنظمات أفضل من رواتب وظائف العيادات المحلية، لكن اليوم، حتى الراتب بالدولار لم يعد يكفي. كل شيء أصبح باهظ الثمن، بدءاً من الإيجار ووصولاً إلى الاحتياجات اليومية».

بالرغم من كونه لم يتأثّر بشكل مباشر بتقليص المساعدات أخيراً، إلا أن مؤشرات تراجع التمويل باتت واضحة بالنسبة إليه: «العروض أقل، المنافسة على الوظائف أكبر، وكثير من المنظمات بدأت بتقليص فرقها».

وفي ظلّ واقع تُحدَّد فيه الترقيات غالباً على أساس العلاقات الشخصية والمعارف لا عبر آليات شفّافة، ومع غياب الشعور الحقيقي بالمسؤولية أو القدرة على التأثير، توصّل إلى قناعة واضحة: «العمل في المنظمات لا يمكن أن يكون الطريق الوحيد».

ويضيف: «الأمان الوظيفي في هذا المجال مرتبط مباشرة بتمويل المشاريع، وهو تمويل يمكن أن يتبخّر بين ليلة وضحاها، كما أن الاستقرار المالي يتطلّب دوماً وجود خطة بديلة، كما في حالتي، وانا أعمل أيضاً كمدرب لياقة بدنية. أما الحماية الاجتماعية، فهي غائبة في معظم الأحيان، ما لم تكن موظفاً لدى منظمة دولية كبرى تؤمّن لك التأمين الصحي والمزايا الأساسية».

يقول الشاب إن نظرته تجاه المساعدات والنشاط المدني والعدالة الاجتماعية باتت أكثر وضوحاً.

«أصبحت أرى بوضوح تام ديناميكيات القوة الكامنة خلف التمويل، والفجوة الحقيقية في تطبيق مفهوم التوطين، وكيف يتم التحدّث عن المجتمعات بدل إشراكها فعلياً.

اليوم، أدرك تماماً حجم العمل غير المأجور المنتشر في هذا القطاع، رغم أنني في الوقت نفسه شهدت مبادرات اجتماعية مذهلة وشبكات تضامن ومقاومة حقيقية».

أما عن سوق العمل القائم على المنظمات غير الحكومية في لبنان؟ فكان جوابه حاسماً: «القطاع هش جداً. طالما نحن مرتهنون للتمويل والمشاريع القصيرة الأجل، فإن سوق العمل سيبقى غير مستقر».

الخيبة ليست حكراً على الشباب فحسب!
شابة قابلناها، قالت إنها تركت العمل في قطاع الأغذية والمشروبات، لتدخل مجال العمل الإنساني في مرحلة لاحقة من حياتها، مثقلة أساساً بالمسؤوليات اليومية والالتزامات العائلية. كانت التجربة الأولى لها في مشروع مدته ثمانية أشهر لدعم اللاجئين السوريين خلال جائحة كوفيد-19، مقابل نحو 800 دولار شهرياً، لكن من دون أي تأمين صحي.

وبعد تنقّلها بين العمل الميداني ومتابعة المستفيدين، اتضح لها أن المشروع كان يدور أساساً حول تأمين التمويل ونحت صورة مثالية، وليس حول إحداث تأثير حقيقي، ما كشف عن مشكلات بنيوية أعمق. وتقول: «كنت أعتقد بأنهم هنا للمساعدة، وأنهم يهتمون فعلاً. كنت أظن أن هذا ما يفترض بنا أن نفعله».

ويبدو واضحاً للعاملين في هذا الحقل، أن الفساد كان مستشرياً والتقييمات داخلية والميزانيات مضخّمة. وقد حصل المستفيدون على ما لا يحتاجون إليه. مشروع تلو آخر، واستشارة بعد أخرى، دائماً بعقود قصيرة الأمد ومن دون أي امتيازات. لحسن الحظ، دعمها أصدقاؤها بتأمين السكن وبعض الاحتياجات الأساسية، لكن سرعان ما أصبحت هذه المساعدة ضرورية للصمود.

بعد عام من التوقف عن العمل في هذا المجال، عادت إلى القطاع، فماذا بوسعها أن تفعل وكل الوظائف المعروضة كانت في مجال المنظمات غير الحكومية؟ حصلت على وظيفة براتب مغرٍ يراوح بين 1800 و2000 دولار، بحسب الخبرة.

كان العمل عن بُعد، من دون عمل ميداني مباشر، وإدارة دولية تبدو أكثر «تنظيماً»، بدا الأمر مختلفاً. وتصف لنا الشابة العمل: «في البداية، كان الأمر ممتعاً، بل شعرتُ بأنه المنشود، كنت أعتقد حقاً بأن الأموال تُنفق في المكان الصحيح».

لكن فترة النقاهة تلاشت بسرعة، وبدأ الإحباط يتراكم، تماماً مثل ساعات العمل. وشرحت الشابة لنا أن العمل كان مرهقاً، وبقيت من أجل الراتب فحسب، إذ كانت بحاجة إلى إعالة والدتها. ورغم التحاقها بمنظمة دولية على أمل أن تكون التجربة مختلفة، أدركت أن المشكلات البنيوية والنظامية ما زالت موجودة، وقالت: «الركود والتكرار وغياب النمو الحقيقي، اختبرت كل هذه الأمور». حتى بعد حصولها على ترقية، «في المسمى الوظيفي فحسب»، كان الضغط يفوق المزايا وظلّ شبح عدم الاستقرار حاضراً، وأضافت: «لم نكن نعلم ما إذا كان التمويل سيُجدد».

وبين ليلة وضحاها، قُطع التمويل بشكل فوري. ومن دون إشعار مسبق، وطبعاً من دون تعويض أو راتب تقاعدي. وتقول الشابة: «كان الأمر مهيناً، أصبح كل شيء ترفاً، تكفّل أصدقائي بتقديم الاحتياجات الأساسية مثل التأمين. بصراحة، لا أعلم كيف نجوت خلال الأشهر الماضية».

بالنظر إلى الماضي، ترفض الشابة فكرة أن هذا القطاع منحها مهارات قابلة للنقل أو التطوير الحقيقي، قائلة: «لا تكتسب نمواً شخصياً، ولا تتعلم شيئاً حقيقياً، بل تتعلم الصمود فحسب. كان الوضع مهيناً. اليوم، حتى دفع الإيجار لم يعد مضموناً».

ما هو واضح، أن ظاهرة هيمنة المنظمات غير الحكومية ليست جديدة. لطالما تمّ تصويرها كخطوة نحو الديمقراطية، والتمكين، والحُكم الرشيد، والمساءلة، وحرية التعبير. وبعد اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، وقبل حقبة منصة «تروث سوشال»، قدّمت دول الشمال العالمي وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي «الدعم» في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، بما فيها لبنان.

سواء أُطلق على الدعم وصف العمل الخيري، أو التنموي أو حتى شعار الحكم الرشيد وبناء القدرات وصولاً إلى حماية الأقليات، كانت الأموال مستمرة بالتدفق… إلى أن توقفت فجأة ومن دون سابق إنذار!.

لكن النمو في الأرقام لم يكن يوماً يعني نمواً في القوة. وتقول الباحثة الدكتورة إصلاح جاد أن هذا التوسع أدّى إلى تفكيك النضالات الاجتماعية، وإضعاف التعبئة الشعبية، وتحويل النشاط إلى مجموعة من «المخرجات» قائمة على المشاريع، خالية من البُعد السياسي ويحركها المانحون.

في النهاية، تُخاطر هيمنة المنظمات غير الحكومية بإضفاء شكل جديد من التبعية، بدلاً من إحداث تحول اجتماعي حقيقي.

وهكذا، مع جفاف التمويل وسقوط الأوهام، لم يعد السؤال ما إذا كانت هيمنة المنظمات غير الحكومية قد فشلت، بل السؤال الحقيقي هو: هل كان من المُفترض لها أن تنجح أصلاً؟.


مقالات عن

المنظّمات