التبني في لبنان... جدل قديم يتجدّد بعد صدمة دور الرعاية!

التبني في لبنان... جدل قديم يتجدّد بعد صدمة دور الرعاية!

image


التبني في لبنان... جدل قديم يتجدّد بعد صدمة دور الرعاية!
الاحتضان يحتاج الى دعم صادق وتشريعات عادلة


ندى عبد الرزاق - الديار

بعد انتشار فيديوهات صادمة تُظهر تعنيف أطفال داخل احدى المؤسسات الرعائية، يُطرح سؤال ملحّ: هل حان الوقت لإعادة فتح ملف التبني كخيار إنساني وقانوني مستدام؟ وهل يمكن أن يشكّل التبني باب نجاة لأطفال حُرموا من دفء الأسرة، إما بفقدان الأهل أو بتخلّيهم عنهم؟ بين التجاذبات القانونية والعقبات الدينية، يعود التبني إلى الواجهة، محفوفًا بأسئلة كبيرة عن المصلحة الفضلى للطفل، في مجتمع لا يزال يراوح بين الرعاية المؤسسية والاحتضان المحدود.

مسؤولية الكفالة تمتد مدى الحياة

في ضوء ما تقدم، تقول رئيسة "اتحاد حماية الأحداث" الدكتورة أميرة سكر لـ "الديار"، إن "التبني يتم ضمن أطر قانونية، تبدأ بما يُعرف باحتضان الطفل لدى عائلة بديلة، وذلك بإشراف قضاء الأحداث. ويُعد هذا التدبير معقدا ودقيقا جدا، إذ يجري التحقق من مختلف الظروف قبل تسليم الطفل، ومن ثم تُستكمل معاملات التبني في حال رغبت العائلة بذلك. ويُشترط أن تسمح الطائفة بالتبني، إذ إن بعض الطوائف تمنعه أو تحرّمه. كما لا يمكن تبنّي الطفل قبل التأكد من أن والديه مجهولا الهوية كليا".

وتوضح "نتابع العملية منذ مراحلها الأولى، عبر دراسة وضع العائلة التي تقدمت بطلب التبني، وزيارة منزلها، وإجراء التقييم اللازم، وتقديم تقرير إلى القضاء، الذي غالبا ما يأخذ بمضمون هذا التقرير".

وتضيف: "صحيح أنه تتم متابعة ملف الطفل قبل التبني، لكن بعد إتمام عملية التبني يُقفل الملف، ويُسجّل الطفل على خانة العائلة المتبنية. وهذه الخطوة لا تُنفّذ في محكمة الأحداث، بل تُحوَّل القضية من قضاء الأحداث إلى المحاكم الروحية". مشيرة الى "ان الحل الأمثل يتمثل في العائلات البديلة، لأن التبني لا يمكن أن يتم إلا إذا كان الوالدان غير معروفَين إطلاقًا. فلا يجوز تبني طفل معروف الأم أو الأب. كما أن وجود الطفل ضمن عائلة، حتى وإن كانت بديلة، هو تدبير حماية له، إذ تُناط بهذه العائلة مهمة رعايته، وتُكلَّف بذلك قانونيا من قبل القضاء، إلا أن هذا لا يُعد تبنّيًا. ويبقى القرار النهائي للقضاء في مختلف شؤون الطفل، مثل السفر أو الدراسة أو إجراء عملية جراحية".

من جهتها، تعتبر الاختصاصية النفسانية والاجتماعية الدكتورة غنوة يونس، أن "التبني هو فعل إنساني عميق، يجمع بين الرغبة في الاحتضان والعطاء من جهة، والحاجة إلى الانتماء والحب من جهة أخرى. ومن منظور نفسي، لا يُعد التبني مجرد خطوة قانونية أو اجتماعية، بل هو عملية طويلة ومعقّدة من التعلّق، والشفاء، والتأقلم العاطفي، سواء بالنسبة للطفل أو للأهل بالتبني".

وتشرح لـ "الديار" الجوانب الإيجابية للتبني من الناحية النفسية ،وتتمثل في النقاط الاتية:


1- توفير بيئة آمنة وداعمة: الطفل الذي يُتبنّى غالبا ما يكون قد اختبر الفقدان أو الإهمال. والتبني يتيح له فرصة لإعادة بناء شعور بالأمان والانتماء، وهو أساس ضروري لأي نمو نفسي سليم.

2- تعزيز الثقة بالنفس: عندما يشعر الطفل أنه مرغوب ومحبوب، حتى وإن لم يكن بيولوجيا من هذه العائلة، فإن ذلك يعزز من تقديره لذاته، ويساعده على بناء علاقة إيجابية مع نفسه ومع الآخرين.

3- الشفاء من التجارب الصادمة: في حال حظي الطفل بدعم نفسي مناسب ضمن بيئة متفهمة، فإن التبني يساهم في تعويض النقص العاطفي الناتج من التخلي أو الهجر، ويُعينه على تجاوز تجاربه المؤلمة السابقة.

4- تحقيق رغبة الأهل في العطاء والتربية: بالنسبة للأهل، يحقق التبني حاجة عاطفية عميقة إلى العطاء، ويؤسس لعلاقة أسرية حقيقية مفعمة بالحب والارتباط والمعنى.

وتشير يونس الى انه "في لبنان، لا يوجد قانون مدني يُجيز التبني بشكل شامل، بل إن معظم القوانين تنظّم ما يُعرف بـ "الاحتضان" أو "الكفالة"، من دون أن تمنح الطفل صفة الابن الشرعي. وهذا الواقع يخلق فجوة قانونية واجتماعية لها انعكاسات نفسية مباشرة، أبرزها:

ـ غياب الاستقرار القانوني للطفل، ما يعزز شعوره بعدم الأمان والانتماء الكامل.

ـ التمييز الاجتماعي، خصوصا في حال أُخفيت حقيقة التبني، أو إذا تعرّض الطفل لتعليقات سلبية.

ـ التأثير في الهوية الذاتية، إذ ينشأ الطفل ضمن واقع قانوني يميّزه عن سائر الأطفال، ما يعزز شعوره بـ "الاختلاف".

وتختم: "من وجهة نظر نفسية، يمكن للتبني أن يكون مصدر شفاء وأمل وحياة جديدة، إذا تمّ ضمن إطار داعم وعاطفي وصادق، لكنه في الوقت ذاته يحمل مسؤوليات كبيرة تقع على عاتق الأهل والمجتمع والتشريعات".
 
 
المرجعيات الدينية ترسم حدود القرار!

وبين الجوانب القانونية والنفسية، يبرز البعد الديني كعامل حاسم في مسار التبني. وفي هذا السياق، يقول الخوري أنطوان أنطون في أبرشية صيدا المارونية لـ "الديار"، "إذا كانت المسيحية تعتبر ان كل من يؤمن به هو ابن بالتبني "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يو 1: 12) ، فمن الطبيعي ان تشجّع على التبني، الذي هو فعل حبّ ورحمة لكل ثنائي لم تسمح له الطبيعة البشرية بالإنجاب لمئة سبب وسبب، شرط أن يتم ضمن ضوابط تحفظ كرامة الجميع".

اليتم وجع!

ويضيف "بالتجسد صار السيد المسيح "بكرا بين إخوة كثيرين" (رو 8: 29)، فصرنا نحن فيه أولادا لله بالنعمة والتبني كقول الإنجيل، وإن كان الآب السماوي الذي منه كل أبُوَّة يدعونا بنين له في المسيح، فهو في المقابل يدعو كنيسته في جميع أنحاء العالم، إلى جعل الإنجيل مرئياً من خلال الاستجابة لوصاياه، بإظهار الحب للطفل اليتيم والطفل، الذي لا سند له "اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللهِ الآبِ هِيَ هذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ" (يعقوب 1: 27). وعليه، إن اليُتم وجع عميق يحتاج إلى علاج، وعلاجه بالمحبة وبفتح قلوبنا وبيوتنا، لاستقبال من أودت بهم الحياة إلى فقدان السند والمعين. وإدراكاً لحجم هذا الوجع فقد وعد السيد المسيح تلاميذه بأن لا يتركهم يتامى، حيث قال في يوحنا 14: 18 "لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ".

جذور "كتابية"

ويتابع الاب انطون "إن موضوع التبني له أسس راسخة في تعاليم الكتاب المقدس، حيث يعلمنا السيد المسيح نفسه بأننا أولاد الله بالنعمة والتبني. وهو بالتالي ليس مجرد عمل إنساني، بل هو مشروع إلهي يجسد الرحمة والرعاية التي يُظهرها الله تجاه أبنائه، فهو "الصَّانِعُ حَقَّ الْيَتِيمِ." (تثنية 10: 18)، وهو "مُعِينَ الْيَتِيمِ." (مز 10: 14). وهنا لا بد من الإشارة الى أننا نجد في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد أمثلة عديدة على التبني، حيث تبنّى يوسف النجار السيد المسيح ورعاه وكان أباً له، واستير الملكة تبنّاها ابن عمها مردخاي ورعاها بحنان ومحبة وأحسن تربيتها (أستير 2 : 7)".

ويضيف: "يقول القديس كيرلس الكبير مستندا الى إنجيل يوحنا "ابن الله صار إنسانًا لكي يصير الناس فيه وبواسطته أبناء الله بالتبني"، ولنذكر كلام الرب يسوع عندما قال: "وَمَنْ قَبِلَ وَلَدًا وَاحِدًا مِثْلَ هذَا بِاسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي." (متى 18 : 5). بالتأكيد إن هذا الإعلان العظيم هو كدعوة للأزواج الراغبين بالتبني، وفي رعاية وتربية أطفال في بيتهما. فقبول طفل متروك هو استقبال للرب يسوع نفسه".

دعوة الكنيسة

ويستكمل: "على الكنيسة أن تقبل هذه الفئة وتساعدها، لأن الله نفسه قبلها. فنجد مثلًا قصة أحد قادة الشعب في العهد القديم وهو يفتاح الجلعادي، الذي رُفِضَ من إخوته لأنه ابن غير شرعي (قضاة 11 : 1 – 2)، لكن الرب قَبِلَهُ ولم يقبله فقط، بل استأمنه وأوكل إليه مهمة إنقاذ شعبه (1 صموئيل 12 : 11). ولم تقف قصّة يفتاح عند هذا الحد، بل زاد إكرام الله له، حيث ذكر اسمه في العهد الجديد في سلسلة ابطال الإيمان (عبرانيين 11 : 32).

التجاوزات ليست القاعدة

ويختم الاب انطون "التحديات في مسألة التبني قائمة، غير ان الإيمان يدفعنا الى تقديم الرعاية والمحبة للأطفال المحتاجين. ورغم حصول بعض التجاوزات في دور الرعاية، فان العديد منها يوفر العناية اللازمة بما يحفظ كرامتهم. الكنيسة لا تكتفي بالسماح بالتبني، بل تشجّع عليه كعمل رحمة"، مشددا على "ان من الشروط الأساسية ان يكون المتبنى تحت الثامنة عشرة، تفاديا لأي الاستغلال محتمل".

من جهته، يوضح رئيس دائرة الفتاوى في دار الفتوى الشيخ وسيم المزوَّق لـ "الديار" ان " الله عزّ وجلّ قال في كتابه الكريم: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب : 5]. فالتبني محرّم في الشريعة الإسلامية، ولا ينتقل به نسب". ويضيف: "وعليه، فلا يجوز لأفراد العائلة من النساء (زوجة الرجل الذي أجرى التبني وبناته) أن يكشفن ما يجب ستره أمام الشخص المتبنى إذا وصل إلى سنّ البلوغ أو قاربه، وهو مدرك لأمور النساء، لأنه ليس من المحارم. وكذلك يقال إذا كان المتبنى بنتاً، فلا يجوز لها أن تكشف ما يجب ستره أمام أفراد العائلة الرجال، إذا وصلت إلى حدّ البلوغ. فيجوز للشخص للمتبنى أن يتزوج من بنات العائلة التي احتضنته، كما يجوز للفتاة المتبناة أن تتزوج من رجال العائلة التي احتضنتها".


ويقول: "لقد شرع الإسلام كفالة اليتيم وجعل لها أجراً عظيماً عند الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذه الكفالة لا ينتقل بها نسب وتجري فيها الضوابط الشرعية من حيث الحرمات بالتفصيل المذكور أعلاه، ويمكن للعائلة التي كفلت اليتيم أن تنقله للعيش معها في منزلها أو أن يبقى في المؤسسة التي ترعاه، لكن على كفالتها ويبقى على نسب أبيه. والله تعالى أعلم".

في جميع الأحوال، لا بد من الإشارة الى ان قانون الأحوال الشخصية في الطوائف الكاثوليكية ايضاً، يحدد الشروط في المواد 98-118، حيث يعتبر التبني عقدا قضائيا يُنشئ روابط بين المتبني والمتبنى. وتشمل شروط التبني أن يكون المتبني فوق الأربعين عاماً، ويتحلّى بسيرة حسنة. كما يحق للقاصر المتبنى طلب إلغاء التبني عند بلوغه. وفي حال وفاة المتبني، يحصل المتبنى على جزء من التركة. المحكمة الكنسية تقرر التبني، ويمكن إبطاله لأسباب خطرة مثل إساءة المعاملة".