شباب الجامعات من مقاعد الدراسة إلى وظائف بسيطة تبني سيراً ذاتية واثقة

شباب الجامعات من مقاعد الدراسة إلى وظائف بسيطة تبني سيراً ذاتية واثقة

image

عيد بلا عطلة... ولكن مليء بالمعنى
شباب الجامعات من مقاعد الدراسة إلى وظائف بسيطة تبني سيراً ذاتية واثقة

لوسي بارسخيان  - "نداء الوطن"

يستمر عيد العمال في لبنان محطة أساسية تتيح للطبقة العاملة أن ترفع ولو مرة في السنة صرخة نضالها المزمن للخروج من خيباتها المتراكمة. هو يوم راحة في السنة، يُفترض أن يُخصص للاحتفاء بتعب يمتدّ على 364 يوماً. ولكن، لا "عيدية" في لبنان، بل مناسبة سنوية تذكر بالحقوق المهدورة. ومع ذلك، ثمة من هو قادر على أن يخفي المرارة بابتسامة. هي تلك التي ترتسم على وجوه طبقة عاملة جديدة، تسلّلت إلى سوق العمل من مقاعد الجامعة، فخلقت حيوية صارت جزءاً مألوفاً منه. 

أعباء الحاضر والمستقبل على صواني القهوة 

قوي عود طلاب الجامعات في أول خطوات لهم بمسيرتهم المهنية، فبدّلوا جذرياً الأفكار النمطية السائدة عن شباب لبنان "المدلّل" والمعتمد بشكل مفرط على أهله. ولكنهم مع صواني القهوة أو أكياس المشتريات، أثقلوا باكراً أيضاً بأعباء الحاضر والمستقبل.

بين بطالة مقنّعة، وأجور متآكلة، وغياب لأي حماية اجتماعية حقيقية، لا شك أن الأزمة الاقتصادية والمالية التي ألمّت بلبنان دفعَت بآلاف العمال إلى هوامش السوق. لكنها في المقابل فرضت تبدلاً جذرياً في العقليات، التي كانت تعتبر عمالة الشباب في قطاعات معينة أمراً معيباً أو مجحفاً بحقهم، أو تحصرها بتلاميذ الجامعات الرسمية.


 بات العمل الموازي لإكمال الدراسة الجامعية نمطاً شائعاً بين طلاب الجامعات الخاصة أيضاً، وصارت عمالتهم علامة طموح وسعي لاستقلالية مادية. فبين أن يكونوا ضحايا الأزمة، أو فاعلين فيها، اختاروا الثانية. ليوجدوا فرصهم ضمن وظائف "الخطوط الأمامية" داخل مؤسسات الـ BRANDS أو العلامات التجارية المعروفة أو غيرها، يعملون في أقسام المبيعات أو خدمة الزبائن، والتي لا تتطلّب خبرة كبيرة، بل حيوية وثقة بالنفس، ساعدت في تعزيزها بيئة العمل المرنة التي توفّرت لهم في الأولى، وأيضاً تشجيع الأهل الذين أصبحوا أكثر تقبّلاً لهذا التوجّه لدى أولادهم.

 اكتسبت هذه االوظائف بالنسبة للشباب المقبلين عليها، مفهوم صعود السلم الأول على درج مسيرة مهنية طموحة. ولم يعد الأمر يتعلق بالرواتب والعمولات وبدل المواصلات والتأمينات والحوافز الأخرى التي يحصل عليها الطالب خلال متابعته لدراسته، حتى لو شكلت هذه الحوافز دافعاً أساسياً لهم. وهذا ما عبرت عنه مجموعة من الشابات والشبان الذين التقيناهم في جولة ميدانية على مجمعات تجارية تتقاطع فيها مؤسسات الماركات التجارية. 

من كندا إلى قهوة يونس

منذ أربع سنوات كان قرار فادي أن يهجر لبنان، ذهب إلى كندا، اختبر بعض صعوباتها واقتنع بالعودة مجدداً إلى مقاعد الدراسة ليتابع عمله في اختصاص الـ hospitality and hotel management في جامعة الروح القدس الكسليك. بالنسبة له كل الأعمال التي تنقل بينها لم تأت بقيمة مضافة على سيرته الذاتية، إلا عندما انضم إلى مجموعة "كافيه يونس". يقول العمل في مؤسسة لديها 15 فرعاً في العالم تغني السيرة الذاتية، وتشكل خطوة مهمة في المسيرة المهنية، ومن هنا يبرر طموح الشباب لإيجاد الفرص في المؤسسات التي تحمل علامات تجارية.
بالنسبة لفادي "الدخل المتوفر مهم، ولكن الأهم هي شبكة العلاقات والخبرة التي تبنى بمثل هذه المؤسسات، والتي يسمح عملنا كطلاب جامعات ببنائها باكراً، لتجعل حظوظنا أوسع في سوق العمل، سواء داخل لبنان أو خارجه".

ما يشجع الطلاب على العمل هو أن هذه المؤسسات تقسم الدوام بين صباحي ومسائي، وهذا ما يؤمن ليونة تتيح للطلاب بأن يوفقوا بين ساعات العلم وساعات العمل.
زميلة فادي بعمله جاين (19 سنة)، وهي طالبة BUISNESS في الجامعة الأنطونية، تعتبر أن دوام العمل وحتى لو امتد لثماني ساعات ونصف، يبقى مريحاً، طالما أن هذه الساعات لا تتضارب مع ساعات المحاضرات في جامعتها. أما ساعات فراغها، فهي مستغلة بمعظمها في التحضير لامتحاناتها.
تنسق جاين هذه الساعات مع فادي الـ SUPERVISOR في الكافيه، وهو أيضاً ينسق مع زميله الـ BACHELLER حتى لا يغيب أي منهم عن محاضراته. وبالنسبة لها العمل كان ضرورياً لحمل بعض المسؤولية، خصوصاً أن أقساط الجامعات صارت عبئاً على الأهل، وبالتالي فإن عملها يؤمن لها التنقلات مع النفقات الشخصية، ويسمح لها بالخروج مع أصدقائها.

ولا يجد أي من الشبان حرجاً في العمل بوظيفة كان يمكن أن تشغلها اليد العاملة الأجنبية، بل تقول جاين: "كل أصدقائي تقريباً يعملون، ومن لا يعمل يفتش عن وظيفة مثل وظيفتنا".

الفرص تنتقل من الفم إلى الأذن

انفلاش الشباب في الوظائف، خلق لهم شبكة علاقات خولتهم مساعدة زملائهم في بلوغ المراكز الشاغرة. وعليه لم يعد العثور على وظيفة يتم فقط من خلال المواقع الإلكترونية للمؤسسات، أو صفحات التوظيف أو حتى مجموعات الواتساب، بل يتناقل هؤلاء الأخبار عن الفرص من فم إلى أذن، مع تنوّع في العروضات المتاحة لمختلف الاختصاصات.

تعتبر ليا (19 سنة) أنها وُفقت في عملها في ماركة تجارية للثياب حتى لو كانت تدرس في جامعة الـ NDU للحصول على شهادة في اختصاص الـ MARKETING. بالنسبة لها كل عمل هو خطوة إضافية في بناء سيرة ذاتية تولي المؤسسات فيها أهمية لسنوات الخبرة في سوق العمل. ولكنها تعلم جيداً أن مسيرتها المهنية لا زالت طويلة لبلوغ هدفها، وطموحها أن تعمل بوكالة تسويق كبرى أو حتى تكون رائدة في مجال تخصصها.

اكتسبت ليا، كما تقول، حنكة التعاطي مع أطباع الناس وشخصياتها المختلفة، إلى جانب تأمينها مصاريفها الشخصية، ومن هنا فإن العمل بالنسبة لها يعتبر ربحاً صافياً.

طوني (18 سنة) كان يتقاضى فاتورة زبون بمطعم ديك ديوك، وأتيحت له، خلافاً لزملائه في مطاعم أخرى، دقيقة لأن يحدثنا، قبل أن يضطر للانصراف لتقديم طبق إلى زبون آخر. بالنسبة له العمل في مؤسسات لديها عدة سلاسل في أماكن مختلفة مهم جداً في إغناء سيرته الذاتية، خصوصاً أنه يتخصص في مجال الإدارة الفندقية في الكفاءات. دخل النادل بالنسبة له مهم في تحقيق استقلاليته، وتحمل مصاريفه الشخصية، وتأمين متطلبات الدراسة والتنقلات وأيضاً الخروج مع الأصدقاء. مشيراً إلى أنه لولا العمل لم يكن قادراً على الخروج من البيت سوى للذهاب إلى الجامعة.


الأمر مختلف بالنسبة لريان (23 سنة) التي على رغم إنهاء تخصصها بـ "السلامة الغذائية" تحافظ على وظيفة عثرت عليها قبل خمس سنوات، لأنها لم تجد بعد وظيفة تناسب شهادتها بعد تخرجها.

لم يعد عمل ريان الحالي بحجم طموحاتها طبعاً، ولكنها تقول أنه على الأقل يؤمن لها مصاريفها الشخصية كفتاة مقيمة مع عائلتها. ولذلك هي تبدو فخورة بمسيرة عملية بنتها خلال خمس سنوات على رغم صغر سنها، مؤكدة أن العمل المبكر يصقل شخصية الفرد ويملأ الوقت بأمور مفيدة ويحقق مدخولاً شخصياً.

الصعوبات موجودة أيضاً

ما ذكر لا يعني بأن الشباب الجامعي لا يواجه الصعوبات والتحديات، فبسبب العمل أحياناً يضطرون لاختيار ساعات محاضرات أقل في الفصول الدراسية، وهذا ما يطيل فترة الدراسة بالنسبة لهم، فضلاً عن العمل يكون أحياناً على حساب رفاهيتهم الشخصية، أو حياتهم الاجتماعية التي يؤكد كل من الشبان تراجعها.


 فبالنسبة لطوني "نحن لا نجد أحياناً وقتاً للتسكع مع الاصدقاء"، بينما تشرح مانيا التي تتابع دراستها في اختصاص الـ international business، أنه بسبب اضطرارها لساعات عمل إضافية اضطرت لتقليل ساعات الدرس.


ولكن الأهل ليسوا عامل ممانعة هنا. ومنطلقات تشجيع أولادهم على العمل ليست كلها اقتصادية وفقاً لما يشرحه هؤلاء. حتى لو كانت "القلة" التي تسبب بها انهيار العملة عاملاً ضاغطاً. يعتبر الأهل أن الوظيفة تسهم بصقل شخصيات أولادهم ومراكمة سير ذاتية ستساعدهم في مسيرتهم العملية المستقبلية. وهذا ما عبرت عنه ربى إحدى السيدات التي كانت تتلقى خدمة من طوني أثناء تأديته لوظيفته، مؤكدة أيضاً أن الأهل ما عادوا يتألمون لعمل أولادهم، بل يريدون لهم أن يتحملوا المسؤولية في بناء مسيرتهم، وهذا ما يشكل قفزة نوعية من الأفكار النمطية التي نشأت عليها الأجيال الماضية، والتي كانت تنظر بعين التقدير إلى عمالة تلاميذ الجامعات في دول مثل أميركا وأوروبا، ولكنها لم تحفز أولادها على ذلك في لبنان. بدت ربى ممتنة للخدمة المقدمة، ليس فقط لأن طوني بدا مصقلاً بالخبرة، وإنما عبرت عن سعادتها لكون هذه الوظائف تذهب لشباب لبنانيين، يحسنون من نوعية حياتهم من عملهم.

لا أرقام لحجم عمالة الشباب

على رغم الملاحظات الميدانية التي تؤكد نمو تواجد طلاب الجامعات وتجذرهم في سوق العمل بالمقابل، لا تتوفر حتى الآن إحصاءات جدية توثق أعداد هؤلاء أو أقله نسبتهم بالنسبة لمجمل الطبقة العاملة. إلا أنه بحسب غرازييلا كنعان، رئيسة قسم الموارد البشرية في مجمّع ABC لا يمكن حصر إقبال طلاب الجامعات على العمل في المؤسسات التي تحمل علامات تجارية، بالأزمة المالية فقط، فالـ ABC مثلاً توظف العمال من الطلاب اللبنانيين الذين أتموا سن الـ 18 منذ ما قبل الأزمة، وهي تنظم أياماً للأبواب المفتوحة التي تتيح للشباب الراغبين بالعمل التقدم للوظائف بشكل مستدام. وتشرح كنعان في المقابل أن الوظائف المتوفرة للطلاب هي في الخطوط الأمامية التي لا تحتاج إلى خبرة. ويمكن اعتبارها الدرجة الأولى على سلم الطموحات، وفي بناء الخبرة العملية في مسيرتهم المهنية.


ما ذكر ينطبق أيضاً وفقاً لبحث عبر محرك GOOGLE على سائر المجموعات التي توظف طلاب الجامعات كـ Azadea Group أو Holdal Group أو مؤسسات كـ Aïshti، Roadster، Spinneys، ديك ديوك، CREPE AWAY، وغيرها من مؤسسات الماركات التجارية والسلاسل التي باتت عمالة الشباب اللبناني فيها رائجة بشكل كبير، وترسم معالم جيل تعلم باكراً ألا ينتظر، بل أن يعمل... ولهذا استحقّ هؤلاء في عيد العمال، وعن جدارة، كل تحية.

تشير بعض المبادرات والبرامج إلى مشاركة عدد كبير من الطلاب في برامج تدريبية تهدف إلى تعزيز مهاراتهم وهو ما يعكس الرغبة المتنامية بالدخول المبكر الى سوق العمل