ليون الرابع عشر يُكمل مسيرة فرنسيس الإصلاحيّة
سيقود الكنيسة الكاثوليكيّة في عصر الثورة التكنولوجيّة والذكاء الاصطناعيّ التي تفوق بسرعتها الثورة الصناعيّة
فادي الأحمر - اساس
بينما كان الأوروبيون والأميركيون والروس يحتفلون بذكرى نهاية الحرب العالميّة الثانيّة (٨ أيار ١٩٤٥) خرج الدخان الأبيض من الفاتيكان. حدث ذلك في تمام الساعة السادسة وثماني دقائق بتوقيت روما. ما هي إلا دقائق حتى خرج الكاردينال دومينيك مامبرتي وأعلن: “أصبح لنا بابا جديد”. إنه “ليون الرابع عشر”.
منذ ما قبل وفاة البابا فرنسيس وبعدها كان السؤال الكبير في الكنيسة الكاثوليكيّة: هل سيُنتخب خلفاً له يُكمل ما بدأه من إصلاحات يمكن القول بأنها أحدثت هزّات في الكنيسة وهدّدت وحدتها أم لا؟ ليس المسيحيون فقط من ترقّبوا انتخاب البابا الجديد. إنما أيضاً غير المسيحيين وغير الكاثوليك لأن إصلاحات فرنسيس طالت حياة الدول والمجتمعات وأنظمتها ونظرتها الى الرجل والمرأة… فكانت له تعاليم اجتماعيّة جديدة حول المثليين وسياسيّة تتعلّق بالهجرة… كما كان متشدّداً بمسائل أخرى مثل الإجهاض ووضع حدّ للحياة… والتي شرّعتها العديد من البلدان مثل فرنسا.
بينما كان الأوروبيون والأميركيون والروس يحتفلون بذكرى نهاية الحرب العالميّة الثانيّة (٨ أيار ١٩٤٥) خرج الدخان الأبيض من الفاتيكان
الإصلاح مستمرّ
لم يتأخّر الجواب. فقد انتخب روبرت فرنسيس بيرفوست بعد يومين فقط من انعقاد مجمع الكرادلة وبعد أربع جولات تصويت. ما يؤشّر على اتفاق الكرادلة منذ البداية على مواصفات البابا العتيد. انتخاب الكاردينال بريفوست يؤكّد بأن “الكنيسة الكاثوليكية مستمرّة في مسيرتها الإصلاحيّة، ولكن دون الصخب والضجيج الذي كان يُحدثه البابا فرنسيس”، هذا ما يقوله مصدر شارك في المجمع الفاتيكاني الأخير وخبير في الشؤون الكنسيّة. وهذا ما عبّر عنه بشكل قاطع اختيار البابا الجديد إسم “ليون الرابع عشر” وهو الاسم الذي اختاره من قبله أوّل بابا إصلاحي في الكنسية الكاثوليكيّة في العصر الحديث “ليون الثالث عشر” (١٨٧٨-١٩٠٣) الذي أصدر الإرشاد الرسولي “Rerum Novarum” ١٨٩١، وهو أحد أهم الإرشادات البابوية في التاريخ الحديث الذي تطرّق إلى قضايا العمل، والعدالة الاجتماعية، وحقوق العمال، وقدّم رؤية الكنيسة في التعامل مع التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في ذاك العصر.
فالقرن التاسع عشر هو عصر الثورة الصناعيّة وانتشار الرأسماليّة المتوحّشة مع ما رافقها من ظروف عمل غير إنسانيّة للعمّال. كما كان عصر ظهور البوجوازية طبقة اجتماعيّة جديدة زادت من الفروقات الاجتماعيّة. وهو أيضاً عصر فيلسوف الشيوعيّة كارل ماركس، وقرن الثورات الاجتماعيّة في فرنسا ودول أوروبيّة أخرى. واكبة الكنيسة كل هذه الأفكار والثورات والمتغيّرات في السياسة والاجتماع. فكان إرشاد ليون الثالث عشر الذي رفض الرأسماليّة المتوحّشة كما رفض الشيوعيّة غير العادلة. “Rerunm novarum” أعاد الاشتراكيّة الى حياة الكنيسة التي أسّس لها يسوع. وهي الاشتراكيّة التي ستعتمدها العديد من الأنظمة الأوروبية ولا تزال مثل فرنسا وإيطاليا.
على خطى سلفه (ليون ١٣) سيقود ليون ١٤ الكنيسة الكاثوليكيّة في عصر الثورة التكنولوجيّة والذكاء الاصطناعيّ التي تفوق بسرعتها الثورة الصناعيّة، وتُحدث تحوّلات ومتغيّرات في المجتمعات والأوطان أضعاف ما أحدثته الثورة الصناعيّة. فمن هو ليون ١٤؟
البابا الجديد
أميركي شماليّ في الولادة، وأميركي جنوبيّ في الرسالة. ولد روبرت فرنسيس بريفوست في ولاية شيكاغو يوم عيد الصليب ١٤ أيلول ١٩٥٥. هو أوّل بابا من الولايات المتحدّة الاميركيّة. بيد جذوره أوروبيّة. يتحدّر والده من أصول فرنسيّة وإيطاليّة. وتتحدّر أمه من أصول إسبانيّة. ويُتقن إضافة الى الانكليزيّة، لغته الأم، الاسبانيّة والإيطاليّة والفرنسيّة والبرتغاليّة وله إلمام باللغة اللاتينيّة. حصل على إجازة في علم الجبر (١٩٧٧). دخل الرهبانيّة الاوغوسطينيّة وأبرز نذوره في ١٩٧٨ وحصل على دبلوم في اللاهوت وآخر في القانون الكنسيّ. سيم كاهناً في ١٩٨٢. وانتخاب رئيساً عاماً لرهبانيته بين عامي ٢٠٠١ و٢٠١٣.
قضى الكاهن الجديد معظم حياته الكهنوتيّة في البيرو، ذاك البلد الفقير في أميركا الجنوبيّة. وبعد تعيينه أسقفاً أكمل خدمته الكنسيّة في البيرو مع فقراء ذاك البلد. بذلك يكون البابا الجديد قريب جداً من البابا الراحل من حيث التجربة الكنسيّة. فالبابا فرنسيس جاء من شوارع بوينس أيرس الفقيرة. وليون ١٤ يأتي من شوراع البيرو المُعدَمة. بالتالي سيُكمل رسالة “بابا الفقراء” ولكن بأسلوبه. ما هو أسلوبه؟
بابا هادئ ومتحفّظ
سؤال طرحناه على المصدر الذي شارك في المجمع الكنسيّ الأخير والتقى هناك البابا الجديد، فأجاب بأنه “شخص هادئ وصاحب شخصيّة رصينة، متحفّظة، قليل الكلام. ليس له الكاريزما التي كانت للبابا الراحل ولكن لديه التصميم ذاته على متابعة الإصلاح في الكنيسة”. بالتالي من المتوقّع أن يكون أسلوبه مختلف عن سلفه الذي استفزّ أحياناً بعض السياسيين وفي مقدّمهم دونالد ترامب الذي لم تكن علاقته جيّدة مع البابا الراحل منذ ولايته الأولى. ووصل به الأمر إلى نشر صورة له بلباس البابا، صور استفزّت غالبية المسيحيين خاصّة الكاثوليك منهم.
الفقراء والمهمّشين والبيئة
خطاب البابا ليون ١٤ يؤكّد استمراره في نهج الإصلاح الذي بدأه سلفه. فهو أشاد بالرؤية الكنسيّة لسلفه والتزامه تجاه الفقراء والمهمّشين. وذكر بأن الفقر والفروقات الاجتماعيّة وأزمة الهجرة هي أبرز تحدّيات العصر. وشدّد على ضرورة الاهتمام بالضعفاء والمضطهدين في المجتمع داعياً الى المحبة المسيحيّة والعمل الاجتماعيّ. وهنا يبدو أن “البابا الاميركيّ” سيتواجه مع دونالد ترامب الذي يرحّل المهاجرين من الولايات المتحدّة الاميركيّة، ومع دول الاتحاد الاوروبيّ الذي تتخّذ أكثر تشدّداً تجاه المهاجرين غير الشرعيين.
ليون ١٤ أكّد التزامه بكنيسة “رسوليّة، ومجمعيّة”، يشارك العلمانيين في إدارتها إلى جانب الالكيروس، وهو إصلاح أدخله فرنسيس في الكنيسة وبدأ تطبيقه في المجمع الأخير الذي عقده (٢٠٢١ ٢٠٢٤) حيث شارك العلمانيين (رجال ونساء) في التصويت على مقرّرات المجمع للمرّة الأولى في الكنيسة. مشاركة لاقت اعتراضاً من بعض الكرادلة والأساقفة.
وعلى خطى سلفه أثار البابا الجديد أزمة المناخ العالميّة داعياً الى الوحدة في مواجهتها، ومعلناً بأن للكنيسة دور في الحفاظ على البيئة كما في الدفاع عن حقوق الإنسان على المستوى العالميّ.
انتخاب ليون ١٤ حسم الجدل حول مواصفات البابا الجديد ومسيرة الإصلاح في الكنيسة. يبقى السؤال كيف سيواجه البابا الجديد التحدّيات التي تنتظره، وهي تحدّيات سياسيّة واجتماعيّة من الخارج، وكنسيّة من التيار المحافظ في الداخل.