"فياسكو" انتخابات الشمال: مَن المسؤول؟
معظم موظفي أقلام الاقتراع ينقصهم التدريب اللازم لحسن سير العملية الانتخابية
نزيه درويش - المدن
انتهت الانتخابات البلدية والاختيارية في جولتها الأولى في محافظة جبل لبنان "على خير وسلام". تنفسّنا الصعداء. لا مشكلات أمنية أو أهلية تُذكر ولا مخالفات كبيرة إن من ناحية الجهة المنظّمة (وزارة الداخلية والبلديات ومعها المحافظة والقائمقامين) أو من قبل المرشحين والناخبين. فهي كانت بهذه المعايير ناجحة إلى حدٍ معقول. إلا أن هذا الارتياح لم يدُم، مع الأسف، طويلا. فقد واكبت الجولة الثانية في محافظتي الشمال وعكار منذ الصباح الباكر أجواء مشحونة كانت تنبئ أو تشي بما ينتظرنا عند إقفال الصناديق. ويبدو أن معظم الاعلاميين والمراقبين قد لاحظوا الأمر ما عدا الأجهزة الأمنية. زاد في الطين بلّة تأخر وصول بعض موظفي أقلام الاقتراع البدلاء وبالتالي تأخر فتح بعض الصناديق نتيجة تخلّف أو غياب الموظفين المنتدبين أصلا من قبل وزارة الداخلية.
اخطاء جسيمة
اكتمل المشهد البشع عندما تفلّت السلاح "الاحتفالي" بشكل جنوني ما أن بدأت أولى النتائج تظهر! وهي مسألة خطيرة ينبغي التعامل معها بحزم وجدية. فهي تعيد فتح ملف السلاح على مصراعيه، وتعيدنا إلى المربّع الأول وهو أن لا أمن بالتراضي، وأن تراخي الدولة في ضبضبته واعتبار رئيس الجمهورية أن "السلاح الفردي ثقافة عند اللبنانيين" يشجّع هؤلاء الزعران على التمادي في استخدامه ولو في الهواء، على حساب أمن وطمأنينة وسلامة الناس.
ولكن مع الأسف هذا ليس المشهد كاملا. فقد رافق عمليات العد والفرز في بعض الأقلام أخطاء جسيمة، تكاد تطيح بصدقية ونزاهة العملية برمّتها، ولاسيما في مدينة طرابلس وأيضًا في المنية والضنية. وقد بدأت تصدر بعض الأصوات ذات الصدقية المطالبة بإعادة الانتخابات في مدينة طرابلس (كالجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات وغيرها).
مسؤولية هذه الأخطاء تقع في الدرجة الأولى على بعض موظفي الأقلام (رؤساء وكتبة) الذين بدَوا وكأنهم يشتركون في الانتخابات للمرة الأولى، بلا أي تدريب أو حتى توجيه! فقد حفل فرزهم بعدد هائل من الأخطاء وحفلت محاضرهم بمآثر يجري توثيقها لاستخدامها في طعونٍ بدأت تتجهز، إضافة إلى ادعاءات انتشرت بواسطة فيديوهات من ناخبين وجدوا مَن اقترع فعليًا عن أقارب لهم متوفّين! إلى تجاوزات من المحافظة والقائمقامين في موضوع إعطاء الأذونات لمندوبي اللوائح والمرشحين وروايات كثيرة عن الاستنسابية التي حكمَت هذه المسألة. وجاء تأخر إعلان النتائج ليزيد من الغضب ويساهم في تأجيج الاعتراضات والشكوك بنزاهة العملية لدى العامة. وكأن الزمن عاد بنا عقودًا إلى الوراء.
أين الخطأ؟
المسؤولية بالدرجة الأولى في كل هذه الأخطاء، ومنها ما يتكرّر في كل دورة إنتخابية (بنِسَب متفاوتة) دون أن نجد حلا نهائيًا دائمًا لها، تقع على عاتق الإدارة الانتخابية أي وزارة الداخلية والبلديات (مديريتي الشؤون السياسية في ما خصّ التدابير الاجرائية والأحوال الشخصية في ما خصّ قوائم الناخبين) ومن ثم لجان القيد والمحافظين والقائمقامين.
مديرية الأحوال الشخصية: الأخطاء في لوائح الشطب (قوائم الناخبين) حيث أحيانًا تسقط منها أسماء خطأ ولا تشطب أسماء أخرى يجب إسقاطها كالمتوفين مثلا. ولا أتحدّث عن المتوفين في الحرب الأخيرة، وإنما أيضَا عن متوفين منذ زمن وما زالت ملائكتهم حاضرة. استمرار وجود هذه الأسماء هو الذي يسمح باقتراع أشخاص آخرين ببطاقات هوية هؤلاء وهو تزوير مفضوح.
مديرية الشؤون السياسية واللاجئين: بدا واضحًا أن معظم موظفي أقلام الاقتراع ينقصهم المزيد من التدريب على سير العملية الانتخابية. وبعضهم افتقد إلى كثيرٍ من المعرفة ما انعكس بُطئًا في عمليات الاقتراع وفي فرز النتائج واحتساب الأصوات. وقد اضطرت الوزارة إلى إلغاء نتائج الانتخابات الإختيارية كافة في منطقة البوشرية (المتن الشمالي) بسبب أخطاء من رئيس أحد الأقلام. ويبدو أن الأمر سيتكرّر في انتخابات الشمال وما يليها. فالمصلحة لم تولِ مسألة التدريب الأهمية اللازمة، ومعظم الأوقات جاء صوَريًا عبر الاكتفاء بتوزيع أقراص مدمجة على هؤلاء توضح كيفية الاقتراع، بعد أن كانت سابقًا تتم عبر تدريب متسلسل cascade trainings أكثر فعالية. كما أنها اعتمدت على لوائح لأسماء موظفين غير مُحدَّثة، منهم من صار فعليًا خارج الخدمة. فتمّ في اللحظات الأخيرة استدعاء آخرين على عجل للإنتقال إلى الشمال وعكار من مناطق بعيدة من دون علمٍ وتحضير مسبق ما سبّب تأخيرًا وتقصيرًا وتململا من هؤلاء. أما بالنسبة للمشكلة المزمنة المتمثّلة في النقص في الصناديق واللوازم الانتخابية فقد جرى تلافيها قدر المستطاع وجرى اعتماد آلية توزيع جديدة ولكنها مع ذلك بقيت مشكلة قائمة ولم تختفِ تمامًا. من دون التطرّق إلى مسؤولية المديرية في إطلاق حملة تثقيفية للناخبين والمرشحين لم تنطلق إلا وكانت الجولة الأولى من الانتخابات قد بدأت!
المحافظين والقائمقامين: سرت معلومات بعضها موثّق عن استنسابية مارستها المحافظة في إعطاء أذونات دخول أقلام الاقتراع والفرز لمندوبي بعض اللوائح والمرشحين، ما زاد في تأجيج التململ الذي انعكس في الشارع شغبًا وإطلاق رصاص. وكان قد فشل جزئيًا في حل مشكلة فوضى توزيع الصناديق على موظفي أقلام الاقتراع في اليوم السابق على الانتخابات، ما أثار سخط موظفي الأقلام (ومعظمهم من أساتذة التعليم الرسمي) لاضطرارهم إلى الانتظار لساعاتٍ طويلة في ظروفٍ صعبة قبل تسلّمهم لصناديقهم. كما فشل أيضًا جزئيًا في حل مشكلة مراعاة أحوال الناخبين من ذوي الاحتياجات الخاصة (أشخاص معوّقون ومسنّون ومرضى) في الوصول بسلاسة إلى أقلام الاقتراع، بالرغم من وعود وجهود الوزارة في الاهتمام بهذه المسألة، لجهة، أقلّه، اعتماد أقلام اقتراع في طوابق أرضية أو التأكد من عمل المصاعد الآلية. إلى مسؤوليته في دعوة القوى الأمنية لضبط الأمن ومنع إطلاق الرصاص، كما في مكافحة الرشاوى الانتخابية.
تفلت وسائل الإعلام
من جهة أخرى مارست وسائل الاعلام خروقًا فاضحة للصمت الانتخابي الذي حدّد القانون دقائقه ودعت الوزارة الوسائل والمرشحين إلى احترامه. وقد كان واضحا عدم التزام عدد من وسائل الاعلام في برامجها ونشرات أخبارها وتغطية مراسليها بالقانون وتجاهلته كليًا بحجة أن الحكومة لم تعيّن هيئة إشراف لرصد المخالفين فهي بالتالي "معفيّة" من تطبيقه! علمًا أن المجلس الوطني للإعلام معنيٌّ بمخالفات وسائل الاعلام لمبادئ أبسط من ذلك بكثير، ولكنّ أحدًا لا يعلم إن كان ما يزال هذا المجلس على قيد الحياة. وفي هذا الإطار كان حريًّا بوزير الاعلام، النشيط على شاشات التلفزيون، مسؤول مؤسسة جوستيسيا، تلقّف هذا الخرق الكبير للقانون لتوجيه ملاحظات أو توجيهات أو تأنيبات إلى الوسائل المخالفة انتصارًا لتطبيق القانون وضمانًا لحقوق المرشحين بالمساواة وبتساوي الفرص في المنافسة العادلة. قد لا تنصاع المؤسسات لهذه الملاحظات ولكن أقلّه كان أعطى إشارة إلى جدية الحكومة في قراراتها وفي عدم إمرار هذه الانتهاكات تحت أنفها.
على وزارة الداخلية والبلديات والإدارة خصوصاً استخلاص الدروس من هذه الأخطاء مرّة لكلّ المرّات عسى تستطيع تلافيها كليًّا مستقبلا وإجراء انتخابات تليق بالعهد الجديد مع تحضيرات جدّية وفعّالة بلا أخطاء أو شوائب تتكرّر في كل دورة، وأن لا تسكر كعادتها بتهنئة الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والمراقبين الدوليين المتسرّعة بنجاح يوم الانتخاب.