جو عيسى الخوري: اتفاقيات التجارة الخارجية أضرّت بلبنان
تثبيت سعر الصرف خطأ نكرّره الآن ورفع العقوبات عن سوريا يفيدنا مرحلياً
كتبت الأخبار: يثير وزير الصناعة جو عيسى الخوري في حديثه عن أفق تطوير الصناعة في لبنان، قلقاً مضمراً من أنه لم يحصل أي نقاش في السياسات الاقتصادية بعد، بل يكاد يقول إنه نموذج الاقتصاد السياسي في لبنان الذي لم يتبدّل بعد في اتجاه أي تغيير من أيّ نوع كان. يعتقد عيسى الخوري بأنه يفترض القيام بورشة فتح النقاش في الاتفاقيات التجارية التي وقّعها لبنان في العقود الأخيرة لأنها كانت مجحفة، ووصل هذا النقاش إلى مسألة رفع العقوبات عن سوريا. برأيه لا يمكن تطوير الاقتصاد من دون معالجة العجز التجاري من خلال زيادة التصدير والامتناع عن أن يكون تثبيت العملة هو الهدف بدلاً من أن يكون الوسيلة، وإلّا سندخل إلى النفق نفسه الذي دخل إليه مصرف لبنان يوم استعمل أموال المودعين الآتية من الخارج لتمويل استهلاك السلع المستوردة
تعاني الصناعة منذ عقود من مشاكل بنيوية منها ارتفاع كلفة الإنتاج وغياب الحماية عن الإنتاج المحلّي، وهي جزء من نموذج يكره الإنتاج ويفضّل الاستهلاك المستورد. فهل هناك تغيير ما في ظل العهد الجديد؟
- ثقافتنا السائدة في فترة ما بعد الحرب أنّنا لسنا بلداً صناعياً بل نحن تجار. هذا خطأ، فمنذ الفينيقيين كنّا صناعيين. لكن إن لم ننتبه الآن، فسنقع في نفس المأزق الذي وقعنا فيه منذ عشرات السنين.
فأحد الأسباب الأساسية للأزمة المالية هو العجز التجاري المتواصل منذ 15 سنة بمعدّل 15 مليار دولار تقريباً، لأننا نستورد بقيمة 18 مليار دولار، ونصدّر بثلاثة مليارات.
أيضاً نستورد أكثر من 80% من موادنا الغذائية المستهلكة محلياً رغم توافر المياه والأراضي الزراعية الخصبة والشمس.
عجز تجاري كهذا، يعني أن لبنان مضطر أن يجمع 15 مليار دولار من الخارج، ليستورد ما يلزمه من سلع، أي إنها تأتي إلى لبنان ثم تخرج سريعاً منه. والمغتربون هم المصدر الأساسي لهذه الأموال، إذ يرسلون ما بين 6 مليارات دولار و7 مليارات دولار سنوياً، وأيضاً كان يأتي نحو 3 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة لكن معظمها يصبّ في قطاع العقارات، أي إنه قصير الأمر. ويضاف إلى هذين المصدرين، ما بين مليار وملياري دولار من السياحة.
والميزان التجاري هو الجزء الأهم من ميزان المدفوعات، فإذا أظهر الأخير عجزاً، تضطر الدولة إلى إصدار سندات مثل اليوروبوند (الاستدانة بالعملة الأجنبية)، لنتمكن من الاستيراد من الخارج. ه
ذا هو أصل المشكلة، وللخروج منها علينا أن نبدأ بتقليص العجز التجاري. لدينا طريقتان للعمل؛ تقليص الاستيراد إلى جانب إنشاء صناعات بديلة عما هو مستورد لتغطية الحاجات المحلية، أو التركيز على زيادة التصدير، وهذا أمر يمكن القيام به.
فمعدّل ساعات عمل المصانع في لبنان هو 8 ساعات، بينما يبلغ المعدّل نفسه عالمياً من 16 إلى 18 ساعة يومياً، وهذا المعدّل المتدني مرتبط بتصريف الإنتاج، فنحن لا نستطيع التصدير وسوقنا المحلية صغيرة، كما أن كلفة الإنتاج مرتفعة. لذا، ومن دون أي استثمار إضافي يمكننا زيادة الإنتاج في معامل لبنان.
وهذا يتطلب أن تكون لدينا وجهة اقتصادية واضحة تحقيقها مرتبط بقدرة الحكومة على تغيير شكل الاستهلاك. وبالتالي فإن معركتنا الأساسية تكمن في إقناع المؤثّرين بإعطاء الصناعة اللبنانية أهميّة أساسيّة.
يبدو أننا نعيد إنتاج النموذج نفسه من خلال العودة إلى تثبيت سعر الصرف، والاعتماد على الاستهلاك المستورد في ظل كلفة إنتاج مرتفعة، فإلى أي مدى تُعدّ هذه التركيبة مفيدة للصناعة؟
- تثبيت سعر الصرف مضرّ بالصناعة. تقييم هذا الأمر يتم من خلال مراجعة الحساب الجاري مع العجز المالي. ففي حال وجود عجزين فيهما (العجزان التوأمان)، فهذا يعني أنّ العملة ستفقد من قيمتها، ويصبح تثبيتها خطأ.
أما لو سمحنا لسعر الصرف بأن يخسر من قيمته بشكل تدريجي، مثلاً بين 2% و3% سنوياً، أي تصحيح متدرّج، لما جاءت الصدمة كالتي حصلت في عام 2019، ولكان الاقتصاد والمنتجون اعتادوا على هذا التعديل، ولكان صحيّاً أكثر أن نحصل على قدرة تنافسية خاصة بكلفة العمال.
وحتى عندما وقعت الأزمة لم نستفد، فسعر الصرف لا يزال ثابتاً، وهذا يضرّ بالصناعة الوطنية.
الإشكالية تكمن في السياسات الحكومية، فبدلاً من أن يكون سعر الصرف وسيلة للاقتصاد، تحوّل الاقتصاد إلى خدمة سعر الصرف وصار هدفنا ثباته. إذا أردنا عملة ثابتة (بمعنى مستقرّة)، فليس بالضرورة أن تكون مثبتة (بمعنى مدعومة)، فالدولار الأميركي واليورو عملتان ثابتتان لكنهما تخسران، أحداهما أمام الأخرى.
لا شكّ بأن سعر صرف الثابت يحفّز الاستهلاك المستورد، إذ تصبح السلع المستوردة أرخص مقارنة مع السلع المحلية التي تعاني من ارتفاع أكلاف الإنتاج. وسياسة تثبيت العملة خطأ لأنه في سياق استكمالها، غَرَفَ مصرف لبنان من ودائع الناس للحفاظ على التثبيت ولاستكمال الاستيراد من الخارج.
لو كان سعر العملة متحرّكاً لما استطاع الغرف من الودائع ولما كنّا استوردنا أكثر، لأن المجتمع كان سيطوّر التوازن المطلوب والمستهلك لن يستطيع تحمّل كلفة الاستيراد الغالي الثمن بعكس كلفة الشراء من الإنتاج المحلي، وهذا ما كان سيدفع الصناعة إلى التطوّر أكثر.
أمام الصناعة عوائق كثيرة، وقد حدّدنا في لجنة مشتركة مع جمعية الصناعيين 27 نقطة للمتابعة وسنعمل على الحلول من خلال مراسيم أو قرارات أو بالعلاقات مع سائر الوزارات. لكن من الإشكاليات الأساسية كلفة الطاقة في الإنتاج الصناعي، إذ إن معدل كلفة الإنتاج الصناعي لكلّ كيلوواط ساعة هو 27 سنتاً، في مقابل 4 سنتات في مصر و5 سنتات في السعودية فكيف يمكن المنافسة؟ هناك تهريب كثير والمشكلة مع الجمارك بعدم قدرتها على الإمساك بالمعابر الحدودية.
أليس الواقع أنه في ظل البنية الاقتصادية نفسها ستبقى العوائق موجودة مهما نُفّذت من إصلاحات، علماً أن الحكومة موجودة منذ أشهر بعنوان الإصلاحات، ولم نرَ منها شيئاً بعد؟
- على لبنان أن يقول ما هي ميزته التفاضلية، وأين تقع. وعلى الحكومة تجديد ميزاتها التفاضلية، علماً أنه لم تقم أي حكومة بهذه المهمة بعد الحرب، أي أن تحدّد الميزات التفاضلية في كلّ القطاعات (سياحة، صناعة، زراعة...)، إذ لا يمكن دعم كلّ القطاعات الصناعية بل اختيار بعضها حيث نمتلك هذه الميزات وندعمها.
وعلى أساس هذه الميزات توضع السياسة الاقتصادية وتكون مدعومة من السياسة المالية، لا من السياسة النقدية خلافاً لما كان يقوم به مصرف لبنان الذي تخطّى دوره في السياسة النقدية وإدارة النقد. فعلى سبيل المثال، قيل لنا في دراسة ماكينزي، إن هناك أرضاً معينة يُزرع فيها القنب الهندي الممكن تصديره مقابل مئات ملايين الدولارات سنوياً.
وهنا دور وزارة المال في وضع إطار ينظّم زراعة الحشيشة أو القنب الهندي ضمن معايير محدّدة للأغراض الطبية، ثم مساعدة هذه الزراعة والصناعة المرتبطة بها من خلال قروض ميسّرة على 10 سنوات مثلاً بفوائد قليلة، وفي الضمان الاجتماعي، وتسهيل التصدير... هذا مثال عما يجب أن نفعله. التحفيز يفترض أن يأتي من الحكومة بينما التفكير الاستراتيجي يبدأ بتحديد دور لبنان الاقتصادي، ومعرفة مكامن التنافسية اللبنانية.
هنا تجد بعض الصناعات دورها، علماً أن هناك صناعات لا يمكن تخطي كلفتها، لذا نتجه إلى نوعية الصناعة فيها. قبل الحرب وخلال الحرب كنا مركزاً لإنتاج الألبسة في لبنان، والعودة بهذا القطاع الفرعي ممكنة.
عندما خرج الأوروبيون من آسيا، وحاولوا إيجاد مراكز لإنتاج الألبسة، ذهبوا إلى تونس التي لا تملك المواد الأولية الأساسية لصناعة الألبسة. لكنّ لبنان قادر على إعادة صناعة الألبسة، والتخصص في صناعة ألبسة الموضة العالية. لماذا لبنان لا يتحول إلى منصة مصممي الأزياء من اللبنانيين؟
عملياً، تناقشت مع رئيس الحكومة لتشكيل هيئة اقتصادية، وهو في المقابل أكّد استعداده لتشكيلها، إنما لا أعرف موعد انطلاق العمل. هذه المهمة لا تنحصر بوزارة الصناعة فقط. فالأعمدة في تطوير الاقتصاد في لبنان هي وزارة الزراعة والاقتصاد والسياحة، وهذه هي القطاعات الأساسية القادرة على استقطاب أموال إلى لبنان. لا آمل، بل أسعى.
هل تعتقد بأن الاتفاقيات التجارية الخارجية للبنان انعكست سلباً على الصناعة، علماً أن الحكومة لم تناقش هذه المسألة بعد رغم أن الوقت مناسب بعدما توجّهت أميركا نحو إلغاء دور منظمة التجارة العالمية وقواعد التجارة الحرّة؟
- الاتفاقيات التجارية التي وقّعها لبنان، سواء مع الدول الأوروبية أو العربية، مجحفة. لم نستفد منها. في السنوات العشر الأخيرة، نستورد من أوروبا بمعدّل 6.4 مليارات دولار، بينما نصدّر بمعدّل سنوي يبلغ 400 مليون دولار.
هذا خطأ. الأمر نفسه يحصل مع معظم الدول العربية التي نواجه معها معوقات غير جمركية لتبرير لماذا لا تشتري من لبنان، علماً أن لبنان لم يتصرّف وفق مبدأ المعاملة بالمثل.
ولم تظهر أهمية هذه الأخطاء إلا عندما توقّف التدفق المالي من الخارج. ثم بدأ تطوّر آخر يتمثّل في بداية نهاية العولمة التي يترجمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب نحو الاتفاقيات الثنائية مع الدول بما يعنيه ذلك لجهة الخروج من منظمة التجارة العالمية ومن الاتفاقيات التي تُعقد مع المجموعات.
عملياً، أنشأتُ لجنتين لترجمة هذه التغيّرات؛ لجنة لإعادة النظر في كلّ الاتفاقيات المعقودة والتركيز على الاتفاقيات الثنائية. والثانية تتعلق بتحفيز التصدير من خلال تطوير تصدير المنتجات اللبنانية وتطوير العلاقات التجارية، فمثلاً نحن لا نعرف الأمكنة التي نصدّر إليها منتجاتنا، إن كانت تستورد المنتج نفسه من أماكن أخرى.
وفي حال وجود منافسين، علينا إقناع المستوردين في تلك البلاد بأهمية وربحية التعامل معنا، وللوصول إلى هذه النتيجة علينا أن نفهم كيف تستورد الدول من لبنان.
وهناك جزء آخر من الدراسة يتعلق بدول أساسية من المفترض أن تتعامل مع لبنان بشكل مميّز للغاية، مثل أميركا الجنوبية وأفريقيا، وما يساعد في هذه المناطق وجود لبنانيين سيشجعون وصول الصادرات اللبنانية إليها.
برأيك، هل ستكون نتائج رفع العقوبات عن سوريا سلبية أو إيجابية على لبنان؟
- رفع العقوبات عن سوريا سيساعد لبنان مرحلياً في موضوع استجرار الكهرباء والغاز وفي خطوط الترانزيت وتصدير المنتجات اللبنانية الصناعية والزراعية.
لكن ما أُعلن لجهة أن موانئ دبي اتفقت مع سوريا لتطوير مرفأ طرطوس، فيما يمثّل مرفأ حيفا مدخلاً إلى الأردن، قد يعني أن لبنان يمكن أن يفقد دوره كمدخل إلى المشرق العربي. هذا يجب أن ننتبه له، وإلا سنُترك في الخلف.
وهذا ما سيحصل إذا انطلقت ورشة الإعمار في سوريا بإنفاق يصل إلى 400 مليار دولار من دون أن تكون لدينا جهوزية، ولا سيما في الصناعة، فإن ثمة مَن سيستثمر في سوريا.