الحاكم يلوّح بالتدقيق بالمنتفعين من الفوائد المرتفعة: نهاية المصارف «المميّزة»؟

الحاكم يلوّح بالتدقيق بالمنتفعين من الفوائد المرتفعة: نهاية المصارف «المميّزة»؟

image

الحاكم يلوّح بالتدقيق بالمنتفعين من الفوائد المرتفعة: نهاية المصارف «المميّزة»؟
سوق الإقراض في لبنان كان محدوداً لأن الاقتصاد لم يكن ينمو إلا في قطاع الوساطة المالية

محمد وهبة - الاخبار

لم يكن متوقعاً أن يفتتح حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، لقاءاته مع المصارف بالإشارة إلى فئة منهم تلقت معاملة «مميّزة». وهذا التوجّه بدأ في الشكل، إذ دعا سعيد إلى الاجتماع عدداً من المصارف المتوسطة والصغيرة بلا علم مجلس إدارة جمعية المصارف، وكأنها رسالة إلى المصارف الأكبر أنّ زمنهم الذهبي انتهى، متهماً إياهم بشكل مباشر بأن هذه العلاقة منحتهم فوائد مرتفعة (إيرادات كبيرة) ما يوجب إجراء مراجعة لما حصل.

كانت المصارف تصنّف نفسها في ثلاث مجموعات: مصارف «ألفا» التي لديها قاعدة ودائع تفوق الـ2 مليار دولار، ومصارف «بيتا» التي تملك قاعدة ودائع تفوق الـ500 مليون دولار وتقلّ عن 2 مليار دولار، ومصارف «غاما» التي لديها ودائع تفوق الـ200 مليون دولار وتقلّ عن الـ500 مليون دولار، ومصارف «دلتا» التي لديها قاعدة ودائع تقلّ عن الـ200 مليون دولار.

كان تصنيفاً معلناً ومكشوفاً للجميع، وهو أشبه بتراتبية هيكلية ضمن اللوبي المصرفي الواسع حيث يسعى الجميع إلى أن يكون من مجموعة «ألفا».

ولم تكن هذه التراتبية تستحوذ على أي نقاش باستثناء تلك الاتهامات التي كانت توجهها المصارف المتوسطة والصغيرة لعدد محدود من المصارف الأكبر بأنها كانت تتلقى معاملة تمييزية من الحاكم السابق رياض سلامة تتيح لها الهيمنة على القرار المالي والمصرفي، إذ دائماً ما كانت هناك مجموعة من ثلاثة أو أربعة أو في بعض الأحيان خمسة مصارف كبرى، تسيطر على القرار وتفرض على الجميع اتباعها؛ إنها الفئة «المميزة» الذي كشف عنها سعيد أخيراً في لقائه الأخير مع جمعية المصارف.

سعيد قال للمصارف: «بعض المصارف الكبيرة استفادت من علاقة مميزة مع مصرف لبنان واستفادت من الفوائد المرتفعة، وهذا الأمر يجب أن يخضع للمراجعة... وأنا لا أريد أن يكون لدي سوق محدود من أربعة أو خمسة مصارف».

عبارته هذه، تركت انطباعاً لدى المصارف الكبيرة بأنها باتت تحت المجهر، وأن ما قيل سابقاً عن إن السوق المحلية لم تعد تتسع إلا لعدد محدود من المصارف، لا يقع ضمن أهدافه، أي إنه سيرفض أن يخضع لأي ابتزاز من هذه المصارف حتى لا يكرّر التجربة السابقة التي خاضها رياض سلامة مع هذه المصارف الكبرى. لا بل إن إشارته إلى إجراء المراجعة، تعني أنه يجب أن تخضع هذه المصارف لمزيد من التدقيق في عملياتها، ولا سيما لجهة ما حصل في عام 2016، أي عام «الهندسات».

فمن المعروف أن الهندسة الأولى والأكبر التي نفذها سلامة بسرية تامة وبأكبر حجم وأرباح (تجاوزت الـ1.6مليار دولار) كانت مع بنك عودة، ثم فتح سلامة الباب أمام مجموعة من المصارف الأخرى مثل بنك ميد، بلوم بنك، بنك بيروت، سوسييتيه جنرال بنك، بنك بيبلوس، بنك الاعتماد اللبناني، فرنسبنك، وسواها. وفي حينه أيضاً، أعطى سلامة حصّة كبيرة من هذه الهندسات لعدد محدود من المصارف الصغيرة والمتوسطة كان على رأسهم انتركونتيننتال بنك وبنك بيروت والبلاد العربية وسرادار بنك وغيرها.

ما يرغب فيه سعيد، هو ألا يخضع للابتزاز من المصارف الكبيرة، أو أن يُتّهم بأي شكل من الأشكال بأن مصرف لبنان ينسج علاقات مميزة مع هذه المصارف بهدف السيطرة على السوق وإبقاء آليات الضبط مقيّدة له كما كان يفعل سلامة، بل على العكس يترك انطباعاً بأنه يسعى إلى تعزيز المنافسة، بمعزل عما إذا كان فعلاً يسعى إلى المحاسبة.

فما حصل أيام سلامة هو أن حاجته إلى قيادة السوق مع المصارف الأكبر، أنه كان يقود سياسة نقدية - مصرفية لديها الكثير من الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي سياسة فئوية تمنح الكثير للقلّة وتأخذ الكثير من كل الآخرين.

وهذا بالفعل ما حدث. فسوق الإقراض في لبنان كان محدوداً لأن الاقتصاد لم يكن ينمو إلا في قطاع الوساطة المالية التي كانت تجتذب الودائع بالعملات الأجنبية إليها، ثم تمتصّ العملات منها وتحوّلها إلى مصرف لبنان الذي يعيد توزيعها بين تسديد الفوائد والاستيراد، وسواها. أما الودائع، فهي كانت على الوقت بالعملة الأجنبية، لكنها بالفعل كانت عبارة عن ليرات تدهورت قيمتها فور الانهيار المصرفي والنقدي.

وآلية الاستحواذ على العملات الأجنبية كانت تتم عبر إقراض الدولة بشقيها: مصرف لبنان، الخزينة العامة، والإقراض هدفه تسديد خدمات الديون وتمويل حاجات الاستيراد إلى الاستهلاك، وبالتالي فإن النموّ الفعلي في الاقتصاد كان يتركّز هناك وليس في قطاعات الاقتصاد المنتجة، لذا لم يكن سوق الإقراض هو الهدف، بل سوق الاستدانة والاستهلاك.

وعلى هذا المنوال، كان التنافس بين المصارف هو قدرتها على جذب الأموال ومدى قربها من رياض سلامة. والأخير لم يكن «بخيلاً»، بل كان يغدق على هذه المصارف بالأرباح الوفيرة لإبقاء آلية الجذب وإعادة التدوير والتوزيع فعالة. وهذا الأمر لا يتعلق بالتنافس التجاري، إنما بالعلاقات المميزة التي نسجها مع عدد من المصارف نالت حصّة وفيرة من كل العمليات المدرّة للأرباح وحصلت على قدرات واسعة في شراء الممتلكات الخارجية والتوسّع وفتح الفروع والتكنولوجيا... كانت هذه العلاقة النفعية تقود السوق وسائر المصارف.

وهذا لا يعني أن المصارف الأصغر معفاة، بل هي كانت ترغب بذلك ولكن قربها من سلامة لم يكن كافياً. إذا اعتمدنا التصنيف المصرفي، أي مصارف «ألفا» و«بيتا» و«غاما» و«دلتا»، فإن الحجم الأكبر من «الانكشاف على الدولة» أو «الانكشاف على الدين السيادي»، كما ورد في تقرير بنك داتا عن عام 2005 كان من نصيب مصارف «ألفا» التي تنكشف أيضاً على الدين السيادي بالعملة الأجنبية بنسبة 49% من مجموع الودائع بالعملة الأجنبية.

وفي السنوات التي سبقت بداية الأزمة في 2016، كانت المصارف بدأت تقلص استثماراتها في الدين السيادي الصادر عن الخزينة العامة، وتركّز على استثماراتها في شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان بالعملتين الدولار والليرة لأن مصرف لبنان بدأ يمنح المصارف فوائد أعلى بنقطتين مئويتين على توظيفاتها لديه، وهو في المقابل يستثمر الأموال التي يقترضها من المصارف، في سندات الخزينة اللبنانية بفوائد أدنى، ويراكم الخسائر في ميزانيته بطرق محاسبية احتيالية.

فعلى سبيل المثال، وبحسب أرقام بنك داتا، فإنه في عام 2015 كانت مجموعة من خمسة مصارف (عودة، فرنسبنك، بيبلوس، بنك بيروت، بلوم بنك) تسيطر على 76% من الدين السيادي، أي الدين الصادر عن الخزينة العامة والدين الصادر عن مصرف لبنان، وفي تلك السنة كان حجم سندات الخزينة يساوي 1.4 حجم شهادات الإيداع الصادرة عن مصرف لبنان.

وفي السنوات التالية أصبح حجم سندات الخزينة متقارباً مع حجم شهادات الإيداع من دون أي زيادات فعلية في حجم الودائع، ثم بدأت نسب توظيفات المصارف في الدين السيادي تزداد بشكل كبير نسبة إلى مجموع الودائع.

فعلى سبيل المثال، كان بنك عودة يستثمر 20% من ودائعه في الدين السيادي في 2015، لكن مع تراكم الهندسات المالية ارتفعت نسبة الودائع من الدين السيادي إلى 34% في 2018 رغم انخفاض مجموع ودائعه بنحو ملياري دولار. وبالتوازي، ارتفعت ودائع عدد من المصارف المنافسة، مثل بيبلوس وفرنسبنك وبنك بيروت، ظلّت نسبة الودائع الموظّفة في الدين السيادي كبيرة مثل 42% لبنك بيروت، و34% لفرنسبنك، و54% لبنك ميد... الواقع، أن الهندسات بقيادة رياض سلامة وبنك عودة، مثّلت فرصة مثالية لتحفيز ارتفاع أسعار الفائدة على الليرة وعلى الدولار والتي بلغت 20% في السوق من أجل «سرقة» الودائع وتوظيفها لدى مصرف لبنان للاستفادة من الفرصة النادرة في التربّح الطائل منها.

إذاً، الانتقال من تصنيفات مصارف «ألفا» و«بيتا» و«غاما» و«دلتا»، إلى المصارف «المميزة»، خطوة تعكس واقع ما يحصل الآن في السوق.

فما عاد هناك أي داع لأي تصنيف من هذا النوع لأن القطاع المصرفي فقد دوره الأساسي في أن يكون «النموذج» في المنطقة، وقد لفظ القطاع آخر أنفاسه مع النهاية الفعلية لقانون السرية المصرفية.

وبالتالي لم تعد لديه عوامل جذب للأموال، كما إنه ليس قادراً على تقديم أي تمويل محلي ليس لسبب مرتبط بنقص التمويل، بل في أن الحاجة إلى التمويل ليست كبيرة اقتصاد محدود لا تنمو قطاعاته، وفيه الكثير من المخاطر، وهو يمثّل سوقاً صغير الحجم نسبة إلى عدد السكان. أما تمويل الاستهلاك فيحتاج إلى دفق متواصل من العملات الأجنبية كون لبنان يستورد أكثر من 80% من السلع التي يستهلكها. إذاً، لم تعد هناك أي ضرورة إلى تصنيفات مصرفية من نوع «مميزة» أو«ألفا» أو «بيتا» أو سواها، وهذا ما يجب أن ينسحب على المعاملة التمييزية لبعض المصارف وعلى أن التنافس بينها يجب أن يقود السوق لا أن تقوده مجموعة من المصارف تتربح من الدين السيادي الممول بالدين العام.