كنز هونان 1000 طن ذهب ... اكتشاف يُعيد رسم خريطة الثروات في الصين
يمنح قطاع التعدين الصيني دفعة قوية نحو مزيد من التوسع والتنوع
باولا عطية - "النهار"
في اكتشاف جيولوجي غير مسبوق، أعلنت الصين العثور على أحد أكبر مكامن الذهب غير المستغلّة في العالم، وذلك في أعماق تلال مقاطعة هونان (وسط البلاد). ويُقدّر الاحتياطي المكتشف بأكثر من ألف طن متريّ من الذهب، تُعادل قيمته السوقية الحالية نحو 78 مليار يورو، مما يجعله من أضخم الاكتشافات في التاريخ الحديث. وقد تمكنت الفرق الجيولوجية حتى الآن من تحديد أكثر من أربعين عرقًا ذهبيًا في طبقات الصخور الصلبة، التي تمتد إلى أعماق تصل إلى ثلاثة آلاف متر، وهو ما يعكس حجم التقدّم التكنولوجي الذي وصلت إليه الصين في مجال التنقيب واستخراج المعادن.
يأتي هذا الاكتشاف ليعزز موقع الصين على خريطة الثروات المعدنية العالمية، وليمنح قطاع التعدين الصيني دفعة قوية نحو مزيد من التوسع والتنوع، في وقت تشهد فيه الأسواق الدولية اضطرابات اقتصادية ومالية متصاعدة. فالصين، التي تُعد من أكبر الدول إنتاجًا للمعادن على مستوى العالم، تمتلك أصلاً ثروات ضخمة تشمل الفحم، الذي تحتل فيه المرتبة الأولى عالميًا من حيث الإنتاج والاستهلاك، إضافة إلى الحديد، الزنك، النحاس، ومجموعة الأتربة النادرة التي تهيمن على أكثر من 60% من إنتاجها العالمي؛ وهي عناصر تدخل في الصناعات المتقدمة مثل الإلكترونيات والتكنولوجيا النظيفة والدفاع. لكن الذهب كان يُمثل حتى وقت قريب عنصراً ضعيفًا نسبيًا في هذه المعادلة، بسبب محدودية الاحتياطيات المحلية مقارنة بحجم الاستهلاك الوطني، مما دفع الصين إلى تعزيز جهودها في الاستكشاف والتوسع في شراء الذهب من الأسواق الخارجية خلال العقدين الماضيين.
في هذا الإطار يوّضح استراتيجي الأسواق المالية جاد حريري في حديثه لـ"النهار" أن "اكتشافات المناجم الكبرى تؤثر عادة على الأسواق المالية العالمية، ولا سيما على أسعار الذهب. وعلى الرغم من أن تأثير هذه الاكتشافات قد يكون محدودًا في بعض الأحيان، فإن العوامل الرئيسية التي تحرّك سوق الذهب تظلّ مرتبطة بالأوضاع الجيوسياسية والاقتصادية. أما بالنسبة لهذا المنجم بالتحديد، فهو يُعدّ اكتشافًا ذا أهمية كبيرة".
وإذا جرى استخراج الذهب الموجود فيه، يقول حريري، "فمن المتوقع أن يزداد الطلب على الذهب لأغراض الصناعة والمجوهرات وغيرها، مما قد يؤدي لاحقًا إلى ارتفاع في الأسعار خلال الفترة المقبلة".
تكمن أهمية هذا الاكتشاف بالنسبة للصين في أبعاده الاقتصادية والاستراتيجية العميقة، إذ يعزّز من قدرة البلاد على تحقيق اكتفاء نسبيّ من الذهب، ويوفّر لها موردًا طبيعيًا بالغ الأهمية في وقت تزداد فيه التقلّبات في الأسواق العالمية. كما أن الذهب يُشكّل أداة تحوّط فعّالة تستخدمها بكين لمواجهة التقلّبات في قيمة الدولار الأميركي، خاصة في ظلّ تصاعد التوترات الجيوسياسية مع واشنطن. وتسعى الصين منذ سنوات إلى تقليص اعتمادها على الدولار في احتياطياتها النقدية، وتعزيز مكانة عملتها الوطنية "اليوان" في النظام المالي العالمي؛ والذهب هنا يشكل ركيزة استراتيجية لدعم هذه التوجهات، خصوصًا مع تزايد استخدام اليوان في التبادل التجاري وتسعير الطاقة مع عدد من دول العالم.
كذلك يحمل الاكتشاف أهمية داخلية كبرى، إذ يُمكن أن يساهم في إنعاش قطاع التعدين الصيني وتوفير آلاف الوظائف، إلى جانب تحفيز الاستثمارات المحلية في البنية التحتية الصناعية المرتبطة باستخراج الذهب وتكريره وتصنيعه. ويأتي هذا في وقت تحتاج فيه الصين إلى أدوات اقتصادية قوية لمواجهة التحديات الناتجة عن أزمة قطاع العقارات وتباطؤ النمو الاقتصادي وتراجع الطلب الخارجي.
جدير بالذكر أن الصين اتبعت خلال السنوات الأخيرة سياسة منهجية لتكديس الذهب، حيث زاد البنك المركزي الصيني من مشترياته بشكل مستمر، حتى تجاوزت الاحتياطيات الرسمية حاجز الـ 2260 طنًا، وسط توقعات بأن الرقم الحقيقي قد يكون أعلى بكثير، كما شجعت الدولة شركاتها المملوكة للحكومة على الاستثمار في مناجم الذهب حول العالم، ونجحت بالفعل في الاستحواذ على عدد من المناجم الاستراتيجية في أفريقيا وآسيا الوسطى وأميركا الجنوبية، مما يعكس إدراكها المبكر لأهمية الذهب في المرحلة المقبلة من التنافس الاقتصادي الدولي.
في المجمل، يُعدّ هذا الاكتشاف في هونان نقلة نوعية في سجل الثروات الطبيعية الصينية، ويعكس بوضوح أن الصين لا تسعى فقط إلى الاكتفاء الاقتصادي، بل إلى إعادة رسم ملامح النظام المالي العالمي انطلاقًا من مواردها السيادية. وإذا ما استثمرت بكين هذا الاكتشاف الضخم بطريقة استراتيجية، فقد يشكل نقطة تحول ليس فقط في قطاع التعدين، بل في موازين القوة الاقتصادية بين الشرق والغرب.