شروط إعادة البناء: المستثمرون يخافون إسرائيل وتقاعس القضاء
يجب العمل على القطاع المالي بحيث نتمكّن من إنتاج 12 مليار دولار
خضر حسان - المدن
قيل الكثير عن ضرورة الإصلاح في لبنان، وتشعَّبَت سبل تحقيقه. ورغم وضوح أسباب الأزمة وآليات حلّها، لا يزال الوصول إلى برّ الأمان صعباً، ذلك أنّ التحديات تكثر مع مرور الوقت في ظلّ التحوّلات السياسية الإقليمية والدولية، ما يعرقل استعادة لبنان دوره. وما يزيد الصعوبات، هو التطوّر التكنولوجي والرقمي الذي يضع لبنان في امتحان تقني وسياسي لجهة الإمكانات المفترض تأمينها، فضلاً عن قرار التوافق الداخلي وعدم العرقلة.
ومع ذلك يبدو أنّ الحكومة متفائلة، وتستند في تفاؤلها على الإنجازات التي حقّقتها خلال نحو 100 يوم من ولادتها، وإلى رغبة المستثمرين بالعودة إلى لبنان. لكن لدى هؤلاء مخاوف يريدون تبديدها عبر ضمان الأمن وتأمين مسار قانوني يكفل تسهيل الاستثمار وتوسيع أفق الأعمال وضمان حلّ النزاعات. ويرى هؤلاء أنّه ما إن تتبدّد تلك المخاوف، فإنّ طريق إعادة بناء لبنان ستكون مفتوحة.
اللّحاق بتحوّلات المنطقة
عودة المستثمرين إلى لبنان ترتبط بتوسيع نشاطهم في المنطقة، بدءاً من دول الخليج مروراً بالتحضير للاستثمارات في سوريا وصولاً إلى لبنان استناداً إلى ما يمكن تأمينه من أرضية خصبة للاستثمار.
هذا الأمر كان محطّ نقاش في بيروت ضمن مؤتمر نظّمه تنظيم المعهد القانوني للمحكّمين CIARB بعنوان "إعادة بناء لبنان: أطر الاستثمار، آفاق الأعمال، وحلّ النزاعات"، جَمَعَ ممثلين عن الجهات الدولية والمحلية الرئيسية المعنيّة بإعادة بناء البُنية التحتيّة في لبنان.
وفي المؤتمر الذي ناقشَ الإصلاحات السياسية والمؤسساتية اللازمة لإطلاق الاستثمار واستعادة الثقة، رأت مديرة مركز مالكوم كير - كارنيغي للشرق الأوسط، مهى يحيى، أنّه "بعد هشاشة اقتصادية وحرب إسرائيلية، تواجه الدولة تحديات لإعادة توجيه مستقبلها". وتطرّقت يحيى خلال جلسة مناقشة "إعادة بناء إطار الاستثمار في لبنان: خريطة طريق للعام 2031"، إلى "زخم الاستثمارات في المنطقة والذي يمثّل لحظة تحوّل عالمية لها تداعياتها على دول المنطقة". وتتمثّل ذروة التحوّلات بـ"المبادرات الاستثمارية الخليجية التي رافقت زيارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب إلى قطر والسعودية، وانطوت الاستثمارات على أكثر من 2 تريليون دولار، طالت مجالات النفط والذكاء الاصطناعي". وتطرح هذه التحوّلات "تساؤلات حول قدرة لبنان على إجراء الإصلاحات التي تمكّنه من اللحاق بالتحوّلات".
وللبدء بالتماس نتائج الإصلاحات التي تسير بها الحكومة، رأى وزير الاقتصاد عامر البساط أنّه "للوصول إلى أهدافنا علينا أولاً ملء ثغرة التصدير"، وهذا يعني "مضاعفة الإنتاج" وبالتالي "نحتاج إلى استثمارات كبيرة". ولاجتذاب تلك الاستثمارات "علينا إزالة القيود أمام النشاط الاقتصادي، ما يخوّلنا الوصول إلى ما نريده".
وبحسب ما قاله البساط في المؤتمر "يجب العمل على القطاع المالي، بحيث نتمكّن من إنتاج 12 مليار دولار. ولا يمكننا الإنتاج بدون قطاع مصرفي متين. ولذلك علينا وضع قانون مصرفي حديث ورفع السرية المصرفية". وهناك ورشة عمل يجب أن تطال القطاع العام، فإنّ "أموالنا العامة ليست مستدامة. ولذلك علينا وضع إطار ضريبي وإطار أموال عامة يسمح بتسديد الديون، وفي الوقت نفسه نؤكّد أنّه يمكن إدارة الإنفاق العام بشكل مستدام".
كلفة إنتاجنا بحسب البساط "مرتفعة وليست تنافسية. فكيف يمكن للمنتِج العمل بتكلفة كهرباء تصل إلى 25 سنتاً للكيلووات، في حين أنّ سعر الكيلواوت في مصر 0.06 سنتاً؟. ولذلك، لا نستطيع الإنتاج ما لم نستثمر في الكهرباء". كما احتلّت السياسات الاجتماعية حيّزاً من كلام البساط، إذ أشار إلى ضرورة "إجراء إصلاحات اجتماعية وضرورة اعتماد الرقمنة في إعادة بناء الدولة، وهذا يستدعي الاهتمام بالبيانات والاحصاءات، فصناعة القرار مقوَّضة نظراً لغياب البيانات والمعلومات".
بين إسرائيل والقضاء اللبناني
تحديد الحكومة لخياراتها والمسار الإصلاحي الذي يجب اتّباعه والبدء بتنفيذ بعض الخطوات المطلوبة، أمرّ إيجابيّ لكنه ليس حاسماً في إخراج البلد من محنته. إذ لا يزال أمامنا عقبتان أساسيّتان تسهمان في نفور المستثمرين. العقبة الأولى هي استمرار الخطر الأمني الإسرائيلي. فالعدوّ لا يزال يحتلّ أجزاء من لبنان ويواصل اعتداءاته ويلوّح مراراً بالتصعيد، ما يجعل لبنان بيئة غير آمنة للاستثمار.
ولطمأنة المستثمرين، أكّد رئيس الحكومة نواف سلام أنّ لبنان "ملتزم بتنفيذ القرارات الدولية وتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار. ونبذل جهوداً دبلوماسية لضمان وقف الاعتداءات الإسرائيلية وتحقيق الانسحاب من لبنان". وقال سلام أنّ "استعادة السيادة الكاملة هو أمر جوهري لأنها تضمن أن يعيش كل لبنان بأمان تحت سلطة واحدة وثقة كاملة بالدولة. كما أنّها أساسية لاستعادة ثقة المجتمع الدولي وتشجيع المستثمرين والزوّار على العودة. فلبنان المستقر والآمن شرط أساسي لجذب الاستثمارات والفرص". (راجع المدن)
تذليل العقبة الأمنية، يُبقى العقبة الداخلية المتمثّلة بالقانون. فالمستثمرون يبحثون عن "ضمانات قانونية. فكل حجر سنبنيه سيكون بلا جدوى بدون سيادة القانون وضمانات بعدم الفساد ووجود آليات لتسوية النزاعات"، وفق ما قاله أستاذ التحكيم الدولي والقانون الدولي الخاص في جامعة القاهرة، محمد عبد الوهاب، الذي أكّد في كلمته على أنّ "إعادة البناء لا تبدأ بالحجارة بل بالقانون والعدالة والكرامة الإنسانية".
وأشار عبد الوهاب إلى أنّ "الإصلاح عملية أساسية وليست رفاهية. ولذلك، علينا الاستثمار في الابتكار القانوني". مذكّراً بأنّ لبنان "احتلّ المرتبة 108 من أصل 124 بحسب مؤشّر سيادة القانون".
واستناداً لأهمية الضمانات القانونية، أعلن عبد الوهاب "وضع إمكانيات معهد CIARB في خدمة لبنان. ومن خلال الخبرات القانونية، يمكن تدريب المحامين اللبنانيين وعقد فعاليات لتبادل الأفكار". ويشدّد المعهد بنظر عبد الوهاب على أهمية التحكيم في إعادة البناء "فإعادة البناء تبدأ من خلال القضاء واستقلاليته".
لم تغب الحكومة اللبنانية عن أهمية ما أثاره عبد الوهاب حول استقلالية القضاء. إذ أكّد سلام أنّ "استقلال القضاء ركيزة أساسية لمكافحة الفساد، وسبيلاً لجعل بيروت مركزاً للتحكيم الدولي". وبرأي سلام "يختار الأطراف بلد التحكيم لأنهم يتطلّعون إلى منتدى عادل ومحايد ومستقل. لذلك، نسعى لأن تكون بيروت مركزاً للتحكيم، ولأن نعيد تعريف لبنان من بلد تنشأ فيه النزاعات إلى بلد تُحَل فيه النزاعات سلمياً".
والتطرّق للإصلاحات ولأهمية استقلالية القضاء وتمكُّن لبنان من التحوَّل إلى مركز للتحكيم بعد استكمال الإصلاحات القضائية، هو مسار لن يكتمل في حال وقفَ القضاء على أعتاب المؤسسات العامة ولم يدخلها لينظّف المسار الإداري داخلها.
وفي هذا السياق، أكّد رئيس المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان مازن سويد، أنّ "هناكَ قصوراً في طريقة عمل المؤسسات العامة. واعتبر سويد أنّ "حربنا هي ضمن المؤسسات والإدارات والوزارات ومع الموظّفين. وعلينا بالتالي إقناع المستثمرين بآلية عمل المؤسسات العامة، لأن الآلية الحالية لا يستوعبها العقل، خصوصاً لجهة آلية المراسلات بين الإدارات العامة. فالمستثمرون لا يستطيون تحمّل البطء في عمل الإدارة".
بصورة غير مباشرة، وَضَعَ المستثمرون من خلال هذا المنتدى، شروطهم للاستثمار في لبنان. وإذا كانت معضلة الخطر الإسرائيلي ترتبط بمعادلات إقليمية ودولية، إلاّ أنّ لبنان يمكنه عدم انتظار تلك المعادلات، بل يجدر به تسريع عملية الإصلاح الداخلي وتحديداً ما يتعلّق بالفساد والقضاء والمصارف والإدارة العامة، ليكون جاهزاً لملاقاة الانفراج الدولي والانسحاب الإسرائيلي. لأنّ زوال الخطر الإسرائيلي وبقاء الفساد الداخلي، يضع الاستثمارات أمام مخاطر كبيرة التُمِسَت نتائجها منذ العام 2019، ولا يبدو أنّ المستثمرين يريدون تكرار التجربة.