جردة حساب العصور الأميركية في لبنان

جردة حساب العصور الأميركية في لبنان

image

جردة حساب العصور الأميركية في لبنان
يجب أن تكون لكل شريك محظوظ بسياسة الولايات المتحدة الرَيبة 

عبدالله ريشا - الجمهورية
طبعت الولايات المتحدة الأميركية مجريات الأحداث في لبنان منذ الاستقلال حتى يومنا هذا، ومن المفيد استذكار المحطات الأساسية في جدول الحساب بين اللبنانيِّين والولايات المتحدة بالأخص، بعد وصف غالبية المحللين المرحلة الراهنة بالعصر الأميركي. وقد تبرهن من خلال هذه الأحداث أنّ العصر الذي يبدأ أميركياً ينتهي غير أميركي. إنّه جدول الأولويات وأسلوب النفس القصير.

يقول دايفيد هايل في كتابه «الدبلوماسية الأميركية تجاه لبنان»، إنّ واشنطن اعتبرت لبنان هامشياً بالنسبة إلى المصالح الوطنية الأميركية، غير أنّ الإهمال الأميركي بعد حرب 1973، كان بين العوامل التي أدّت إلى الحرب الأهلية في لبنان.
 
وقد استبق هايل هذا النص بآخر يُعلّل فيه أسباب السقوط، كما يلي: طلب فرنجية مساعدة الأميركيِّين، فأتت مساعدة بسيطة للجيش. وما إن انتهت أحداث أيلول الأسود في الأردن، حتى انقلبت أولويات الرئيس نيكسون إلى السلام في فييتنام، التهدئة مع موسكو، والانفتاح على الصين.

عام 1982، بدأ العصر الأميركي نظرياً عند توغل الجيش الإسرائيلي على مشارف بيروت، وعملياً عشية مجزرة صبرا وشاتيلا، عندما قرّرت الولايات المتحدة إرسال المارينز. لم يَدم العصر أكثر من سنتَين، لينسحب الجيش الأميركي من لبنان عام 1984، بعد تفجير مقر المارينز في بيروت.

وقد ربط دايفيد هايل هذا التراجع بالتدخّل الإيراني، كما ورد في كتابه. حققت إيران نجاحاً كبيراً في الثمانينات، إذ تمكنت من عرقلة الأهداف الأميركية، وهزمت صفقة السلام بين لبنان وإسرائيل.

عصر أميركي آخر بدأ عالمياً عام 1989 مع سقوط حائط برلين، وداخلياً مع توقيع اتفاق الطائف. بدأت التحاليل تتوالى عن مرحلة جديدة أميركية بامتياز، لم يردها الأميركيّون كذلك، فانتقلوا سريعاً من شراكة مع سوريا إلى تلزيم كامل عام 1992. إثر مؤتمر مدريد للسلام، لتبدأ رسمياً مع الرئيس كلينتون مرحلة عُرفت تحت عنوان «سوريا أولاً».

هو التلزيم الثاني بعد التلزيم الأول عام 1976، مع استراتيجية كيسنجر المرتكزة على فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل. يومها غيّر الأميركيّون سياسة اللامبالاة، إلى قطع الطريق على النفوذ السوفياتي من خلال اعتمادهم على جيش حافظ الأسد.

عام 2005، لاحت في الأفق رياح شرق أوسط جديد، عصفت في لبنان والمنطقة، لتبدأ مرحلة أميركية قوامها محافظون جدد لا شريك لهم في الحُكم والإدارة، ولتنسحب بعدها الإدارة الأميركية تدريجاً بعد مشهديه حرب تموز 2006، التي عزّزت وضعية «حزب الله» في الداخل اللبناني.

ومع بدء الثورة السورية، انتقلت إدارة أوباما من المطالبة بإسقاط الأسد ودعم المعارضة عام 2010، إلى تعديل سياستها بعد مجزرة الغوطة وصفقة الغاز عام 2013، لتصبح بعد ذلك معتمدة على محاربة «داعش» مع الإبقاء على الأسد ابتداءً من العام 2014.

تفسيراتٌ كثيرةٌ لمسار خاضع إلى تعديلات تفرضها البراغماتية المتأثرة بموازين القوى، تماماً كما جرت الأمور مع بدء الثورة في لبنان عام 2019، موازاة مع ثورة أخرى في العراق. ثورتان في اتجاه واحد: إسقاط الحكومات الموالية لطهران من خلال أزمات مالية، وتظاهرات ميدانية.

طال أمد الأزمتَين، وبتقييم أجرته وكالة الاستخبارات الأميركية، تبيّن من خلاله أنّ سقوط الدولة في لبنان بشكل نهائي سيُعرِّض مصالح الأميركيِّين، ويُقوّي «حزب الله» الذي عرف كيف يتماشى مع العواصف المفتعلة.

عام 2021، تركّز الدعم الأميركي على الجيش اللبناني فقط خوفاً من انهيار آخر المؤسسات الرسمية الضامنة للاستقرار، ليترك الثوار من دون غطاء استراتيجي، مع الإبقاء على دعم معنوي محدود.

عصر أميركي جديد بدأ مع إعلان وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024، بعد حرب الإسناد الأخيرة التي قلبت الموازين الداخلية مع وقف التنفيذ.

8 أشهر، وربما نشهد اليوم بداية انقلاب أميركي على الاستراتيجية الأميركية المعلنة. إنّه زمن الاتفاق النووي الثاني الذي قد يقلب المشهد، ويكتب التاريخ حلقة جديدة من العصور الأميركية في لبنان.

هي قصة الاستراتيجيات المعلّقة التي لا تعرف بلوغ أهدافها الكبيرة، وغالباً ما تسقط، وتُسقط معها حلفاء الولايات المتحدة والمراهنين عليها.

وأختم مقتبساً من كتاب دايفيد هايل، الذي قال في المضمار نفسه: «يمكن لأي لاعب في الشرق الأوسط يعاني من سياسة الولايات المتحدة أن يراهن على تبدّل هذه السياسة كل 4 سنوات، وفي بعض الأحيان أقل من ذلك، وهذه مدة غير طويلة في منطقة تتميّز بقادة يتولّون السلطة مدى الحياة، وتسودها معايير عمرها أكثر من ألف سنة.

على نحو مماثل، يجب أن تكون لكل شريك محظوظ بسياسة الولايات المتحدة الرَيبة نفسها. هذا الواقع هو جزء من ثمن الديمقراطية، لكن أيضاً ثمن مقاربة غير محترفة بالعمق للسياسة الخارجية الأميركية في اتخاذ قرارات لا يمكنها مواصلة سياسة متسقة في الشرق الأوسط».