"عاصي الرحباني كان زلمي"
بقلم: جهاد يوسف شاهين
بعيدا عن هموم الحرب العاصفة وانشغال البال، وعلى مرمى أيام من ذكرى رحيله .. وبالعامية : "عاصي الرحباني كان زلمي" . كان يعرف كلاماً آخر خلف الكلام: "قبل ما تروحي معو روحي معو" جملة بسيطة وردت بوصية أب لابنته في يوم زفافها، فلو أجرينا تشريحا لهذه الجملة لوجدنا فيها بحر من الوصايا العميقة .. قبل ما تروحي معو روحي معو، اذهبي إلى حناياه سافري بروحك إلى روحه، وتعرَّفي على اختلاجاتها، انفذي إلى مكمن فرحه وبحر حزنه، تسلقي الصباحات في عينيه، ارحلي معه إلى الأفق البعيد وهو يحيِّ العصافير في حقله، أو في ارتحاله في أفق الأيام .. صلي صلاته ورنمي معه للكبير.
"السعادة ما بتعيش حد الجوع بصيبها بالعين" جملة وردت في فيلم سفر برلك قالها أحد المقاومين لمقاوم آخر يعرب عن خيبة أمله بحلمه بالسعادة، الجوع ليس شخصا يحْسُد، ولا هو عين تصيب وترمي الأسد. الجوع قهر وحزن واحساس بالحرمان .. والجوع ركود الفكر عن العطاء .. غياب الإنسانية وسقوط الحيلة للسمو ...
"شو جاي تقول؟ خلف الكلام شو في؟ لا من جوَّا عم بتصرِّخ لا عيونك حاملين البرق، لا فيك بحر عميهدر وشجر عميتكسَّر .. روح من هون وضلَّك رايح لتخلص الدني" .. هي الحبببة التي جرَّها الخذلان والخيانة .. وها هو خطيبها المفترض أنه الحلم والأمان الذي أول من خانها وتركها وحيدة تعاني الظلمة والوحدة والوحشة، عاد إليها متملقاً يطلب ودّها رياءً. إن الحب قبل أن يلفظ على الشفاه يكون صراخاً في الداخل وبروق ورعود تسكن الأعين .. الحب وهو يُلفظ على الشفاه يكون صوت بحر متلاطم الموج يهدر في القلب .. شجر يتكسَّر باكياً راجياً وصادقا.
الحب قداسة المشاعر وليس كلمة سطحية مبتذلة ورخيصة.
.. عاصي الرحباني كان يعرف حدود الصوت والنغمات. الرائعة نوال الكك التي شاركت بمعظم أعمال الأخوين رحباني أخبرتني بهذه الحادثة التي جرت لها مع عاصي، تقول لي: عندما كنا نحي حفلاتنا في خارج لبنان وبالطبع كنا نقيم في أوتيلات، كان عاصي يضع لنا نظاما صارما : كل واحد بدو يخرج يجب أن يخبر و يترك عنوان المكان الذاهب إليه، وكان ممنوعا مغادرة الأوتيل قبل العاشرة صباحاً و البقاء خارجاً إلى ما بعد السابعة مساءً، وكان يطلب منا أن نبقى داخل غرفنا أثناء الليل وممنوعٌ التنقل بين الغرف، وأن نقفل الأبواب على أنفسنا. وذات ليلة كنا فيها بمعرض دمشق الدولي طرق بابي الأستاذ أنطوان (أنطوان خليفه) وقال لي من خلف الباب "الأستاذ عاصي بدو ياكي" ارتعدتْ مفاصلي ولم تعد قدماي تعينني على الوقوف، ورحت أضرب أخماسا بأسداس وأحاول أن أجمع ذاكرتي بحثاً عن خطأ ربما ارتكبته، وإلا لماذا يرسل بطلبي في مثل هذا الوقت.
لملمت ذاتي وخرجت ومشيت خلف أنطوان في ممر الأوتيل بخطوات مترددة والرعب ينهش قلبي ويشلّ تفكيري وأنا أبحث جاهدة عن سبب استدعاء عاصي لي. طرق أنطوان الباب ثم فتحه ودخل، دلفت أنا وراءه. كان عاصي الرحباني جالسا خلف مكتبه ويضع إحدى يديه على الطاولة واليد الأخرى على صدره كعادته يطرق بأنامله لحن خفي. قال لي بعد أن أخذ يتأمل طولي وكأنه يشاهدني لأول مرة: "قعدي يا ككاية" وأشار إلى كرسي أمام مكتبه. وأردفت نوال الكك تقول: كم كان يحب أن يناديني بالككاية. ثم تابع بصوته الرخيم الدافء: ككاية، قولي هذه الكلمات ولا تزيدي ولا تنقصي: "سنة تنين تلاتة مرقو عا موت مدلج". قلت الكلمات التي قالها عاصي بصوت خفيف مرتجف، طلب مني أن أقولها بصوت أعلى، أعدت الكلامات وكان الخوف قد ذهب مني ليقيني من أن عاصي لم يرسل بطلبي من أجل خطأ ارتكبته، ما أن انتهيت حتى توجه عاصي إلى أنطوان وقال له: "نوال حتكون حنة الساحلنية" وكانت مسرحية جبال الصوان وكان الدور المفصلي والمحوري لنبية تنبأت برجعة(غربة) إبنة البطل مدلج، وكان الدور البطولي الأول لي إلى جانب فيروز ونصري شمس الدين.
وعاصي الرحباني كان يسمع بأذن قلبه نغمات خلف نغمات الشجر والرياح والأمطار، فأغنية فيروز التحفة (رجعت في المساء) التي تعتبر من أجمل الأغاني شعراً وموسيقى كتبها ولحنها منصور الرحباني لوحده، سمععها عاصي ( والكلام لمنصور في إحدى المقابلات) سكت عاصي ولم يعلِّق بشيء، قلت له: ماذا لم تعجبك؟! قال لي عاصي: لماذا أنهيت لحنها مجتزءاً قلت له: لكنها منتهية. قال لي أضفف فقط كلمة وينزل المساء ثم أعْقِبها بنقرة وترية ومعدنية. وكانت تلك الكلمة والنقرة الجمال المبهم الغامض للرَّاجع في المساء وللأغنية ...
على مرمى أيام من ذكرى رحيل عاصي الرحباني .. عاصي كان زلمي ...