مؤتمر الاصلاح الانتخابي يفضح تلعثم السلطة
الفضيحة الكبرى هي في اللفّ والدوران حول موضوع الميغاسنترز
نزيه درويش - المدن
عقدت الجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات (لادي)، يوم الجمعة الماضي، مؤتمرًا حول إصلاح قانون الانتخابات النيابية برعاية رئيس مجلس الوزراء ممثّلا بنائبه الوزير طارق متري وبحضور ومشاركة عدد من النواب والاختصاصيين والناشطين، إلى جانب سفيرة الاتحاد الأوروبي وممثلين لمؤسسات دولية معنية بالانتخابات. طرحت فيه الجمعية للنقاش مسائل إصلاحية عدّة، أبرزها دور هيئة الإشراف على الانتخابات، واقترحت استبدالها بهيئة مستقلّة ذات صلاحيات واسعة وجهاز إداري دائم، ومسألة استحداث مراكز اقتراع كبرى "ميغاسنترز" لحلّ مسألة التصويت في مكان السكن خارج مكان القيد الأصلي. إلى ضرورة إقرار كوتا تضمن تمثيل النساء بشكل أفضل، إضافة إلى اقتراح تعديل بعض الإجراءات الانتخابية والعناية بتدريب موظفي الانتخابات، من أجل تعزيز الشفافية والشمولية والممارسات الانتخابية الفضلى.
فضلت الجمعية اقتصار جلسات مؤتمرها على قضايا تقنية قابلة للتحقيق في المدى الزمني المُتاح. وحسنًا فعلَت. فقد بات واضحًا، على بُعد أقل من سنة عن موعد الانتخابات، أن مجلس النواب الحالي عاجزٌ عن الاتفاق سوى على تعديلات الضرورة.
مشكورةٌ الجمعية على جهدها ومثابرتها في طرح ومناصرة مسألة الاصلاح الانتخابي دائمًا وأبدًا وبعناد، في كل المناسبات، من غير كللٍ أو ملل. ومشكورٌ الاتحاد الأوروبي على مساندته المتواصلة للإصلاحات وللإنتخابات، إن في دعمه المباشر للمبادرات المدنية أو لوزارة الداخلية والبلديات وهيئة الإشراف على الانتخابات (بواسطة برنامج الامم المتحدة الانمائي).
التباين مع الحكومة
ولكن الشكر غير موصول، مع الأسف، للمسؤولين المعنيين في الدولة (حكومة ومجلس نواب). وقد برز تباينٌ عميق بين مَن مثّل هؤلاء وبين معظم الحاضرين "المدنيين" الذين صُدموا من "تفاعل" السادة نواب الأمة الايجابي شكلاً، ولكن المتحفّظ والسلبي مضمونًا. وقد شذّ عنهم النائب ميشال الدويهي وهو عضو سابق في (لادي). كما فوجئوا بـ"حيادية" ممثّل رئيس الحكومة في المؤتمر، الذي وإن بدا مناصرًا للإصلاح بشدّة إلا أنه بدا أيضًا وكأنه يدفع الكرة بالكامل تقريبًا إلى مجلس النواب. وكأنه ممثلٌ لإحدى الجمعيات المدنية تناشد وتطالب وتناصر، وليس لحكومة تبنّت الاصلاح في برنامج عملها وبيانها الوزاري، تحت خطاب قَسَم رئيس جمهورية، ذهبَ إلى حد التعهّد صراحةً بأن "يدفع مع الحكومات المقبلة باتجاه تطوير قوانين الانتخابات بما يعزز فرص تداول السلطة والتمثيل الصحيح والشفافية والمحاسبة"، ونيابةً عن رئيس حكومة مناصر مزمن للإصلاح، ونائب رئيس لجنة الخبراء الذين شكلّوا ما قد يُعتبر أهم لجنة لصياغة قانون جديد للانتخاب في تاريخ الجمهورية. عنيتُ "الهيئة الوطنية المستقلة لقانون الانتخاب" برئاسة الوزير فؤاد بطرس التي أطلَقت، بعد دراسات وأبحاث وندوات وجلسات عمل واستقدام خبُرات من الخارج، مشروعها عام 2006. وهو المشروع الذي يُعَدُّ إلى اليوم أبًا وعرّابًا للمشاريع الإصلاحية الانتخابية كافة، التي بمجملها ما زالت تنهل من مواده واقتراحاته.
مَع إعلانه أن مجلس الوزراء قد شكّل لجنة وزارية لبحث التعديلات على القانون الحالي، إلا أن تكرار السيد نائب رئيس الحكومة لعبارات مثل ".. ستكون محل دراسة وتفكّر في اللجنة الوزارية (تعديل صلاحيات هيئة الإشراف)" و"نأمل أن يسهم هذا المنتدى في نشر الوعي بأهمية رفع العوائق (أمام الميغاسنترز)" و"نأمل أن يسهم مؤتمركم في التفكّر حول هذه المسألة الحيوية (كوتا نسائية)". الى أخره، يعني أن لا رغبة حقيقية للحكومة سوى في المناصرة من بعيد. قد يكون مفهومًا لا بل مقبولا عدم تبنّي الحكومة لتعديلات "سياسية" سيفتح عليها باب ورشة كبيرة لا ترى أن الوقت والظرف مناسب لها. كمثل تغيير حدود الدوائر أو الصوت التفضيلي أو احتساب العتَبَة الانتخابية، أو حتى مثلاً المواد المتعلّقة بنواب الاغتراب واقتراع الخارج مع أن هذه المسألة تحتّم تعديل القانون كيفما جاء القرار النهائي للنواب بهذا الخصوص، تاركةً هذه القضايا لمجلس النواب. ولكن من المستغرَب أن تضيّع هذه الحكومة بالذات فرصة إقران شعاراتها بالعمل، والضغط والدفع لتمرير تعديلات إجرائية من شأنها أن ترفع مستوى العملية الانتخابية مرّة لكل المرّات إلى ما نطمح وتطمح هي بالتأكيد إليه، تماشيًا مع خطاب القَسَم والبيان الوزاري. فتخفيض سن الاقتراع والترشّح مثلا (يتطلب تعديلا دستوريًا بسيطًا) وتعزيز دور ومهام هيئة الإشراف، وبالتالي تصليب الرقابة على الإنفاق والإعلام الانتخابيَين وتغليظ العقوبات على المخالفين، وإدراج كوتا نسائية في اللوائح وإقرار مراكز اقتراع كبرى ميغاسنترز، كل ذلك يصبّ في تحسين تكافؤ الفرص أمام المرشحين ورفع نِسَب مشاركة الناخبين، ولا يضرّ فعليًا بمصالح الأحزاب والتيارات الكبرى الممسكة اليوم بالبرلمان، ومعظمها على أي حال يزعم موافقتَه عليها.
مزايدات وكلام معسول
ممثلو الأحزاب في المؤتمر أطنبوا، في حضور سفيرة الاتحاد الأوروبي وممثلي هيئات ووكالات أجنبية (وقد يكون بسبب ذلك)، في الكلام المعسول الذي يبطّن المزيد من الشيء نفسه، وهو ما تعوّد عليه اللبنانيون. مزايدات في إعطاء النساء حق التمثيل يذهب أحيانًا ليلامس الغزل، من دون الموافقة على أي خطوة عملية في هذا الاتجاه. وحتى الأحزاب التي تُجزي "نساءها" الوعود المعسولة، تتلعثم حين تطرح الكوتا في المقاعد وليس في الترشيح، أو أقلّه حين تُقترَح إجراءات جدّية من شأنها تعزيز مشاركة المرأة. الأمر نفسه بالنسبة للشباب "الجيل الصاعد وأمل المستقبل" الخ.. وكذلك الأمر لذوي الحاجات الخاصة والمعوّقين وكبار السن، وغيرها من قضايا الاصلاح التي طُرحت.
السيدة مديرة الشؤون السياسية في وزارة الداخلية، بصدقها وعفويتها وضيق ذات يدها، أضاءت هي بنفسها على تقصير الإدارة أحيانًا وعَزَته إلى التأخر في إقرار القوانين والدعوة إلى الانتخابات، وفي التأخر في إقرار موازنة الانتخابات ما ينعكس تأخيرًا واختصارًا في التحضيرات. بدت وكأنها لاعبٌ شبه وحيد في إدارةٍ شبه فارغة من الموارد البشرية والخبرات (لولا دعم الاتحاد الاوروبي) تقوم بما في وسعها من دون مخطّط مهام تفصيلي رئيسي (Master-plan) يُحاكي العملية الانتخابية كدورة كاملة من التحضيرات (على مدى 4 سنوات) وليس كحدَث يوم واحد ينتهي بإقفال الصناديق أو بإعلان النتائج. التثقيف والوعي والتواصل الانتخابي بقي في آخر سلّم اهتمامات الوزارة وهيئة الإشراف. تدريب موظّفي الانتخاب أيضًا يبدو جليًا بعد كل انتخابات أنه بحاجة إلى إعادة نظر جذرية في مفهومه ومبادئه وإجراءاته (هنا الفشل موصولٌ إلى برامج الدعم الدولية أيضًا).
أما مشاكل هيئة الإشراف على الانتخابات والرقابة على الحملات والانفاق والاعلام الانتخابيَين فقد حازت على مزايدات الجميع! من رئيسها المُمدَّد له منذ 2018 إلى النواب، وصولاً حتى إلى ممثلي الاعلام المرئي (والاعلام نفسه إلى جانب غالبية المرشحين هو موضوع خروقات وشكاوى). الرئيس القاضي عبد الملك، اشتكى من عدم وجود مقرّ دائم للهيئة ومن ميزانيتها الضئيلة والمتأخرة وتحكّم الوزارة بها، وبالتالي من عدم وجود جهاز إداري دائم لها، واشتكى من ضعف صلاحياتها في القانون. كلّ الحاضرين أثنوا على شكواه وتابعوا حياتهم كالمعتاد
الميغاسنترز إلزام وليس خياراً
ولكنّ الفضيحة الكبرى هي في اللفّ والدوران حول موضوع الميغاسنترز. لنضع الأمر في نصابه الأصلي الذي ربّما لم توفّق (لادي) تمامًا في توضيحه للسيد الوزير وللسادة النواب. فقد ذكرَ قانون الانتخاب النافذ 44/2017 في أسبابه الموجبة " فتح مشروع القانون الباب أمام تمكين الناخب من الاقتراع في مكان سكنه عبر اعتماد البطاقة الالكترونية"، وأورد في المادة 84 منه، تحت عنوان "في البطاقة الالكترونية الممغنطة"، أن "على الحكومة، بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين بناء على اقتراح الوزير، اتخاذ الإجراءات الآيلة إلى اعتماد البطاقة الالكترونية الممغنطة في العملية الانتخابية المقبلة، وأن تقترح على مجلس النواب التعديلات اللازمة على هذا القانون التي يقتضيها اعتماد البطاقة الالكترونية الممغنطة."
ما يعني أمرين هامّين: الأول التأكيد على مبدأ تمكين الناخب من الاقتراع في مكان سكنه فورًا (متأخرًا دورة انتخابية كاملة بحيث كان يجب أن يُطبّق في انتخابات 2022 لولا تعديل المجلس السابق لذلك في اللحظات الأخيرة). والثاني أنه لتحقيق ذلك اقترح المشرّع استخدام البطاقة الالكترونية والحكومة مُجبرةٌ على إصدار مرسوم بهذا الخصوص.
استفاق الجميع اليوم على أن لاستخدام البطاقة معوّقات كبيرة تقنية ومادية قد لا تُذلَّل في غضون سنة من الآن. من هنا جاءت المُطالبات، عن حق، باعتماد مراكز اقتراع كبرى "ميغاسنترز" مع تسجيل مُسبق يسمح بتطبيق روحية القانون الذي يحتاج إلى تعديلٍ في جميع الأحوال كما رأينا. علمًا أن الميغاسنترز طُبّقَت بنجاح في انتخابات الخارج في دورتين انتخابيتين من دون عوائق أو مشاكل تُذكر وبكلفة متدنية نسبيًا. ولا شيء يمنع تطبيقها في مناطق الكثافة السكانية الكبيرة داخل لبنان.
واجب الحكومة إذًا وواجب مجلس النواب التصدّي لهذه المسألة لتمكين الناخب من الاقتراع في مكان سكنه. أنه ليس خيارًا كما حاولت السلطة تصويره. بل تطبيقٌ للقوانين لطالما أكّد العهد (رئيسًا وحكومة) في جميع المناسبات احترامه لها مدخلًا لا بدّ منه لقيام الدولة. تأتأ النواب الحاضرون موافقة وترحيبًا ومن ثم ما لبثت "لكنَّ" أن أطلّت برأسها.. بعضهم ضد التسجيل المُسبَق وبعضهم مع البطاقة وليس مع الميغاسنترز وبعضهم سينتظر إلى حين طرح المشروع كاملًا... أما السيّد نائب رئيس الوزراء فهو مع نشر الوعي بأهمية رفع العوائق من أمامها!
لا خيار أمام السلطة: إما ميغاسنترز أو بطاقة الكترونية، أو .. نسف القانون النافذ وللحق الذي كرّسه في أسبابه الموجبة. استطاع العهد القديم (رئاسةً وحكومةً ومجلس نواب) أن يفعلها ويطيّر هذا الحق قبل انتخابات 2022 فهل يكرّرها العهد الجديد للبنان؟