الدولة المساهم الإيجابي الوحيد للاقتصاد في 2024

الدولة المساهم الإيجابي الوحيد للاقتصاد في 2024

image

الدولة المساهم الإيجابي الوحيد للاقتصاد في 2024
النموذج اللبناني من المفترض أن يكون قائماً على المكوّنات الأخرى المتصلة بالقطاع الخاص

ماهر سلامة - الاخبار

في عام 2024، لم يكن ما حرّك عجلة الاقتصاد اللبناني سوى الإنفاق الحكومي. هذا الكلام ورد حرفياً في مرصد لبنان الاقتصادي الصادر دوراً عن البنك الدولي، والذي يشير إلى أنه باستثناء الإنفاق العام، فإن كل مكوّنات الاقتصاد لناحية الطلب أسهمت بشكل سلبي في النموّ الحقيقي للاقتصاد في عام 2024.

وهذا الأمر يحطّم السردية التي تقول إن القطاع الخاص هو المحرّك الأساسي للنموّ بعد الأزمة، علماً أن إنفاق الحكومة ليس استثمارياً في الوقت الحالي، فكيف تكون آفاق النموّ إذا تحوّل هذا الإنفاق من تشغيلي إلى استثماري في مجالات حيوية مثل الكهرباء والاتصالات؟

يبيّن التقرير أن الإنفاق الحكومي، على ضآلته، كان المساهم الوحيد الإيجابي في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لعام 2024، فيما دفعت مكونات الطلب الأخرى، كالاستهلاك الخاص والاستثمار الخاص والصادرات، النموّ إلى الأسفل وأسهمت في انكماش الناتج المحلي الحقيقي.

الغريب في الأمر أن النموذج اللبناني من المفترض أن يكون قائماً على المكوّنات الأخرى المتصلة بالقطاع الخاص، إلا أن هذا الاعتماد أثبت فشله، كما هو واضح من أرقام البنك الدولي. فالاستهلاك المحلي كان له الأثر الأكبر على انكماش الاقتصاد، إذ إن قيمة الاستهلاك الحقيقية (مع الأخذ في الحسبان عوامل التضخّم) انخفضت بنسبة 5.5%، في حين أن صافي الصادرات انكمش بنسبة 2.1% والاستثمارات الخاصّة انخفضت بنسبة 0.1%. أما الإنفاق الحكومي الحقيقي، فقد ارتفع بنسبة 0.7%.

واللافت في هذا المجال، أن هذا الإنفاق الإيجابي تزامن مع تسجيل فائض مالي اسمي في الموازنة العامّة بنسبة 0.5% من الناتج المحلي.

إذ أتى هذا الفائض نتيجة تقييد الإنفاق الحكومي. ما يعني أن الإنفاق الحكومي كان العامل الوحيد الذي أسهم في نموّ الناتج الحقيقي رغم أن الحكومة حاولت تضييقه إلى أقصى حدود. بل إن جزءاً كبيراً من هذا «الفائض» يعود إلى عدم قدرة الدولة على الدفع، والتأخّر في سداد المستحقات، لا سيما تجاه القطاع العام، والاعتماد على إجراءات استثنائية لسد الفراغ التشريعي والمالي.

وهذا الأمر لا يعكس تصرّفاً تقوم به دولة تستثمر في مستقبلها، بل إنها إدارة أزمة بأدوات تصريف أعمال، أو ما أصبح يُعرف بسياسة «الترقيع».

فالبنك الدولي نفسه يشير إلى أن الميزانية المعتمدة لا تعكس الحاجات الواقعية لما بعد النزاع، ولا تتضمن إنفاقاً رأسمالياً جدياً يمكن أن يدفع باتجاه التعافي أو النموّ.

فما أُنفِق فعلياً يذهب بمعظمه إلى رواتب وأجور معدّلة جزئياً، وخدمات أساسية متآكلة، وتحويلات جزئية تفتقر إلى الاستدامة. في المقابل القطاعات الأساسية، التي تُشكّل البنى التحتية للاقتصاد، لا تحظى بأي اهتمام سواء كان الأمر متعلقاً بالبنى الإنمائية، مثل الكهرباء والنقل، أو بالخدمات الأساسية للحياة مثل الصحة والتعليم وغيرها.

الخطاب السائد في لبنان، منذ عقود، يروّج أنّ القطاع الخاص هو القاطرة الوحيدة القادرة على تحريك الاقتصاد، فيما تظهر أرقام 2024 عكس ذلك تماماً. فالاستهلاك الخاص تراجع بشدة، والاستثمار شبه متوقف، والصادرات انكمشت، وكل هذا أتى بفعل ظروف الحرب، ما تبقى هو وجود القدرة المتآكلة للدولة على الإنفاق في الاقتصاد، على محدوديتها الشديدة.

هذه المفارقة تفترض إعادة درس الواقع لجهة تلك السردية التي دائماً ما روّجت لنموذج اقتصادي يقوم على اعتبار الدولة عبئاً كبيراً على الاقتصاد والقطاع الخاص هو الحلّ، من دون النظر إلى سياق الانهيار الهيكلي للاقتصاد الذي جعل القطاع الخاص نفسه عاجزاً عن المبادرة.

صحيح أن الاقتصاد لا يُبنى بالإنفاق الحكومي وحده، ولكن الأصح أيضاً أن غيابه التام، أو وجوده على شكل تحويلات إدارية بلا رؤية، لا يصنع نمواً.

ولعلّ الدرس الأساسي من أرقام هذا العام أن لبنان لا يمكنه الخروج من أزمته اعتماداً على سرديات مشحونة بتعليمات المؤسسات النيوليبرالية التي تأتي إلينا لتلعب دوراً إدارياً، بل عبر سياسات إنفاق عامة ذكية، وعادلة، ومستدامة، تستهدف إعادة بناء مؤسسات الدولة وتحفيز الاقتصاد الحقيقي، لا الاكتفاء بترقيع عجز مالي بوصفات قصيرة النفس.