"ورقة باراك" على "طاولة النار".. الرئاسات الثلاث تكتب الرد.. وقراءة بين السطور

"ورقة باراك" على "طاولة النار".. الرئاسات الثلاث تكتب الرد.. وقراءة بين السطور

image

الانباء- داود رمال

تعيش الساحة السياسية اللبنانية على وقع اجتماعات مغلقة ومكثفة للجنة ثلاثية تمثل الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية، رئاسة البرلمان، ورئاسة الحكومة. هذه اللجنة تعمل بصمت وبدقة على بلورة رد رسمي لبناني على الورقة التي حملها الموفد الأميركي الخاص توماس باراك، والتي تقترح خريطة طريق لإنهاء التصعيد العسكري بين لبنان وإسرائيل عبر آلية «الخطوة ـ خطوة» تنتهي بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، وانسحاب إسرائيل من الأراضي التي لاتزال تحتلها جنوبا، ووقف الغارات والهجمات الإسرائيلية، مقابل التزام «الحزب» بالتخلي التدريجي عن سلاحه.

 
المفارقة أن مضمون هذه الورقة الأميركية، وإن لم يحمل صيغة الإكراه أو الإنذار، إلا أنه يتضمن مهلة زمنية ضاغطة تنتهي بنهاية السنة الحالية، ما يضع لبنان أمام اختبار سيادي صعب، ويقحم الطرف المعني، أي «الحزب» في مواجهة غير مألوفة مع ثوابته العقائدية والاستراتيجية.

فمن حيث الشكل، تتعامل الدولة اللبنانية عبر اللجنة الثلاثية مع الورقة الأميركية كوثيقة قابلة للنقاش وليس كإملاء، وتسعى إلى الرد عليها من خلال معادلة دقيقة تراعي ثلاثة عوامل أساسية:

٭ أولا، الحفاظ على الثوابت السيادية والدستورية اللبنانية ومرجعية الدولة الحصرية في قرار الحرب والسلم.

٭ ثانيا، احترام التوازنات الداخلية المعقدة لاسيما موقع «الحزب» في المعادلة السياسية اللبنانية.

٭ ثالثا، انتزاع ضمانات دولية جدية تلزم إسرائيل بتطبيق قرار وقف الأعمال العدائية أولا قبل الحديث عن أي خطوات لبنانية مقابلة.

لكن ما يزيد المشهد تعقيدا هو الانفتاح الجزئي من قبل «الطرف المعني» على النقاش، وهذا ما لم يكن متاحا في السابق. فوفق مصادر مطلعة على ما يجري داخل اللجنة، فإن «الحزب»، على رغم عدم تقديمه جوابا نهائيا، بدأ بمناقشة داخلية «صعبة تتناول احتمال التعاطي التدريجي مع مسألة السلاح، وربط أي خطوة بضمانات واضحة، ليس فقط من حيث وقف الغارات الإسرائيلية، بل أيضا عبر آلية أممية تضمن الإفراج عن أسراه ووقف الانتهاكات المتكررة للقرار 1701، بما في ذلك التحليق المكثف للطائرات فوق الأراضي اللبنانية».


ويدرك «الطرف المعني» بحسب تلك المصادر، أن النقاش هذه المرة لا يجري من موقع الضغط العسكري فقط، بل من موقع سياسي دولي أوسع، إذ إن الجانب الأميركي يربط بين التهدئة على جبهة الجنوب وبين انخراط لبنان في مسار إعادة الإعمار والحصول على مساعدات خارجية مشروطة. وفي هذا السياق، لم تخف واشنطن موقفها من أن أي جهد لإعادة بناء المناطق التي دمرتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة، لن يبصر النور ما لم يتم حسم مسألة السلاح بشكل نهائي.

من جهتها، تسابق اللجنة الثلاثية اللبنانية الزمن لصوغ رد يمسك العصا من المنتصف. وهي تعتمد في مقاربتها على ورقة تقنية أعدها الجيش اللبناني تتضمن خطوات متدرجة، تبدأ بوقف الهجمات الإسرائيلية والانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، يليها الإفراج عن الأسرى، ليفتح الباب لاحقا أمام نقاش داخلي سيادي حول تنظيم السلاح داخل الدولة، بما يتناسب مع الدستور ويحفظ وحدة القرار الوطني.

لكن التحدي الأكبر الذي تواجهه اللجنة لا يكمن فقط في صياغة الرد، بل في إدارة صراع الإرادات بين من يعتبر أن الوقت حان لتوحيد السلاح تحت راية الدولة، وبين من يرى أن ما يطرح هو «وصفة مموهة للتجريد من السلاح خدمة لإسرائيل»، في ظل عدم وجود ضمانات حقيقية تكفل توقف الاعتداءات الإسرائيلية حتى بعد تسليم السلاح.

التسريبات حول الرد اللبناني تشير إلى أنه سيركز على مبدأ التدرج، انطلاقا من أن الطرف المعتدي هو إسرائيل، وأن «الحزب» كان قد انسحب سابقا من جنوب الليطاني التزاما بالقرار 1701. وبالتالي فإن الرد سيتضمن تأكيدا على «تطبيق متواز ومتزامن» لأي خطوات لاحقة، أي أن لبنان لن يبدأ بتنفيذ أي بند قبل أن تقدم إسرائيل على خطوات ملموسة، أولها الانسحاب من الأراضي المحتلة ووقف الغارات والاغتيالات.


في المقابل، يدرك الجانب الأميركي، وفقا لتصريحات نقلت عن باراك، أن الوقت ليس مفتوحا إلى ما لا نهاية، محذرا من أن فرصة التسوية الحالية قد تكون الأخيرة قبل الانزلاق إلى مواجهة أوسع يصعب ضبطها. وهذا ما دفعه إلى حث المسؤولين اللبنانيين على اغتنام اللحظة السياسية، في ظل الانخراط الإقليمي والدولي في مساعي التهدئة، لاسيما بعد دخول واشنطن مباشرة على خط التصعيد عبر ضرب المفاعلات النووية الإيرانية وفرض معادلة جديدة في الإقليم.

«الطرف المعني» في الداخل لا يزال يتريث في إعلان موقف نهائي، إذ يتعامل مع المبادرة الأميركية بحذر بالغ. فهو لا يريد أن يتهم بتفويت فرصة تاريخية لإنقاذ لبنان من الحرب والدمار، لكنه في الوقت عينه، لا يستطيع المجازفة بالتفريط بسلاح يعتبره «ضمانة استراتيجية» في وجه إسرائيل، ما لم تكن هناك تسوية شاملة تتجاوز مجرد تسليم السلاح مقابل وعود سياسية واقتصادية.

وفي المحصلة، يقف لبنان عند مفترق خطير يتطلب إدارة دقيقة للتوازنات: فإما أن تنجح اللجنة الثلاثية في بلورة رد وطني موحد يراعي خصوصية الوضع الداخلي ويمنح لبنان فرصة الدخول في تسوية تحمي الجنوب وتخرج البلاد من دوامة الحرب والانهيار، وإما أن يضيع الوقت في لعبة الشروط والشروط المضادة، لتعود المنطقة إلى منطق النار بعد أن ضاعت فرصة الكلام.