لبنان على طريق الدولة الدستورية: هل آن أوان الانتقال من النصوص إلى التنفيذ؟

لبنان على طريق الدولة الدستورية: هل آن أوان الانتقال من النصوص إلى التنفيذ؟

image

لبنان على طريق الدولة الدستورية: هل آن أوان الانتقال من النصوص إلى التنفيذ؟
قانون الانتخابات الحالي يُعيد إنتاج القوى نفسها عبر تغذية العصبيات واللعب على الانقسام

 

داود رمال – "أخبار اليوم"

لم يكن اتفاق الطائف مجرد تسوية سياسية لإنهاء الحرب اللبنانية، بل أتى محمّلاً برؤية إصلاحية واضحة تهدف إلى وضع الدولة على سكة التحول نحو النظام المدني، حيث تسود قيم المواطنة والدستور والقانون، لا منطق المحاصصة والطائفية. غير أن ما حصل خلال العقود الثلاثة الماضية هو ضرب ممنهج لهذه الرؤية، ما أدى إلى انحراف الحكم عن مساره الدستوري، وتكريس دولة الطوائف بدل بناء دولة المواطنين.

المادة 95 من الدستور، المعدّلة بموجب الطائف، كانت بمثابة حجر الأساس لهذا المسار الإصلاحي. نصّت بوضوح على وجوب إلغاء الطائفية السياسية، بشكل تدريجي ومدروس، تبدأ بإنشاء "هيئة وطنية" تتولى هذه المهمة. لكن تجاهل إنشاء الهيئة حتى اليوم، رغم كل ما حمله من التزامات وطنية، يعكس حجم الانفصام بين النصوص الدستورية والممارسات السياسية التي أبقت النظام أسير التوازنات الطائفية.

اليوم، لا مفر من العودة إلى هذا النص المؤسس، وتفعيله عبر اقتراح قانون لإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، شرط أن تضم شخصيات غير طائفية، ذات توجهات وطنية واضحة، وصلاحيات عملية لتطوير النظام نحو الدولة المدنية، لا أن تكون هيئة شكلية لإسكات المطالب الإصلاحية.

كما لا يمكن إغفال دور قانون الانتخابات في تكريس الطائفية السياسية. فالقانون بصيغته الحالية يُعيد إنتاج القوى نفسها، عبر تغذية العصبيات الطائفية واللعب على الانقسام العمودي. ما نحتاجه هو قانون جديد يتماشى مع روحية المادة 95، يوفّق موقتاً بين التمثيل الطائفي والوطني، قبل أن يُفسح المجال أمام تمثيل وطني خالص تدريجياً. قانون يضبط الإنفاق الانتخابي الطائفي، ويمنع التحريض المذهبي، ويمنح الناخب فرصة الاختيار على أساس البرامج لا الانتماء المذهبي.

الطريق إلى دولة القانون يمر أيضاً بإعادة الاعتبار للمجلس الدستوري، الذي جُرّد من إحدى أهم صلاحياته: تفسير الدستور. هذا الحق الذي نصّ عليه الطائف للمجلس، انتُزع منه وأُعطي لمجلس النواب، في أول مخالفة صارخة للدستور بعد الحرب. من هنا، تبدو الحاجة ملحّة لإقرار مشروع قانون دستوري يُعيد صلاحية التفسير للمجلس الدستوري، ضماناً لمرجعية دستورية مستقلة لا تخضع للمصالح السياسية.

ولا يكتمل المسار من دون إصلاحات متوازية في عدة اتجاهات: تعديل قانون اللامركزية الإدارية الموسعة لتفعيل التنمية المتوازنة دون الوقوع في فخ الفدرالية الطائفية، تعزيز استقلالية القضاء بوصفه حجر الزاوية في أي دولة قانون، وفتح النقاش الجدّي حول قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية يؤسس لمجتمع يعترف بالفرد كمواطن، لا كمجرد تابع لطائفة.

ما نحتاجه اليوم ليس مزيداً من النقاش النظري، بل إرادة سياسية جدية للعبور من النصوص إلى التنفيذ. فلبنان لن يُبنى من جديد إلا على قاعدة واضحة: دستور فوق الجميع، قانون لا يُستثنى منه أحد، ومواطنة تُعلِي الفرد على الطائفة. فهل يبدأ هذا المسار اليوم؟ أم نظل أسرى نظام هش لا يُنتج سوى مزيد من الأزمات؟