مُمارسات غير قانونيّة ترتكب باسم "الجمال"... تجارة مُربح!
الطب براء من مُنتحلي الصفة
ندى عبد الرزاق - الديار
مرة جديدة نعيد فتح هذا الملف الأسود، لا لأنه جديد، بل لأنه لم يُقفل يوما، بل نُقِل من درجٍ إلى آخر، ومن عهدة وزير إلى آخر، ليدخل دوامة الإنكار والتسويف، ثم ليختفي في الظل. ملف المراكز التجميلية غير المرخصة، والممارسات غير القانونية التي تُرتكب باسم "الجمال"، هو في الحقيقة ملف إجرامي بامتياز. مئات العيادات التي تنشط تحت عناوين براقة، بينما الواقع يُخفي وراءه تجارة مربحة تُدار خارج القانون، وغالبا خارج الطب.
وفي هذا الصدد، تعرض "الديار" صورا حصرية لمواطنة تشوهت بفعل عمل تجميلي، حيث تظهر حجم الكارثة في هذا القطاع، الذي تحول الى ساحة مفتوحة للعبث بوجوه الناس وأجسادهم، مقابل حفنة من الدولارات.
ولا مناص من القول ان وسائل التواصل الاجتماعي، التي يفترض أن تكون مساحة توعية ومشاركة، اضحت معرض للتزييف التجميلي غير القانوني: صور "قبل وبعد"، منشورات تُخفي خلفها صفقات تجميل سرية، توصيات مبطّنة، ومحتوى مموّل يروّج لإجراءات يجب أن تُجرى في غرف عمليات معقمة، لا في صالونات أو عيادات بلا ترخيص. هذه المنشورات تُعدّ قانونيا شكلًا من أشكال الإعلان الطبي الممنوع، وتستوجب تحركًا عاجلًا من الجهات الرقابية، لأن التهاون في ضبطها هو مشاركة غير مباشرة في الجريمة.
منتحلو صفة
في جميع الأحوال، ليس سرًا أن عشرات الأشخاص الذين يزاولون "مهنة التجميل" في لبنان ليسوا أطباء، ولا يحملون أي شهادات علمية أو تراخيص طبية. بل إن منتحلي الصفات باتوا ظاهرة مستشرية. واللافت أن بعضهم يحظى بمتابعة واسعة، ويعتمد على "شهرة" مواقع التواصل لتثبيت حضوره، مستغلين ثُغرًا قانونية، وتواطؤ بعض المؤثرين، وتراخي السلطة.
أما الأخطر، فهو ما كشفته مصادر "الديار" حول توقيف أحد هؤلاء الأشخاص في منطقة قريطم – الحمرا، بعد شكاوى عديدة من أشخاص تعرضوا لما يُشبه "الرهن الجماعي" في عيادته، حيث جرى تشويه وجوههم وسرقة ثقتهم بأنفسهم، دون أي مسوّغ طبي أو مهني. وقد تبين أن هذا المركز لا يحمل أي ترخيص، ويعمل منذ سنوات تحت غطاء سياسي، كما هو حال عشرات المراكز الأخرى التي ترتبط مباشرة بأسماء شخصيات سياسية، أو تُدار من قبل زوجاتهم أو أبنائهم، فتتحصّن خلف نفوذ يحول دون إقفالها أو محاسبتها.
وخلاصة القول ان التجميل ليس ترفا، بل إجراء طبي دقيق، قد ينقذ حياة في بعض الحالات، أو يحسّن من وظيفة جسدية (كما في حالة استخدام البوتكس لعلاج الصداع النصفي أو التعرق المفرط)، لكن حين يصبح وسيلة استغلال، ويُستخدم لتسويق معايير جمالية مشوّهة، ويمارَس دون ترخيص علمي وقانوني، فإنه يمسي خطرا على الصحة العامة وعلى الكرامة الإنسانية معا. ولأننا أمام ملف يمسّ حياة الإنسان وسلامته الجسدية والنفسية، لا بدّ من التعامل معه كأولوية وطنية وصحية، وليس كإشكالية بين اختصاصات أو كواجهة لصالونات النفوذ السياسي.
لبنان في طليعة الدول تجميليا... لكن!
ولتوضيح ما ذُكر، تشير الاختصاصية في الامراض الجلدية والطب التجميلي الدكتورة غادة قصير لـ "الديار"، إلى أن "لبنان يُعد من الدول الرائدة في مجال التجميل، سواء من حيث عدد العمليات التجميلية التي تُجرى فيه، أو بناء على المستوى العلمي المتقدّم الذي يتمتع به أطباؤنا المتخصصون في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، إذا كانت نسبة استخدام حقن البوتكس في الخارج تبلغ نحو 1%، فإنها تصل في لبنان إلى 10%. ويعود ذلك أيضا إلى حرص أطبائنا التجميليين على مواكبة أحدث التطورات العلمية، من خلال حضور المؤتمرات الدولية والمشاركة فيها، إلى جانب المشاركة الفاعلة في المؤتمرات المحلية".
الثقة بلبنان التجميل مهددة!
وتضيف: "لا يزال لبنان وجهة سياحية مفضلة للعديد من الأجانب لإجراء العمليات التجميلية، رغم الظروف الأمنية الصعبة. وهذا الأمر لا يقتصر على الداخل فحسب، بل يتجلّى أيضا خارج لبنان، إذ إن العديد من المتخصصين اللبنانيين مطلوبون في الخارج لممارسة هذه المهنة، نظرا الى جدارتهم ونيلهم ثقة دولية واسعة".
وتحذّر من أن "الحفاظ على هذه الدرجة المتقدمة، يتطلب ضبط الممارسات التجميلية العشوائية وغير المهنية، سواء لجهة عدم استيفاء بعض الأشخاص الشروط القانونية التي تخوّلهم ممارسة الطب التجميلي، أو من باب افتتاح مراكز تجميلية غير مرخّصة من وزارة الصحة". وشددت على "أن هاتين الظاهرتين تؤثران سلبا في الحركة السياحية الطبية، وتُضعفان المكانة الرفيعة التي يتمتع بها لبنان في هذا المجال، مما يؤدي إلى تراجع الثقة وانحلال السمعة الدولية".
الإطار القانوني واضح... لكن الرقابة غائبة
على الصعيد القانوني، تشرح قصير أن "القانون اللبناني كان واضحا في تحديد من يحق له ممارسة العمل التجميلي ضمن الأراضي اللبنانية. فقد حدد المهن الطبية التي يُسمح لها بإجراء العمليات التجميلية، وهم: طبيب الجراحة التجميلية (Plastic Surgeon)، طبيب الأمراض الجلدية والتجميل (Dermatologist)، طبيب جراحة الفك والوجه، وطبيب الأنف والأذن والحنجرة، ولكن ذلك ضمن إجراءات وشروط معينة".
وتشير إلى أن "هؤلاء الأطباء فقط يحق لهم ممارسة هذه المهنة، وافتتاح مراكز تجميلية مرخّصة من وزارة الصحة وفق معايير محددة. فالمركز الذي يودّ أحد المتخصصين افتتاحه يجب أن يستوفي مجموعة من الشروط الأساسية، مثل المطابقة للمعايير المطلوبة، مساحة المكان، صلاحية المواد المستخدمة فيه، كما يجب تسجيل الآلات والأجهزة لدى وزارة الصحة والتأكّد من صلاحيتها".
وتلفت إلى أن "الجهات المعنية بمراقبة هذا القطاع، يجب أن تكون على اطلاع تام بكل التفاصيل المتعلقة بالمراكز، بما في ذلك الأدوات المستخدمة مع المرضى، كي تكون الأمور شفافة وواضحة. وفي المقابل، على المريض الذي يقصد أي مركز تجميلي أن يتأكد من وجود ترخيص رسمي معلق بوضوح على الحائط".
بين لعبة الحياة والموت... تجميل غير شرعي
وتعتبر أن "بعض الأطباء اليوم لا علاقة لهم بالمجال التجميلي أصلًا. فكما أن طبيب الجلد لا يمكنه أداء مهام طبيب الغدد أو العظام، كذلك لا يجوز لأي طبيب أن يمارس اختصاصا لا يملك المعرفة الكاملة به. فكيف يمكن لطبيب أن يتخطى حدود علمه؟".
تضيف: "ما هو أخطر من ذلك، أن هناك أشخاصا لا يحملون أصلًا صفة طبيب، ومع ذلك يمارسون هذه المهنة الحساسة عبر حقن إبر تحمل مخاطر جمّة. فالمضاعفات قد تبدأ من التلوث البكتيري (العفونة)، وقد تصل إلى انسداد الأوردة، ما قد يؤدي في بعض الحالات إلى الإصابة بالعمى أو الشلل، بل حتى الشلل الدائم".
وتنبّه قائلة: "هذا من دون أن نغفل مخاطر المواد الرديئة المستخدمة، التي قد تسبب حساسية مزمنة، أو في بعض الحالات النادرة، قد تنجم عنها وفاة مباشرة. لذلك، ما نشهده في بعض المراكز التجميلية غير المرخّصة هو لعبة خطرة أسمّيها بين لعبة الحياة والموت. ففي كثير من الأحيان، حتى وإن نجا الإنسان جسديا، فإن التشوّه الذي قد يُصاب به يترك أثرا نفسيا عميقا، قد يرافقه مدى الحياة، ويولّد اضطرابات نفسية خطرة تجعله أقرب إلى الموت من الحياة".
تقبيح لا ترميم
وتكشف أن "هناك العديد من الشكاوى والحالات الموثقة التي نُصادفها يوميا، والتي يعاني منها الأفراد نتيجة هذه الممارسات غير المشروعة. وهذا في حال لم تحدث تشوّهات! أما إذا حدث تحريف للملامح، فالكارثة تكون مضاعفة، إذ إن ما يُنفّذ في بعض هذه المراكز من إجراءات يتجاوز كل الخطوط الحمراء، فتتحوّل عمليات التصحيح إلى افساد كامل للوجه".
وتستكمل: "نلاحظ ذلك خصوصا في مجال تجميل الشفاه وتعبئتها، حيث يُفترض أن تمنح مظهرا جميلًا ومتناسقا، لكنها أصبحت في كثير من الحالات تُظهر ملامح منفّرة وقاسية، على عكس الغاية المرجوة منها. وبالاستناد إلى ما سبق، فإن هذه الممارسات تعكس صورة مشوّهة لا تشبه لبنان المعروف بجماله الطبيعي وبمهنية أطبائه. ما نشهده اليوم لا يمتّ إلى الجمال الطبيعي بصلة، ويبتعد كليًا عن المعايير التي يجب أن تُعتمد في هذا القطاع".
تراخيص مشبوهة ودورات سريعة:
فخ الاستسهال في مهنة التجميل
وتشير قصير الى أن "هناك بعض المنظمات الموجودة في لبنان تمنح تراخيص لأشخاص لا يمتلكون أدنى معرفة بالجسم البشري أو بالمخاطر المحتملة، ليمارسوا هذه المهنة من خلال دورات سريعة، سواء في حقن الفيلر أو البوتكس أو زراعة الشعر، وغيرها من الإجراءات التجميلية الحساسة. ولا أعلم كيف حصل هؤلاء على هذه التراخيص، في حين أن القانون اللبناني واضح جدا وصريح في هذا الموضوع".
وتؤكد ان "المواد المستخدمة في أي إجراء تجميلي قد تؤدي إلى مضاعفات، حتى عند الطبيب المختص القادر على استدراك المشكلة ومعالجتها، فكيف الحال بالنسبة لهؤلاء الحاصلين على تراخيص غير مهنية، الذين لا يستطيعون متابعة أو معالجة أي حالة قد تتعقد بين أيديهم؟".
واكدت ان "الدورات السريعة تجعل من أي شخص خضع لها "مختصًا"، في حين أنه لا وجود لمصطلح "مختص بشرة" خارج نطاق الطبيب الذي يمتلك العلم الكافي، ويعرف الأمراض، وقادر على تقديم العلاجات المناسبة".
وتتطرق الى: "حملة أطلقتها نقابة أطباء الجلد بعنوان "ما بين التشويه والتجميل: 12 سنة طب"، للتأكيد على أهمية أن يكون الطبيب هو المسؤول عن العمل التجميلي. فالحملات التوعوية ضرورية جدا، ويجب أن يرافقها دور الإعلام الفعّال. وأحيانا ألوم بعض وسائل الإعلام التي قد تتحول إلى منصة دعاية لأشخاص مخالفين للقانون في المجال التجميلي، دون أن تتحقق مما إذا كانوا مؤهلين للقيام بهذه الأعمال أو غيرها".
وتضيف: "يأتي حديثي اليوم عبر "الديار" في إطار التوعية وتفعيل الملاحقة القانونية، من خلال متابعة الملف من قبل السلطات المعنية حتى نهايته. وقد تم إنشاء لجنة خاصة لمتابعة هذه الحالات، لكن للأسف واجهت العديد من العقبات".
وقالت "إذا دققنا في مواقع التواصل الاجتماعي، سنلاحظ بلا شك حجم الإعلانات المنتشرة التي تكشف عن جميع الأشخاص المخالفين للقانون، حيث تُعرض صور قبل وبعد، إلى جانب ممارسات طبية خاطئة وغير قانونية. وهذا يعتبركإخبار للسلطات المعنية، التي يجب عليها القيام بما هو مطلوب في هذا المجال".
وتشير في ختام حديثها الى "ضرورة اتخاذ مجموعة من الإجراءات الحاسمة، تتمثل في إغلاق العيادات الخارجة عن القانون، والتشدد في فرض الغرامات المالية، إذ الغرامات الموجودة في القانون لا تزال غير كافية لردع الأشخاص عن العودة إلى ممارسة هذه الإجراءات غير القانونية. كما يجب أن تصل العقوبة إلى حد السجن، لأن المخاطرة هنا تتعلق بحياة الإنسان نفسها، وهذا يمثل أكبر خطر يمكن أن يتعرض له الفرد، لا يقل خطورة عن جريمة القتل".