لبنان أمام فرصة أخيرة: التّعافي أو الكسر

لبنان أمام فرصة أخيرة: التّعافي أو الكسر

image

لبنان أمام فرصة أخيرة: التّعافي أو الكسر
لا تكمن قوّة لبنان بأسطورة “سويسرا الشرق” بل في التحوّل إلى مركز إقليمي للحوار والخدمات ذات القيمة العالية

محمد فحيلي - اساس ميديا
لطالما وُصِف لبنان بأنّه “سويسرا الشرق الأوسط”، لكنّه اليوم أقرب إلى حالة دولة منهارة تُدرَّس في الكتب المدرسيّة. ومع ذلك، يظلّ حالة فريدة في الاقتصاد السياسي للصمود والبقاء. فقصّة لبنان بعد الاستقلال تشكّلت من مزيج من رأسماليّة السوق الحرّ على الطريقة الأنغلوساكسونيّة، والديمقراطية التوافقيّة الطائفية، واقتصاد خدميّ متجذّر. ما كان يُعتبر يوماً مصدر قوّة خاصّة، بات اليوم نقطة ضعف قاتلة. كيف ذلك؟

منذ عام 2019، ولبنان يغرق في أزمة متعدّدة المستويات: انهيار العملة بنسبة 90%، إفلاس غير معلن للقطاع المصرفي، تخلّف عن سداد الدين السيادي، هجرة جماعية، وتدهور مذهل في مستويات المعيشة. الدولة التي كانت رمزاً للتعدّدية والتجارة تواجه اليوم فقداناً للثقة والهويّة.

نهاية وهم السّوق الحرّ

السرديّة التي سُوّقت للبنان كاستثناء جغرافيّ وسياسي بين الشرق والغرب، كانت في الواقع ستاراً للتآكل البنيويّ. لعقود، اعتمد لبنان على التحويلات والودائع لتمويل العجز المزدوج، واستورد الاستهلاك وصدّر الشباب والأدمغة.

اشتغل هذا النموذج إلى أن انهار. لم تكن سوى تمديد للوهم الهندسات الماليّة في العقد الماضي، المدعومة من سياسات مصرف لبنان التي ادّعت “الاستقرار الماليّ”. بحلول عام 2020، انهار الهرم. واليوم، الاقتصاد غير النظامي (اقتصاد الكاش) يُهيمن، الطبقة الوسطى اندثرت، والقطاع المصرفي تلاشى بما هو وسيلة للتمويل أو التعافي.

منظومة مصمَّمة للشّلل

في قلب الشلل اللبناني، تقف منظومة تقاسم السلطة الطائفية. ما بدا في السابق نموذجاً شاملاً، ثبت أنّه معطّل. لقد أنتجت المحاصصةُ الطائفية الجمودَ المؤسّساتي، والفساد، والمحسوبيّات، وقطعت أوصال المساءلة.

كلّ محاولة للإصلاح البنيوي، من الكهرباء إلى السياسة الضريبية، ومن ضبط الرساميل إلى ترشيد القطاع العامّ، أُفرغت من مضمونها. فالأحزاب تتعامل مع الوزارات كمراكز سلطة خاصّة، تُستخدم للخدمات والمكاسب الشخصية والسياسية، لا لخدمة المصلحة العامّة.

بين 28 أيّار و4 حزيران 2025، استقبل لبنان، للمرّة الثامنة منذ 2020، بعثة من صندوق النقد الدولي. كان جدول الأعمال مألوفاً حدّ الإحباط:

– توحيد سعر الصرف.

– إعادة هيكلة المصارف.

– إقرار قانون لضبط الرساميل.

– ضبط الماليّة العامّة.

كالعادة لم تُحرز المفاوضات أيّ نتائج. خلف الأبواب المغلقة، عبّر مسؤولو الصندوق عن إحباطهم المتزايد من غياب الإرادة السياسية، لا فقط من ضعف القدرة. لم يُنفَّذ أيّ بند ملزم من اتّفاق 2022، واستمرّ النزيف الماليّ وتآكُل الثقة وتفتّت الاقتصاد.

كان البيان الختامي للبعثة صارماً: في غياب خطّة تعافٍ جدّيّة، لبنان مقبل على عقدٍ ضائع من الانحدار والتفكّك.

يتجلّى تفاقم الأزمة أيضاً في وجود لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي FATF، وهو ما يُعدّ إدانة لنظام مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. يُقوّض هذا الوضع صدقيّة لبنان الماليّة، ويحرمه من خدمات المصارف المراسلة، ويهدّد التحويلات من المغتربين، آخر شريان حياة اقتصادي.

لا يعود هذا فقط إلى ثغرات تقنيّة، بل إلى انهيار في الحوكمة:

– لا قانون لضبط الرساميل.

– لا إطار لحلّ أزمة المصارف.

– لا حماية للودائع.

– ولا محاسبة عن الهدر والانهيار.

الفراغ التّنظيميّ عزّز الإفلات من العقاب

لكن هذه المرّة، المشهد السياسي تغيّر. انتخاب الرئيس جوزف عون، وتكليف القاضي نوّاف سلام بتشكيل حكومة إصلاحية، بعثا أملاً نادراً. المؤشّرات الأولى في اللهجة والتعيينات والخطاب العامّ تدلّ على نيّة صادقة للانخراط مع الداخل والخارج.

ما هو مطلوب الآن ليس مزيداً من الخطط، بل التنفيذ. لا مزيد من الدراسات، بل تشريعات حاسمة. لا أحد يطلب من لبنان المعجزات، بل فقط أن يحكم بشفافيّة وبحدّ أدنى من التماسك.

إذا نجحت القيادة الجديدة في توحيد الصفّ خلف أجندة إصلاحيّة جدّية، فقد يتمكّن لبنان من قلب المعادلة. لكنّ النافذة ضيّقة، وكلفة الفرصة الضائعة ستكون قاتلة.

منطقة تتحرّك… ودولة في شلل

أزمة لبنان لا تحدث بمعزل عن العالم. الإقليم يتغيّر بسرعة. دول الخليج تتسابق نحو تنويع الاقتصاد والرقمنة. مصر، على الرغم من أزماتها، أعادت هيكلة ديونها وتحافظ على علاقتها مع الصندوق. الأردن يستقطب الاستثمارات عبر الشفافيّة والتكامل الإقليمي. لبنان في المقابل جامد يعاني من انعدام الثقة وتضييع الفرص.

لكنّ الجار الأهمّ في المعادلة هو سوريا. بعد سنوات من العزلة، تعود تدريجياً إلى الحضن العربي. على الورق، هذا التطوّر قد يخدم لبنان: فتح المعابر، تحفيز الصادرات الزراعية، وضبط التهريب. لكن في العمق المخاطر تفوق المكاسب.

عودة سوريا إلى الساحة تتمّ من دون محاسبة أو شفافيّة، وفي ظلّ اقتصاد منهار. رفع العقوبات أو تخفيفها قد يُغرق لبنان أكثر في بيئة إقليمية هشّة يسودها المال غير المشروع والتجارة غير النظامية. الحدود مع سوريا مفتوحة لكلّ شيء: بضائع مدعومة، مخدّرات الكبتاغون، أسلحة، ومسلّحون. فشل لبنان في ضبط حدوده أسهم في تضخّم الأسعار وإضعاف الإنتاج وتقويض الاستقرار النقدي.

أمّا التطبيع السياسي مع دمشق فقد يُشعل من جديد التوتّرات الإقليمية التي طالما انفجرت على الأرض اللبنانية: من الاغتيالات إلى التحشيد الطائفيّ. من دون سياسة حدوديّة متماسكة، ومؤسّسات حقيقية، سيبقى لبنان ساحة مفتوحة وحسب،  وليس فاعلاً بل مفعولٌ به.

لم تعد سوريا جاراً مأزوماً فقط، بل مرآة لهشاشة لبنان. وإذا لم يستعِد لبنان قراره السيادي اقتصاديّاً وماليّاً وسياسيّاً فلن يتأثّر بسوريا فقط، بل قد يُبتلع في مسارها.

أمّا على الجبهة الجنوبية، فالتقلّبات الإسرائيلية ومضاعفات الحرب في غزة تُضيف طبقة جديدة من اللايقين. لبنان لم يعُد هشّاً فقط، بل هشاشته أصبحت قابلة للكسر في أيّ لحظة.

دور جديد في الإقليم

لا تكمن قوّة لبنان الحقيقية في التمسّك بأسطورة “سويسرا الشرق”، بل في التحوّل إلى مركز إقليمي للحوار والتعليم والصناعات الإبداعية والخدمات ذات القيمة العالية. رأسماله البشري وطاقاته الاغترابية وانفتاحه الثقافي تبقى ثروات، لكن بشرط توافر الاستقرار وسيادة القانون والبنية التحتيّة.

لكنّ الطريق شاقّ. والتاريخ أعطى لبنان أكثر من فرصة. سنة 2025 قد تكون الأخيرة.

لن يحدّد نجاح القيادة الجديدة في مواجهة التحدّي مستقبل التعافي فقط، بل ومكانة لبنان في مشهد إقليميّ سريع التحوّل.