دفن "التغيير" في لبنان: ما العمل؟
لبنان لا يحتاج إلى حزب جديد فقط بل إلى قصة جديدة
كريم صفي الدين - جاد شحرور - المدن
في كل مرة يحدث فيها تغيير سياسي أو دستوري، يصبح من الضروري العودة إلى التاريخ لفهم ما يحدث الآن ولتوقع ما سيحدث في المستقبل. لبنان، الذي كان دائماً مكاناً لتجارب سياسية رائدة وخلّاقة، شهد بعد عام 1948 ظهور حركات وأحزاب يسارية وقومية عربية حاولت تغيير الواقع القائم. من حزب البعث إلى لبنان الاشتراكي ومنظمة العمل الشيوعي، كانت الأحزاب تزرع بذور ما يسمّى التغيير، لكن غالباً من دون أن تثمر على مستوى السلطة في لبنان بالتحديد.
مع اندلاع موجات الربيع العربي، برز جيل لبناني جديد من الشباب السياسيين خارج عباءة الأحزاب الكلاسيكية. من حملة "إسقاط النظام الطائفي" عام 2011، إلى "لا للتمديد" عام 2013، إلى "طلعت ريحتكم" عام 2015، وصولاً إلى انتفاضة 17 تشرين في العام 2019، شهدنا محاولات متعددة لإعادة تشكيل الوعي السياسي اللبناني من القاعدة. لكن السؤال المحوري: لماذا لم تتحول هذه المحاولات إلى قوة سياسية حزبية أو حركية طموحة ومستدامة، وتستند على مدرسة سياسية وثقافية محددة؟ ما هي أزمة "التغيير" لدى الحركات السياسية المعاصرة؟ وما الذي يفسّر التراجع الذي حصل في السنين الأخيرة؟ التركيز على غياب الحضور المجتمعي والسياسي لهذه القوى في الفترة الراهنة، وخصوصاً بعد 7 أكتوبر 2023، ليس تفسيراً مقنعاً. السياسة ليست وليدة اللحظة؛ هي نتاج لعمل سياسي تراكمي ومستمر. هي ليست بيان أو موقف أو ظهور إعلامي في اللحظة كردّ على مبادرة أو واقع سياسي طاغٍ. هي المبادرة المسنودة على التخطيط الجماعي لفترة طويلة.
ومن هذه التجارب، يمكن ذكر "لحقي"، "شبكة مدى للأندية العلمانية"، وصولاً إلى أحزاب سياسية جديدة مثل "تقدم"، "الكتلة الوطنية"، "لنا"، و"مواطنون ومواطنات في دولة"، و"تيار التغيير في الجنوب" إلى جانب المبادرات المحلية كـ"بيروت مدينتي". لكن الانتخابات البلدية الأخيرة أظهرت فشلاً في إنتاج بدائل سياسية واسعة الانتشار، ما يستدعي مراجعة عميقة لهذه التجارب.
مكتسبات المرحلة السابقة: إرث فكري، مؤسسات بديلة، أدوات عمل
النقد الذاتي لا يكفي، علينا الاعتراف بالموارد الموجودة كي نبني فوقها واقعاً جديداً. الموارد ليست محصورة بالشق المالي والمادي المباشر: (1) تضم أيضاً المنظمين والباحثين والصحافيين أنفسهم؛ (2) المؤسسات الاجتماعية والبحثية والسياسية والإعلامية التي تربط بين عملهم ونشاطهم وجزء من الرأي العام؛ (3) المهارات التي اكتسبوها؛ (4) الوجوه التي دُرّبت على مخاطبة "الحيّز العام"؛ (5) الإرث الثقافي والفكري والرمزي التي تشعل المشاركة السياسية عند الفئة الشابة؛ (6) الأوراق السياسية الكثيرة التي تلخّص القراءة والتحليل والموقف والمراجعة، بالإضافة إلى المصطلحات التي تُنطق لاستقطاب وبالتالي تفعيل المناصرين؛ (7) العلاقات الاجتماعية والعاطفية المستدامة بين المنظمين الملتزمين والداعمين؛ (8) "الروتين" التنظيمي اليومي، رغم شكله المتواضع.
وفي هذا السياق، هي ليست فقط "موارد"، بل مكتسبات وإنجازات تنظيمية وخطابية واجتماعية لم تكن واردة قبل 20 سنة. الاعتراف بالموجود هو الخطوة الأولى نحو البناء المُنتِج والمتين، على عكس المسار الشعبوي الذي يصرّ على إعادة "اكتشاف" شخصيات "جديدة". ببساطة، لن نجد من "سينحرف" عن عقبات وإشكالات المرحلة الأخيرة. في الواقع، النقد الذي يبحث عن "الصفحة البيضاء"، بوجوه وكيانات ومؤسسات مختلفة كلياً، هو نقدٌ يعيد إنتاج الفردنة والعزلة التي طغت على الحركة التقدمية والديمقراطية في مراحل عدة.
شهدنا، منذ الربيع العربي، مأسسة "سطحية"، ولكن ملموسة وحقيقية وتدريجية، للحركة العلمانية ما بعد الحرب. بعد الحرب الأهلية مباشرةً راجع شقها اليساري الانخراط المسلّح، وراجع أيضاً القراءة الاختزالية الماركسية الأرثوذكسية السائدة. ولكن ترافق هذا النقد الذاتي مع نقد شرس لمشروع الحريري لوسط بيروت، كما ورد في كتابات سمير قصير وإلياس خوري وفواز طرابلسي. خاض شقها الوسطي (نسيب لحود) المعركة من أجل الحريات في مواجهة السلطات الأمنية السورية-اللبنانية، وأخذ مسافة سياسية واقتصادية من الحريرية السياسية. على مستوى الجمعيات، تم تأسيس جمعية "لادي" (الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات) وجمعية الشفافية اللبنانية. على مستوى الصحافة، تم تأسيس "ملحق النهار" و"لوريان ـ إكسبرس". وعلى مستوى الحركات الاجتماعية والمدنية السياسية، تأسست "بلدي، بلدتي بلديتي"، بوجود ناشطين علمانيين وتقدميين مثل بول أشقر وزياد ماجد، وجمعت عدد كبير من الدائرة اليسارية والليبرالية كي تستعيد المبادرة بعد سنين من الجمود. وتطورت هذه الحركات بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان ووفاة حافظ الأسد، حتى أصبحت منابر سياسية ذات موقف واضح من الوصاية السورية والمصالحة اللبنانية، ومنها المنبر الديمقراطي (بمبادرة المناضل الجنوبي حبيب صادق) وقرنة شهوان (بمشاركة المثقف والسياسي اليساري سمير فرنجية).
ومع تأسيس حركة اليسار الديمقراطي وحركة التجدد الديمقراطي، ظهرت، للمرة الأولى بعد الحرب، مدرسة سياسية وثقافية (ولو محدودة) ميّزت اليسار والحركات العلمانية عامةً عن إرث الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي ومنظمة التحرير الفلسطينية. وتكونت حركة اليسار من "أجواء" جامعية وثقافية وصحافية وإعلامية خلّاقة.
ورغم الانهيار التنظيمي والسياسي لهذه المؤسسات وسط الاستقطاب الطائفي الشديد بعد عام 2005، شهدنا مبادرات عديدة قبل وبعد الربيع العربي: الأندية العلمانية الجامعية؛ التعاونيات النسوية؛ منصات الإعلام البديل؛ التكتلات الانتخابية المحلية؛ حملات إغاثة ميدانية؛ تنظيمات ومجموعات سياسية بوظائف وأهداف متنوعة.
النقد الذاتي: فكر، قواعد، مؤسسات طموحة تتخطى "التغيير"
رغم الانطلاقة الواعدة، إلا أن معظم هذه المبادرات لم تطور خطابًا طموحاً ولا مؤسساتٍ وازنة قد تشجّع الانخراط المجتمعي والتنظيمي المستدام، أي البيت السياسي والثقافي للحركة العلمانية ما زال غائباً، رغم بعض المكونات والأطر الناشطة. فالمشكلة ليست في الأفكار، بل في كيفية ترويجها ومواءمتها وتأطيرها ضمن مساحات وعلاقات اجتماعية تصنع روحية "بطولية" تبدأ بالمرشح والقيادات، ومن ثم تتجسّد في كلّ كادر يعتبر نضاله السياسي جزءاً من حياته اليومية.
الجواب ربما يكمن في غياب "البطل"، أو الرمز القادر على التعبير عن "طموحات" الناس (وليس فقط عن مظلوميتهم)، والتجسيد السياسي لها. أحزاب السلطة فهمت هذه المعادلة مبكرًا، فصنعت أبطالها: حزب الله استثمر في رمزية المقاومة، والتيار الوطني الحر قدّم الجنرال ميشال عون كبطل عائد من المنفى، والقوات اللبنانية إعادة إنتاج سمير جعجع كبطل قضى سنوات في السجن.
في المقابل، القوى العلمانية الديمقراطية (على عكس العلمانية القومية والبعثية) لم تتمكن من إنتاج مدرسة فكرية وعقائدية وتنظيمية تتمحور حول يوميات المناضل، ولم تطرح سقفاً طموحاً من حيث جمع الموارد وفتح المراكز في القرى والمدن والأحياء. اكتفت بالإعلام. وانتهزت أزمات أحزاب الطوائف وشددت على مظلوميتنا الجماعية كخيار سياسي، من دون أن تعالج أزمتها الخاصة، أي استدامة قبيلتها التنظيمية. فلا استدامة للمظلومية كأداة تعزز الانخراط السياسي، رغم أهميتها في "سرد القصة"، ولكن كل قصة تحتاج إلى "بطولة" تتخطى المظلومية، بطولة تستوجب الإرادة السياسية "الحالمة" والخلاّقة والتأسيسية.
إن المشاركة في بنى المجتمع، ومن ثمّ قواعد القوة في النظام السياسي اللبناني ليست خيانة للمبادئ، بل وسيلة لاختراق النظام بعلاقاته الاجتماعية وأطره التمثيلية بهدف إعادة رسم هذه القواعد، بعيداً العزلة السياسية التي تترافق مع فقاعات النخب. لا تغيير من دون تمثيل، ولا تمثيل من دون حاضنة شعبية، ولا حاضنة من دون رموز وقصص و"أوهام" تُلهم.
نحو تجربة نضالية إيجابية
نحن مقبلون على الانتخابات البرلمانية عام 2026، ويجب أن نكون جاهزين لها بفهم عميق للأزمات داخل المعارضة، واليوم نشهد إعادة إنتاج لـ"فردنة جديدة"، على أساس "المعارضة الطائفية". فهناك من يصر على توصيف ذاته كـ"شيعي معارض"، وهناك من يرفض حصره بهويته الطائفية. وعلى الجانب المسيحي، هناك من يرى أن ضعف حزب الله يتيح له المطالبة بحصة أكبر، ولو بتحالف مباشر مع الحزب بنفسه، وهو ما تروّج له بعض وسائل الإعلام المتحالفة مع المصارف.
إن لبنان لا يحتاج إلى حزب جديد فقط، بل إلى قصة جديدة، و"بطولية نضالية" جديدة. وليس البطل هنا بالضرورة فرداً خارقاً، بل حركات سياسية تنتج كاريزما ووضوحاً، وتتقن لغة الحشد والتنظيم والتحالف، وتؤمن بأن بناء القاعدة الشعبية يسبق السعي إلى مراكز القوة بصفة الفرد.
إن عزلة النخبة قد تنتج أوراقًا بحثية رفيعة، لكنها لا تغيّر موازين القوى على واقع الأرض. وحده الاندماج في الناس، والاشتباك مع المجتمع بشكل يومي، والقبول بخوض المعارك على قواعد لعبة "القوى" قادر على زحزحة هذا النظام. صناعة البطل ليست خيانة للفكر، بل هي جزء أساسي من تجسيد الفكر بالمعنى المادي والعاطفي والوجداني. هي الاستثمار في الأمل.