"يختار الحياد في زمن الجنون" ... لبنان في عين العاصفة وخارجها

"يختار الحياد في زمن الجنون" ... لبنان في عين العاصفة وخارجها

image

"يختار الحياد في زمن الجنون" ... لبنان في عين العاصفة وخارجها
لنهج عقلاني وواقعي يمنع تحويل الأوطان إلى منصات لتصفية نزاعات الآخرين

 

داود رمال – "اخبار اليوم"

بينما تشتعل المنطقة بالمواجهة المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، ويشتد لهيب التصعيد على أكثر من جبهة، يبدو لبنان أشبه بجزيرة وسط هذا الإعصار الجيوسياسي، يسعى بكل طاقاته السياسية إلى التمسك بخيار النأي الفعلي عن أتون المواجهة. السلطة اللبنانية، بمختلف مستوياتها ومكوناتها، بلورت موقفاً جامعاً نادراً في هذه اللحظة الدقيقة، هدفه الأساسي هو منع انزلاق البلاد إلى ساحة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية، كما حصل في محطات سابقة أثمانها لا تزال عالقة في الذاكرة الوطنية.

الواقع أن هذا الإجماع الداخلي لم يأتِ من فراغ، بل من قناعة متراكمة بأن لبنان، المثقل بأزماته الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية ونتائج الحرب الاسرائيلية المستمرة عليه، لا يحتمل خضّات إضافية تهدد كيانه ووجوده. وقد بدا واضحاً أن الجهات الرسمية مارست، خلال الأيام الماضية، أعلى درجات التواصل السياسي والدبلوماسي مع القوى المؤثرة  محليا وإقليميا ودوليا، في محاولة لتأكيد أن الساحة اللبنانية لا يجب أن تُستدرج إلى ردود فعل أو تُستخدم كخط تماس إضافي بين المحاور المتنازعة. والنتيجة حتى الآن تُحسب للسلطة، إذ نجحت في خلق مظلة توافق داخلي متينة ضد التورط، ورسّخت معادلة الحياد الواقعي لا الشعاراتي.

إقليمياً، تبرز إشارات توحي بأن النزاع القائم رغم خطورته، ليس بالضرورة مدخلاً لحرب كبرى مفتوحة. الولايات المتحدة الأميركية، المؤثر الأول في ميزان القوى العالمي، لا تُظهر ميلاً نحو دعم سيناريو تغيير النظام في طهران، بل على العكس، لا تزال واشنطن تفضّل العودة إلى مسار المفاوضات النووية، ما يعني أن الخيارات التصعيدية لها سقف سياسي، وليس منفتحة على المجهول. أما على الجانب الإسرائيلي، فإن الادعاء بقدرة تل أبيب على إعادة تشكيل المنطقة عبر القوة العسكرية لا يصمد أمام قراءة أكثر واقعية: فإسرائيل نفسها تواجه مأزقاً داخلياً مستفحلاً، من أزمة حكم إلى عزلة دبلوماسية، إلى فشل في إدارة الحرب في غزة، وهي أبعد ما تكون عن صوغ هندسة إقليمية جديدة.

ما يلفت الانتباه أيضاً هو الموقف السعودي من الحرب الإسرائيلية على إيران، والذي اتسم بوضوح غير مألوف في بياناته، عبر إدانة صريحة للعدوان الإسرائيلي. هذا الموقف لا يحمل فقط أبعاداً سياسية باردة، بل يعكس تحوّلاً في أولويات المملكة التي لم تعد تقبل بسياسات الفوضى المنظمة، ولا بالمشاريع الدولية التي تُفرض على شعوب المنطقة بالنار والعنف. الموقف السعودي يؤشر إلى تحولات أوسع في مزاج الإقليم الذي بدأ يعلي منطق التنمية والاستقرار على حساب منطق الصراع المستدام.

وبينما تتكشف الحقائق وتتداخل المعطيات، تبقى دعوة اللبنانيين إلى عدم الوقوع في الأوهام ضرورة حتمية. فلبنان لا يجب أن يخدع نفسه بإمكانية الاستفادة من صراعات الآخرين أو الرهان على موازين قوى متبدلة. لقد ثبت بالتجربة أن سياسة "أخضعوا المنطقة لتستقر" ليست سوى وصفة لمزيد من الانفجار. لا الحديد يجلب سلاماً، ولا النار تبني أمناً. والمنطقة، كما لبنان، تحتاج إلى نهج عقلاني وواقعي، يحترم توازنات الشعوب لا مطامع القوى، ويمنع تحويل الأوطان إلى منصات لتصفية نزاعات الآخرين.