إيران: النظام ومعركة البقاء
من التمدد الاستراتيجي إلى تأمين الإستمرارية
اليسّا الهاشم
على مدى العقود الثلاثة الماضية، لم تكن إيران مجرد لاعب إقليمي، بل صانعة توازنات واستراتيجيات قائمة على مبدأ "الصبر الاستراتيجي"، وهو نهج يشبه بدقته حرفية صانعي السجاد الفارسي الذين ينسجون خيوط القوة بتأنٍ حتى يكتمل المشهد النهائي.
وقد انتهجت طهران منذ نهاية الحرب العراقية-الإيرانية عام 1988 سياسة التوسع غير المباشر، مدركةً أن المواجهة المباشرة مع خصومها لن تضمن بقاء النظام، فابتكرت استراتيجية "الدفاع المتقدم"، التي تهدف إلى دفع خطوط المواجهة بعيدًا عن أراضيها، وإقامة منظومة إقليمية تحميها من الداخل والخارج.
وهذه السياسة سمحت لها ببناء محور نفوذ يمتد من طهران إلى البحر المتوسط، مستثمرةً في الصراعات الإقليمية، وداعمةً لجماعات مسلحة مثل حزب الله في لبنان، والميليشيات العراقية، والجماعات الموالية لها في سوريا، بالإضافة إلى حماس والجهاد الإسلامي في غزة. ومع مرور الوقت، تحولت هذه الأذرع إلى أدوات أساسية لحماية مشروعها الجيوسياسي، والضغط على خصومها، وإدامة نفوذها العسكري والدبلوماسي.
لكن اليوم، تواجه طهران تحديات غير مسبوقة تهدد استمراريتها. فالتحولات الإقليمية، والانهيار الاقتصادي، والاحتجاجات الداخلية، والضغوط الدولية، كلها عوامل تدفع إيران إلى الانتقال من وضعية التوسع إلى مرحلة الدفاع عن النظام نفسه. فهل ما بنته خلال العقود الماضية بدأ بالانهيار؟
على الرغم من نجاح إيران في فرض معادلات ردع خلال العقود الماضية، إلا أن عام 2025 سيشهد تغيراً جوهرياً في توازن القوى، حيث تواجه إيران تحديات تهدد مستقبلها، أبرزها:
أولاً، فقدان قبضتها على القرار السياسي والعسكري في سوريا ولبنان في ضوء التغيرات على الأرض في البلدين، ما يطرح السؤال الجوهري: هل باستطاعة إيران أن تعيد رصّ صفوفها وإنعاش وكلائها عبر إثارة الفوضى بإرادتها، أم أنها تجد نفسها في قلب لعبة أكبر يُراد منها دفعها نحو الهاوية؟
ففي ظل التحركات العربية المتزايدة لاستعادة التوازن الإقليمي، وانخراط روسي متذبذب بين الحفاظ على شراكته مع طهران والسعي إلى تفاهمات أوسع مع الولايات المتحدة قد تتضمن تنازلات متبادلة في ملفات أخرى، لا سيما تلك المتعلقة بأوكرانيا، لا يبدو المشهد مرتبطاً فقط بصراع إيراني-إسرائيلي أو مواجهة مباشرة مع واشنطن، بل قد يكون جزءاً من مخطط أوسع لخلق إجماع دولي على تحجيم إيران تمهيداً لصفقة كبرى. فهل باتت إيران هدفاً لحصار استراتيجي متعدد الأبعاد؟
اما في لبنان، فيواجه حزب الله أزمة مالية غير مسبوقة، حيث تشير التقديرات إلى أن ميزانيته تقلصت بنسبة 40% بسبب تراجع الدعم الإيراني الناجم عن العقوبات الاقتصادية الخانقة. هذا التراجع قلل من قدرة الحزب على تمويل عملياته كما وفي دفع المستحقات التي وعد بها محازبيه سواء الشهرية أو تلك المتعلقة بإعادة الإعمار، وأضعف استعداده لأي مواجهة مع إسرائيل.
ثانياً، انهيار الاقتصاد الإيراني: فهل فقد النظام قدرته على الصمود؟ لا سيما بعدما بلغ معدل التضخم 82%، وفقًا لتقرير بلومبرغ الشرق الأوسط مطلع هذا الشهر، وهو أعلى معدل منذ 2019. كما تراجع الريال الإيراني إلى 850,000 مقابل الدولار، وهو أدنى مستوى في تاريخه، وانخفضت عائدات النفط بنسبة 40% مقارنة بمستويات 2018، بسبب العقوبات الغربية وصعوبة تصدير النفط إلى الصين وروسيا.
ثالثاً، التصدعات الداخلية فهل يواجه النظام خطر التفكك؟ لأول مرة منذ عقود، تظهر انقسامات حادة داخل النخبة الحاكمة في إيران. حيث بدأ يبرز وجود جناحين متصارعين داخل النظام: التيار المحافظ المتشدد، بقيادة الحرس الثوري، والذي يرفض تقديم أي تنازلات أمام الضغوط الغربية في مقابل التيار البراغماتي، الذي يرى أن استمرار العقوبات والانهيار الاقتصادي قد يؤدي إلى انتفاضة لا يمكن قمعها، مما يستدعي تقديم تنازلات، مثل تهدئة التوترات مع الغرب أو تقليص التمدد الإقليمي.
ومع تصاعد الضغوط، تتجه إيران نحو عدة سيناريوهات محتملة، السيناريو الأول هو الانهيار من الداخل حيث قد تؤدي الضغوط المتزايدة إلى انفجار داخلي يُسقط النظام، سواء عبر انتفاضة شعبية واسعة، أو انقلاب داخلي تقوده عناصر من الحرس الثوري. بالتزامن مع ذلك، تعمل القوى الإقليمية والدولية على إضعاف النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، لتقليص مساحة تحرك طهران في المنطقة.
أما السيناريو الثاني فهو التصعيد العسكري في ظل المؤشرات المتزايدة بإمكانية توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية أو اميركية مباشرة ضد المنشآت النووية الإيرانية، خصوصا بعد تصريحات المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين بأن إيران تقترب من تجاوز "الخطوط الحمراء" في برنامجها النووي.
أما السيناريو الثالث فهو نجاح الديبلوماسية الإيرانية بالتوصل الى صفقة تسوية مع الولايات المتحدة في أعقاب الرسائل المتعددة التي تلقتها من الرئيس الاميركي دونالد ترامب. ففي محاولة لتجنب الانهيار، قد يسعى النظام الإيراني إلى التفاوض على صفقة جديدة يتخلى فيها عن بعض نفوذه الإقليمي مقابل تخفيف العقوبات واحتفاظه بما تحقق حتى اليوم من برنامجه النووي .
اذًا، إيران اليوم بين الصمود والانهيار وهي أضعف مما كانت عليه خلال العقود الماضية. فبين الضغوط الداخلية، والاختناق الاقتصادي، والانقسامات السياسية، والتوترات العسكرية، يواجه النظام أكبر اختبار وجودي منذ عام 1979.
وإيران اليوم ليست في موقع الهجوم، بل في موقع الدفاع عن بقاء نظامها. فبعد عقود من التمدد الإقليمي، تجد طهران نفسها مضطرة لتغيير استراتيجيتها، ليس للحفاظ على نفوذها، بل لحماية وجودها ذاته.
على اي حال، الأسابيع القادمة قد تشهد منعطفاً حاسماً، فإما أن تتمكن إيران من إعادة تموضعها والصمود أمام هذه التحديات، أو أن تجد نفسها في مواجهة انهيار يقترب بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً.