سوريا في دور لبنان “التقليدي”: فرصة أم ضربة؟

سوريا في دور لبنان “التقليدي”: فرصة أم ضربة؟

image

سوريا في دور لبنان “التقليدي”: فرصة أم ضربة؟
ليست مشكلة لبنان في أنّ سوريا خرجت من القفص الاشتراكي بل في أنّ لبنان لم يخرج من أزماته

عبادة اللدن - اساس ميديا
انطلقت مشاريع البنية التحتية في سوريا أسرع من المتوقع بعقود بمليارات الدولارات خلال أشهر قليلة، من دون استعراضات إعلامية أو مؤتمرات للمانحين. وبات الحديث منطقياً عن دور اقتصادي إقليمي، أو حتّى دولي، يمكن لسوريا أن تلعبه كصلة وصل بين أوروبا وآسيا، على نحو الدور الذي كان للبنان، في الواقع أو في الطموح.

يمكن الحديث خصوصاً عن سلسلة من الإعلانات المتسارعة في دمشق، فيما لبنان يبحث في الزواريب عن منفذٍ للوصول إلى الطريق السريع:

إسناد تطوير ميناء اللاذقية وتشغيله لشركة CMA-CGM الفرنسية، مع تعهّد منها بضخّ استثمارات بـ 230 مليون يورو على مدى خمس سنوات، ليوازي مرفأ بيروت في السعة والعمق والقدرة على استقبال السفن الكبيرة.
توقيع مذكّرة تفاهم مع “موانئ دبي” الإماراتية لتطوير ميناء طرطوس، والتعاون في إنشاء مناطق صناعية وحرّة (يشار إلى أنّ دمشق ألغت في كانون الثاني عقد تشغيل الميناء مع شركة “إس تي جي إنجينيرينغ” الروسيّة الموقّع عام 2019).
زخم قويّ

إطلاق المراحل الأوّليّة لمشروع الألياف الضوئية مع ربط شبكة الكوابل البحرية الآتية من أوروبا بشبكتَي الاتّصالات في العراق والأردن، بما يؤهّل سوريا لتكون حلقة وصل لشبكات الإنترنت العالي السرعة بين الخليج وأوروبا في مسار آخر غير الكوابل الممتدّة عبر البحر الأحمر.
الكثير من الاتّفاقات في قطاع الطاقة، من ضمنها مشروع أنبوب الغاز بين حلب وتركيا لتزويد محطّات الكهرباء، والربط الكهربائي مع تركيا والأردن، واستيراد الغاز المسال القطريّ عبر الأردن، واستقدام سفينتين لتوليد الكهرباء من تركيا وقطر (إحداهما من شركة “كارادينيز” التي كانت متعاقدة مع لبنان سابقاً)، بالإضافة إلى بعض مشاريع الطاقة المتجدّدة.
يجري الحديث عن مشاريع لإقامة مناطق تجارية وصناعية حرّة في منطقة التنف والبوكمال، ومشاريع لشبكة قطارات لإعادة الربط بين حلب ودمشق ثمّ إلى الحدود الأردنيّة.
يبدو زخم المشاريع أقوى بكثير ممّا هو الحال في لبنان اليوم، بل ربّما يذكّر بشيء من الزخم الذي أتى به الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى لبنان في التسعينيات.

من المبكر تقويم مدى هذا الزخم وحجم الاستثمارات التي ستُضخّ عندما يكتمل رفع العقوبات الأميركية، كما وعد الرئيس دونالد ترمب، لكنّ المسار الاقتصادي السوريّ يعدّ أهمّ تطوّر يطرأ في جوار لبنان منذ 62 عاماً، أي منذ أن حوّل حزب البعث سوريا إلى دولة اشتراكية ذات اقتصاد مغلق.

كانت سوريا الاشتراكية عقبة وفرصة للبنان في آن معاً. فمن جهة، مثّل لبنان الرئة الماليّة والمصرفية واللوجستية لقطاع الأعمال السوري، بوجهٍ رسمي أو في الظلّ. لكنّه أبقى لبنان جزيرة معزولة محاطة بدكتاتورية مغلقة من جهة، وعدوّ إسرائيلي من جهة أخرى، مع كلّ ما يعنيه ذلك من ضيق السوق وصعوبة التوسّع في التبادل التجاري والاستثمار العابر للحدود. وكان ذلك من أسباب تعطّل مشاريع كثيرة للتكامل الاقتصادي الإقليمي مع لبنان، مثل مصفاتَي الزهراني ودير عمار اللتين كانتا تستقبلان النفط من السعودية والعراق.

سوريا صلة وصل

اليوم، مع انتهاء الحرب وسقوط الاشتراكية في سوريا، يظهر توجّه واضح لدى الحكم الجديد لتوظيف الموقع الجغرافي الاستثنائي للبلاد ليكون صلة الوصل بين الخليج وتركيا وأوروبا، في مجالات النقل واللوجستيات والطاقة والاتّصالات. وإن كان هذا يذكّر بشيءٍ فإنّما يذكّر بمشروع “الممرّ الهندي الأوروبي عبر الشرق الأوسط” (IMEC)، وهو المبادرة الاقتصادية والجيوستراتيجية التي طرحها الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في قمّة مجموعة العشرين في الهند في أيلول 2023، بهدف ربط آسيا بأوروبا عبر دول الخليج وإسرائيل من خلال شبكة من السكك الحديدية والموانئ والبنى التحتية الرقميّة والطاقة. حينذاك، كانت سوريا خارج الخرائط والمشاريع الاقتصادية الإقليمية، خلافاً لما تطمح إليه اليوم، ولما بدأت تعمل في اتّجاهه في السرّ والعلن. فعلى الرغم من أنّ هذا المسار لا يمرّ عبر الأراضي السورية حتّى الآن، فإنّ دمشق ستحاول بالتأكيد تقديم نفسها بديلاً من بعض المسارات الأكثر حساسيّة سياسيّاً، مستفيدة من التوازنات المستجدّة.

لا بد أن توضع الاتّفاقات المعلنة أو التي يجري التحضير لها في هذا الإطار. ومن مؤشرات ذلك غير الخفية أن وزارة الاتصالات السورية أعدّت رسماً توضيحياً لشبكة البنية التحتية للإنترنت والاتصالات أرسلته إلى الشركات، وفيه سبع محطات أساسية لنقل البيانات داخل سوريا، وأسهماً تشير إلى الوصل مع العراق والأردن وتركيا وأوروبا، لكن ليس ثمة سهم يشير إلى لبنان(؟)

لا شكّ أنّ الجهات التي تستند إلى العقود تشير إلى مواءمة دقيقة للتموضع الاستراتيجي الجديد لسوريا دوليّاً وإقليميّاً، فميناء اللاذقية فازت به شركة CMA-CGM الفرنسية التي يرأسها رودولف سعادة، ذو الأصول اللبنانية، والصديق القريب إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وثمّة إشارة لافتة تتمثّل في وجود مساهمة تركيّة ضخمة في الشركة الفرنسية، من خلال مجموعة يلدريم العملاقة التي تملك 24% من الأسهم، وإشارة أخرى لا تخفى في إسناد ميناء طرطوس إلى شركة إماراتيّة.

في معلومات خاصّة، تواصلت سوريا مع شركات اتّصالات خليجية وأميركية لطلب إبداء الاهتمام بشأن مشروع البنية التحتيّة للاتّصالات.

ستتّضح الصورة أكثر مع مشاريع الربط الكهربائي وأنابيب الغاز، التي يمكن أن تربط سوق الكهرباء الخليجية بأوروبا، وهذا ما يمكن أن يكتسب أهميّة استراتيجية في ظلّ سعي أوروبا إلى استيراد الطاقة الكهربائية “النظيفة” المولّدة من الطاقة المتجدّدة المتوافرة بتكلفة منخفضة في دول الخليج.

لبنان لم يخرج من أزماته..

للبنان فرص كبيرة للاستفادة من الوضع المستجدّ. فالدول المتجاورة تأتي لبعضها بازدهار متجاور. وعلى سبيل المثال لا الحصر، للبنان فرص كبيرة في حال ربط شبكة الأنابيب الممتدّة بالفعل من حمص إلى دير عمار شمال لبنان، بالشبكة السورية المرتبطة بالأردن ومصر، أو تلك التي سترتبط بتركيا، ومن ورائها أوروبا. إذ إنّها ستخفض كثيراً من تكلفة إنتاج الكهرباء في لبنان. وهناك فرصة كبيرة لانتعاش مرفأ بيروت، حتّى مع انتعاش اللاذقية وطرطوس. وعلى سبيل المقاربة لا المقارنة، في الإمارات وحدها ثلاثة مرافئ عالميّة في جبل علي وأبوظبي وخورفكان، وكلّ منها يعزّز موقع الآخر.

ليست مشكلة لبنان في أنّ سوريا خرجت من القفص الاشتراكي، بل في أنّ لبنان لم يخرج من أزماته، ولم يعد قادراً على المواكبة. القرار الاستثماري في سوريا يُتّخذ اليوم بسرعة، فيما بيروت لا تزال منشغلة بالتوزيع الطائفي لبلديّة بيروت وصلاحيّات المحافظ وكيفيّة مفاتحة “الحزب” بضرورة نزع سلاحه. ومثلما ضاعت فرصة رفيق الحريري قبل عقدين، يُخشى أن يضيع لبنان اليوم الفرصة مجدّداً.


مقالات عن

سوريا لبنان