بعثة الصندوق في لبنان: الاتفاق لا يزال مؤجّلًا

بعثة الصندوق في لبنان: الاتفاق لا يزال مؤجّلًا

image

بعثة الصندوق في لبنان: الاتفاق لا يزال مؤجّلًا
لا يعتبر صندوق النقد أن مسألة المحاسبة تدخل ضمن اختصاصه

علي نور الدين - المدن
بدأت بعثة صندوق النقد الدولي جولتها في بيروت هذا الأسبوع، على أن تستمرّ لقاءاتها لغاية يوم الخميس المقبل. كثافة الزيارات التي تقوم بها البعثة منذ تشكيل الحكومة، باتت تؤشّر بشكلٍ واضح إلى تسارع وتيرة العمل محليًا على المسارات الإصلاحيّة، التي يشترط الصندوق إنجازها قبل توقيع الاتفاق النهائي مع لبنان. كما أصبحت تدل، وبشكلٍ أوضح، على الدور الذي يلعبه الصندوق حاليًا بالنسبة للدول المانحة، كمرجعيّة يمكن الاستناد إليها لقياس تقدّم لبنان في تنفيذ الإصلاحات. بل صار من المؤكّد اليوم أن أبرز الشروط التي لا يمكن تجاوزها، قبل عقد مؤتمر المانحين المخصّص لإعادة الإعمار، هو تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد.

لا اتفاق قريب
مناخات الاجتماعات التي تقوم بها بعثة الصندوق تشير إلى أنّ الاتفاق النهائي مع لبنان لن يكون ممكنًا قبل انتهاء فصل الصيف المقبل. فبخلاف ما جرى إشاعته في بعض الأوساط، لن يكون من الممكن أن يكتفي الصندوق بإقرار قانونيّ رفع السريّة المصرفيّة وإصلاح أوضاع المصارف، للانتقال نحو مرحلة الاتفاق النهائي. مع الإشارة إلى أنّ قانون رفع السريّة المصرفيّة بات نافذًا بعد إقراره ونشره في الجريدة الرسميّة، فيما تناقش لجنة فرعيّة في البرلمان مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، المخصّص لإعادة تشكيل الهيئة المصرفيّة العليا وتحديد صلاحيّات لجنة الرقابة على المصارف، مع تحديد أصول عمليّات تصفية أو دمج أو إصلاح أوضاع المصارف.
الجزء الأهم من الصورة، الذي يفترض إكماله قبل توقيع الاتفاق النهائي، سيكون قانون الانتظام المالي، الذي سيحدّد في خلاصة الأمر كيفيّة توزيع الخسائر المصرفيّة، مع ما يرتبط بذلك من مسائل مثل حجم الودائع المضمونة. ويرى الصندوق أنّه بالإمكان منح السلطات اللبنانيّة إلى ما بعد فصل الصيف المقبل، وبالتحديد لغاية شهر أيلول، لإنجاز مناقشة وإقرار هذا القانون. ومن المعلوم أنّ وزارة الماليّة تعكف حاليًا على صياغة المسودّة الأولى من هذا المشروع، بالاتفاق مع مصرف لبنان، على أن يُحال لاحقًا للمناقشة في مجلس الوزراء. لكن في جميع الحالات، لا يرى خبراء الصندوق حاليًا أنّه من الواقعي التريّث إلى ما بعد شهر أيلول لإقرار هذا القانون، إذ ستكون البلاد قد دخلت أجواء الحملات الانتخابيّة، ما يفتح الباب أمام المزايدات الشعبويّة عند مناقشة هذا القانون في البرلمان.

إذًا، لن يكون متوقّعًا أن يحصل أي تقدّم بخصوص الاتفاق مع الصندوق في القريب العاجل، باستثناء استمرار جولات النقاش المكثّفة بخصوص قانونيّ إصلاح أوضاع المصارف والانتظام المالي. وحتّى اللحظة، لم يُطرح على بساط البحث إمكانيّة توقيع اتفاق مبدئي بين لبنان والصندوق، لتحديد شروط جديدة يمكن على أساسها الانتقال إلى الاتفاق النهائي، ما يعني الإبقاء على نفس الإطار العام للشروط التي تم وضعها سابقًا في الاتفاق المبدئي الأخير.

من ناحية أخرى، لا يمانع الصندوق اللجوء إلى الصيغة التي عملت عليها الحكومة بخصوص عمليّة إعادة الهيكلة، عبر الفصل ما بين قانونيّ إصلاح أوضاع المصارف والانتظام المالي، مع ربط تنفيذ القانون الأوّل بإقرار القانون الثاني. إذ أنّ تجربة الصندوق السابقة مع لبنان دلّت على أنّ العمل على صياغة الحل ضمن رزمة واحد سيعني تعقيد التفاوض حول مسائل مختلفة مع أطراف متعدّدة، وهو ما رجّح أخيرًا كفّة تجزئة الحل في تشريعات متدرّجة (رفع السريّة المصرفيّة، ثم إصلاح أوضاع المصارف، وبعدها الانتظام المالي).

وبالفعل، يمكن القول إنّ فكرة تجزئة الحل، على المستوى التشريعي، نجحت في نزع ألغام عديدة. إذ تمكّنت الحكومة من تمرير قانون رفع السريّة، بعد مناقشة نطاقه في المجلس النيابي، فيما يجري النقاش البرلماني حاليًا حول المسائل المتعلّقة بصلاحيّات الهيئة المصرفيّة العليا ولجنة الرقابة على المصارف، ضمن إطار مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف. وهذا ما يفصل النقاش الأكثر حساسيّة، المرتبط بتوزيع الخسائر، الذي سينتظر ظهور أولى مسودّات مشروع قانون الانتظام المالي.

المحاسبة ليست مهمّة الصندوق
في جميع النقاشات، يفضّل الصندوق فصل النقاش حول مسألة المحاسبة، عن النقاش المرتبط بإعادة هيكلة المصارف وتصحيح أوضاعها. بالنسبة للصندوق، سيقتصر نطاق صلاحيّاته على اشتراط الخطوات المطلوبة لاستعادة الانتظام، أما فتح الدفاتر وتحريك الملفّات القضائيّة والتحقيق فيها فمسألة سياديّة خارج نطاق اختصاصه. وعليه، لا يمكن لبرنامج متّفق عليه مع الصندوق أن يشترط أو يعوّل على مسارات مثل استرداد الأموال المنهوبة، إلا إذا جرى إطلاقها بشكلٍ منفصل في سياق محلّي بحت.

ومع ذلك، لا يعني ما سبق عدم إمكانيّة بناء عمليّة إعادة الهيكلة على أسس عادلة. فمن بين الأفكار الجديّة التي يجري تداولها، لتقليص حجم الفجوة أو تخفيض حجم الالتزامات، يرد مثلًا استعادة الأرباح المرتفعة أو الفوائد غير المنطقيّة، التي جرى منحها لبعض المحظيين في الفترة التي سبقت الانهيار. كما يرد أيضًا العودة إلى القروض التجاريّة التي جرى تسديدها بسعر الصرف الرسمي، أو فرض تدقيق في مصدر الودائع الكبيرة التي ستبقى في الميزانيّات المصرفيّة بعد إعادة الهيكلة. هكذا، يمكن لهذه الأفكار أن تندرج ضمن عمليّة إصلاح وضع القطاع المصرفي، بهدف تخفيض الالتزامات، غير أنّ المحاسبة في النهاية تبقى من اختصاص الدولة اللبنانيّة وحدها.

في جميع الحالات، من المفترض أن تكشف الأيّأم المقبلة الأولويّات التي ستعبّر عنها بعثة الصندوق، في سياق مناقشة قانونيّ إصلاح أوضاع المصارف والانتظام المالي، على أن يحدّد البيان الختامي –إذا صدر- تقييم البعثة لمدى تقدّم لبنان في تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها. أمّا الإشكاليّة الأهم، فستبقى التداعيات المرتقبة لتأخّر لبنان في تنفيذ هذه الإصلاحات، وخصوصًا على مستوى مساعدات إعادة الإعمار، وهو ما يفترض التسريع في مناقشتها برلمانيًا.